الملف

تأملات في الزاوية المغربية

◆ يوسف رزين

دخل‭ ‬المغرب‭ ‬أثناء‭ ‬تدهور‭ ‬الدولة‭ ‬المرينية‭ ‬في‭ ‬لجة‭ ‬من‭ ‬الاضطرابات‭ ‬شملت‭ ‬جميع‭ ‬المستويات‭. ‬فمع‭ ‬ضعف‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬صار‭ ‬المجتمع‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬صد‭ ‬الهجمات‭ ‬الإيبيرية‭ ‬والأعرابية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬كما‭ ‬انتشرت‭ ‬الفتن‭ ‬و‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭ ‬بين‭ ‬القبائل‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬ربوع‭ ‬البلاد‭. ‬اضطرابات‭ ‬بدا‭ ‬معها‭ ‬واضحا‭ ‬عجز‭ ‬مؤسسة‭ ‬المخزن‭ ‬المريني‭ ‬والوطاسي‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬بواجباته‭ ‬التأطيرية‭ ‬تجاه‭ ‬المغاربة‭. ‬فلا‭ ‬هو‭ ‬فرض‭ ‬الأمن‭ ‬والنظام‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬حماهم‭ ‬من‭ ‬المجاعات‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬الجفاف‭.‬

وهكذا‭ ‬أسقط‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الفئات‭ ‬المنتجة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬سلطة‭ ‬مركزية‭ ‬تفرض‭ ‬النظام،‭ ‬حتى‭ ‬يتمكن‭ ‬الفلاحون‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬فائضهم‭ ‬الداخلي‭ ‬و‭ ‬التجار‭ ‬من‭ ‬تسويقه‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬هي‭ ‬فترة‭ ‬اختراق‭ ‬الأعراب‭ ‬للسهول‭ ‬المغربية‭ ‬وتسيدهم‭ ‬عليها‭ ‬ولجوء‭ ‬الفلاحين‭ ‬إلى‭ ‬الجبال‭. ‬إنها‭ ‬فترة‭ ‬انهزام‭ ‬مغرب‭ ‬الحضر‭ ‬امام‭ ‬مغرب‭ ‬البدو‭.‬

وانضافت‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬بوادر‭ ‬مجيء‭ ‬السعديين‭ ‬لانتزاع‭ ‬السلطة‭ ‬من‭ ‬الوطاسيين،‭ ‬تحت‭ ‬يافطة‭ ‬مفهوم‭ ‬دولة‭ ‬الشرفاء‭ ‬المتعالية‭ ‬على‭ ‬العصبيات‭. ‬والواقع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬يلفه‭ ‬سوء‭ ‬فهم‭ ‬كبير‭. ‬فدولة‭ ‬السعديين‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متعالية‭ ‬على‭ ‬العصبيات‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭. ‬فهي‭ ‬بدورها‭ ‬اعتمدت‭ ‬على‭ ‬عصبية‭ ‬عرب‭ ‬معقل‭ ‬الأعرابية،‭ ‬وهنا‭ ‬يكمن‭ ‬الفرق‭. ‬فبخلاف‭ ‬العصبيات‭ ‬البربرية‭ ‬السابقة‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مفهوم‭ ‬المخزن‭ ‬أي‭ ‬ذلك‭ ‬الجهاز‭ ‬الإداري‭ ‬الذي‭ ‬يؤطر‭ ‬المغاربة‭ ‬لحمايتهم‭ ‬من‭ ‬تقلبات‭ ‬المناخ،‭ ‬فإنه‭ ‬مع‭ ‬الشرفاء‭ ‬السعديين‭ ‬أفرغ‭ ‬مفهوم‭ ‬المخزن‭ ‬من‭ ‬مضمونه‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬سلطة‭ ‬سياسية‭ ‬متعالية‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬ولا‭ ‬تدين‭ ‬له‭ ‬بشيء‭. ‬

بمعنى‭ ‬أن‭ ‬المخزن‭ ‬السعدي‭ ‬صار‭ ‬مخزن‭ ‬الأعراب‭ ‬لا‭ ‬مخزن‭ ‬الحضر‭. ‬فهو‭ ‬يتمثل‭ ‬دوره‭ ‬في‭ ‬جبي‭ ‬الأموال‭ ‬دون‭ ‬إعادة‭ ‬توزيعها‭ ‬على‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنه‭ ‬يستمد‭ ‬شرعيته‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬خدمته‭ ‬لهم‭ ‬وتعاقده‭ ‬معهم،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬مصدر‭ ‬خارجي‭ ‬قوامه‭ ‬النسب‭ ‬الشريف‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭.‬

لذلك‭ ‬كان‭ ‬لزاما‭ ‬على‭ ‬مغاربة‭ ‬الحضر‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬لهذا‭ ‬الوضع‭ ‬المستجد‭. ‬فوعيهم‭ ‬بدورية‭ ‬الجفاف‭ ‬وما‭ ‬يستتبعه‭ ‬من‭ ‬كوارث‭ ‬دفعهم‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬إطار‭ ‬مخزني‭ ‬جديد‭ ‬يمكنهم‭ ‬من‭ ‬توجيه‭ ‬مخزون‭ ‬فائض‭ ‬السنوات‭ ‬الخصبة‭ ‬للاستهلاك‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬القحط‭. ‬لذلك‭ ‬ومع‭ ‬نهاية‭ ‬الدولة‭ ‬المرينية‭ ‬وقيام‭ ‬الدولة‭ ‬السعدية‭ ‬فهم‭ ‬المغاربة‭ ‬أن‭ ‬نظامهم‭ ‬المخزني‭ ‬قد‭ ‬أصيب‭ ‬بالعطب‭ ‬والاحتلال‭ ‬الأعرابي‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬ممكنا‭ ‬التعويل‭ ‬عليه‭. ‬فتم‭ ‬التفكير‭ ‬إذن‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬إطار‭ ‬مخزني‭ ‬بديل‭ ‬أخذ‭ ‬اسم‭ ‬الزاوية‭. ‬فكيف‭ ‬ذلك؟


بداية،‭ ‬نشأت‭ ‬ظاهرة‭ ‬الصلحاء‭ ‬المتصوفة‭ ‬مع‭ ‬تدهور‭ ‬الدولة‭ ‬المرينية‭ ‬وصعود‭ ‬ظاهرة‭ ‬الشرف‭ ‬السياسي‭ ‬بها‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬المرينية‭ ‬رعت‭ ‬فئة‭ ‬المتصوفة‭ ‬وتقربت‭ ‬منها‭ ‬لتوازن‭ ‬بها‭ ‬فئة‭ ‬الشرفاء،‭ ‬لكن‭ ‬فئة‭ ‬الصلحاء‭ ‬اكتسبت‭ ‬مشروعيتها‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬الواقع‭ ‬المغربي‭ ‬المتردي‭ ‬والذي‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يرضي‭ ‬المغاربة‭ ‬الحضر‭. ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬لافتا‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬ظهور‭ ‬للرباطات‭/‬الزوايا‭ ‬كان‭ ‬بمناطق‭ ‬حضرية‭ ‬ساحلية‭ ‬تمثلت‭ ‬في‭ ‬سلا‭ ‬بزاوية‭ ‬ابن‭ ‬عاشر‭ ‬و‭ ‬أسفي‭ ‬برباط‭ ‬أبي‭ ‬محمد‭ ‬صالح‭.‬

و‭ ‬قد‭ ‬اشتهر‭ ‬هؤلاء‭ ‬الصلحاء‭ ‬بالتصوف‭ ‬والزهد‭ ‬وتعظيم‭ ‬الشعائر،‭ ‬فسعى‭ ‬إليهم‭ ‬المريدون‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب‭ ‬والتفوا‭ ‬حولهم،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬المؤرخ‭ ‬ابن‭ ‬قنفذ‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬افتتانه‭ ‬لكثرة‭ ‬الزهاد‭ ‬بالمغرب‭ ‬أثناء‭ ‬جولاته‭ ‬المتعددة‭ ‬به‭ ‬حيث‭ ‬قال‭: “‬وجملة‭ ‬الطوائف‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بالمغرب‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬تُنبت‭ ‬الصالحين‭ ‬كما‭ ‬تنبت‭ ‬الكلأ‭”. ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ‬الزاوية‭ ‬مشتقة‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬الانزواء‭ ‬كما‭ ‬تعني‭ ‬أيضا‭ ‬الركن،‭ ‬فهي‭ ‬إذن‭ ‬ركن‭ ‬ينزوي‭ ‬فيه‭ ‬الصالح‭ ‬للتعبد‭ ‬والتفكير‭ ‬المعمق‭ ‬في‭ ‬مشاكل‭ ‬المغرب‭ ‬المعقدة‭ ‬والخروج‭ ‬بحلول‭ ‬تأطيرية‭ ‬له‭.‬

إذن‭ ‬مع‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬السعدية‭ ‬كان‭ ‬نظام‭ ‬الزاوية‭ ‬قد‭ ‬استوى‭ ‬بدوره‭ ‬واكتمل‭ ‬بنيانه‭ ‬ممثلا‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬سيلعب‭ ‬دور‭ ‬المخزن‭ ‬البديل،‭ ‬والذي‭ ‬سيؤطر‭ ‬المغاربة‭ ‬الحضر‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬أن‭ ‬المخزن‭ ‬السعدي‭ ‬الشرفاوي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التعويل‭ ‬عليه‭. ‬فمهمة‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية‭/‬المخزن‭ ‬البديل‭ ‬هي‭ ‬تأطير‭ ‬المغاربة‭ ‬وحماية‭ ‬العملية‭ ‬الإنتاجية‭ ‬من‭ ‬تعديات‭ ‬الأعراب‭ ‬والمخزن‭ ‬الشرفاوي‭ ‬معا‭.‬

كانت‭ ‬أول‭ ‬شروط‭ ‬تأسيس‭ ‬الزاوية‭ ‬هو‭ ‬توفرها‭ ‬على‭ ‬شيخ‭ ‬مشهور‭ ‬بالصلاح‭ ‬والتقوى‭ ‬والكرامات‭ ‬والإتيان‭ ‬بالخوارق،‭ ‬والتي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬يستطيع‭ ‬إبهار‭ ‬المريدين‭ ‬والعوام‭ ‬فليتفون‭ ‬حوله،‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬يفهم‭ ‬ممثلي‭ ‬السلطة‭ ‬أن‭ ‬المساس‭ ‬به‭ ‬سيؤدي‭ ‬بهم‭ ‬إلى‭ ‬التعرض‭ ‬لخطر‭ ‬اللعنة‭. ‬إنه‭ ‬في‭ ‬هاته‭ ‬الحالة‭ ‬يصبح‭ ‬شخصا‭ ‬محصنا‭ ‬من‭ ‬الاعتداء‭ ‬عليه،‭ ‬رغم‭ ‬عدم‭ ‬توفره‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬عسكرية‭ ‬تحميه‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحصانة‭ ‬لا‭ ‬تنحصر‭ ‬في‭ ‬شخصه‭ ‬بل‭ ‬يمدها‭ ‬إلى‭ ‬زاويته‭ ‬ويكسبها‭ ‬صفة‭ “‬الحرم‭”. ‬وبهذا‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬قانون‭ ‬الكرامة‭ ‬يصبح‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬اعتدى‭ ‬على‭ ‬الشيخ‭ ‬أو‭ ‬زاويته‭ ‬معرضا‭ ‬لخطر‭ ‬اللعنة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬اشتهر‭ ‬فيه‭ ‬المغرب‭ ‬بالفوضى‭ ‬وكثرة‭ ‬الحروب‭.‬

يطرح‭ ‬الشيخ‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬مشروعه‭ ‬التأطيري‭ ‬ممثلا‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬السهول‭ ‬والجبال‭ ‬والمسالك‭ ‬التجارية،‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التحكيم‭ ‬والوساطة‭ ‬بين‭ ‬القبائل‭.‬‭ ‬وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬امتثال‭ ‬المريدين‭ ‬من‭ ‬القبائل‭ ‬المحيطة‭ ‬بالزاوية‭ ‬لتعليماتها‭ ‬يمكنهم‭ ‬من‭ ‬فلح‭ ‬الأرض‭ ‬وتنظيم‭ ‬الأسواق‭ ‬في‭ ‬أمن‭ ‬وأمان‭. ‬

و‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬الزاوية‭ ‬بهذا‭ ‬الدور‭ ‬بل‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬تنشيط‭ ‬العملية‭ ‬الإنتاجية‭ ‬وذلك‭ ‬بأن‭ ‬توفر‭ ‬لمريديها‭ ‬أدوات‭ ‬الإنتاج‭ ‬من‭ ‬بذور‭ ‬وأدوات‭ ‬فلاحة‭ ‬وبهائم‭ ‬وقروض‭ ‬وإصلاح‭ ‬منشآت‭ ‬الري‭ ‬وتوزيع‭ ‬المياه‭. ‬كما‭ ‬تقوم‭ ‬بتوفير‭ ‬مخازن‭ ‬الطعام‭ ‬تحسبا‭ ‬للمجاعات‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬سنوات‭ ‬الجفاف‭ ‬الدورية،‭ ‬والتي‭ ‬حين‭ ‬يحل‭ ‬موعدها‭ ‬تقوم‭ ‬الزاوية‭ ‬آنذاك‭ ‬بأحد‭ ‬أهم‭ ‬أدوارها‭ ‬وهو‭ ‬إطعام‭ ‬الطعام‭ ‬للجائعين‭.‬

ولأن‭ ‬المغاربة‭ ‬آنذاك‭ ‬كانوا‭ ‬تحت‭ ‬حكم‭ ‬مخزن‭ ‬شرفاوي‭ ‬لا‭ ‬يتورع‭ ‬عن‭ ‬فرض‭ ‬الجبايات‭ ‬الثقيلة،‭ ‬فإنها‭ ‬كانت‭ ‬توفر‭ ‬لهم‭ ‬الحماية‭ ‬إذا‭ ‬استجاروا‭ ‬بحرمها‭.‬‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تغفل‭ ‬عن‭ ‬واجب‭ ‬تهذيب‭ ‬المغاربة‭ ‬وتخليصهم‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬التوحش‭ ‬الذي‭ ‬تفشى‭ ‬فيهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬فعملت‭ ‬على‭ ‬تربيتهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بث‭ ‬تعاليم‭ ‬الشرع‭ ‬والإسلام‭ ‬و‭ ‬التصوف‭ ‬بينهم‭.‬

وفي‭ ‬مقابل‭ ‬هذه‭ ‬الأدوار‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تلعبها‭ ‬الزاوية،‭ ‬فإن‭ ‬مريديها‭ ‬بادلوها‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالجميل‭ ‬فحملوا‭ ‬إليها‭ ‬الصدقات‭ ‬والهبات‭ ‬والهدايا‭. ‬كما‭ ‬كانوا‭ ‬يتركون‭ ‬فيها‭ ‬ودائعهم‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬ورسوم‭ ‬لحفظها‭ ‬من‭ ‬الضياع‭.‬

و‭ ‬كدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬نستحضر‭ ‬هنا‭ ‬مثال‭ ‬زاوية‭ ‬تناغملت،‭ ‬والتي‭ ‬أسسها‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬بن‭ ‬موسى‭ ‬البوكمازي،‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬شعار‭ ‬زاويته‭ “‬رفع‭ ‬الراية‭ ‬للزائرين‭” ‬و‭ “‬إرفاق‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬المسغبة‭”‬،‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬رفع‭ ‬مسألة‭ ‬إطعام‭ ‬الطعام‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الجهاد‭. ‬وقد‭ ‬اهتم‭ ‬بشؤون‭ ‬الوساطة‭ ‬والتحكيم‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬النزاعات‭ ‬فتوافد‭ ‬عليه‭ ‬المعوزون‭ ‬والمنقطعون‭ ‬وذوو‭ ‬الحاجات‭ ‬واستحرم‭ ‬الناس‭ ‬بزاويته‭ ‬فرارا‭ ‬من‭ ‬الكلف‭ ‬المخزنية‭. ‬

كما‭ ‬أنه‭ ‬يسر‭ ‬لأتباعه‭ ‬ظروف‭ ‬إحياء‭ ‬الأرض‭ ‬وتعميرها،‭ ‬وقدم‭ ‬لهم‭ ‬الدواب‭ ‬والمواشي‭ ‬والزروع‭ ‬والزيوت‭ ‬والأكسية‭. ‬بل‭ ‬وناب‭ ‬عن‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬تسديد‭ ‬ديونهم‭. ‬كما‭ ‬استعمل‭ ‬نفوذه‭ ‬لخفارة‭ ‬المسافرين‭ ‬وتأمين‭ ‬الطرق‭ ‬التجارية‭. ‬فكان‭ ‬بذلك‭ ‬أن‭ ‬توفر‭ ‬الأمن‭ ‬للناس‭ ‬واتسعت‭ ‬حركة‭ ‬الاستقرار‭ ‬وازدهرت‭ ‬المبادلات‭ ‬التجارية‭.‬

و‭ ‬نجد‭ ‬عند‭ ‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬الشاوي‭ ‬مثلا‭ ‬آخر‭ ‬اضطلعت‭ ‬به‭ ‬الزاوية‭ ‬وهو‭ ‬إنجاز‭ ‬مشاريع‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬لصالح‭ ‬الناس،‭ ‬حيث‭ ‬كرس‭ ‬ثراءه‭ ‬لبناء‭ ‬قنطرة‭ ‬ابن‭ ‬طاطو‭ ‬بفاس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حطمها‭ ‬السيل‭. ‬كما‭ ‬أصلح‭ ‬قنوات‭ ‬مياه‭ ‬جامع‭ ‬الاندلس‭ ‬بتكاليف‭ ‬بلغت‭ ‬سبعة‭ ‬آلاف‭ ‬أوقية‭. ‬و‭ ‬قامت‭ ‬زاوية‭ ‬تمصلوحت‭ ‬بإنشاء‭ ‬شبكة‭ ‬ري‭ ‬جديدة‭ ‬بتلكرت‭ ‬وتكفلت‭ ‬بتوزيع‭ ‬المياه‭ ‬على‭ ‬السكان‭.‬

إذن‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الزاوية‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬مهمتها‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬تأطير‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬باعتبارها‭ ‬مخزنا‭ ‬بديلا‭ ‬يستطيعون‭ ‬الاعتماد‭ ‬عليه‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬الزاوية‭ ‬حلا‭ ‬لجأ‭ ‬اليه‭ ‬المغاربة‭ ‬لحماية‭ ‬العملية‭ ‬الانتاجية‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬سادت‭ ‬فيه‭ ‬فوضى‭ ‬الأعراب،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إضفاء‭ ‬هالة‭ ‬القداسة‭ ‬والكرامة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭. ‬لذلك‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬الصلحاء‭ ‬استهدفوا‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬المناطق‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬السهول‭ ‬والجبال‭ ‬لتأسيس‭ ‬زواياهم،‭ ‬بحكم‭ ‬أنها‭ ‬مناطق‭ ‬يكثر‭ ‬فيها‭ ‬الاحتكاك‭ ‬بين‭ ‬الرحل‭ ‬والمستقرين‭. ‬فيتدخلون‭ ‬بإمكانياتهم‭ ‬التحكيمية‭ ‬لفض‭ ‬النزاعات‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭.‬

ولأن‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفلاحي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬تسويق‭ ‬فقد‭ ‬اهتموا‭ ‬بتنظيم‭ ‬المواسم‭ ‬الدينية،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬أسواق‭ ‬يعرض‭ ‬فيها‭ ‬الباعة‭ ‬سلعهم‭ ‬دون‭ ‬خوفا‭ ‬من‭ ‬تعديات‭ ‬الأعراب‭. ‬ولأن‭ ‬هذه‭ ‬الأسواق‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬سبل‭ ‬آمنة‭ ‬فقد‭ ‬حرص‭ ‬أتباع‭ ‬الزوايا‭ ‬على‭ ‬تأمين‭ ‬الشبكات‭ ‬الطرقية‭ ‬وفرضوا‭ ‬وجودهم‭ ‬بمختلف‭ ‬المرافئ‭ ‬التجارية‭ ‬ومحطات‭ ‬العبور‭ ‬كأغمات‭ ‬وأزمور‭ ‬وتارودانت‭ ‬وأسفي‭ ‬وصفرو‭ ‬ومراكش‭ ‬وتادلة‭ ‬وسبتة‭.‬

و‭ ‬تبعا‭ ‬لهذا‭ ‬النجاح‭ ‬الذي‭ ‬حققته‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬تأطير‭ ‬المغاربة‭ ‬وإدارة‭ ‬شؤونهم‭ ‬وحماية‭ ‬أنشطتهم‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬فإنها‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تتحرر‭ ‬من‭ ‬إطارها‭ ‬القبلي‭ ‬أو‭ ‬الجهوي،‭ ‬لتحلق‭ ‬خارج‭ ‬هذه‭ ‬الحدود‭ ‬الجغرافية‭ ‬المفترضة‭. ‬إن‭ ‬الزاوية‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬القبيلة‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬تظل‭ ‬حبيسة‭ ‬أسوارها‭. ‬إن‭ ‬مشروع‭ ‬الزاوية‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬تأطير‭ ‬قبيلة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬لف‭ ‬من‭ ‬القبائل‭. ‬إن‭ ‬مشروعها‭ ‬هو‭ ‬تأطير‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأتباع‭ ‬أينما‭ ‬كانوا‭ ‬داخل‭ ‬المغرب‭ ‬أو‭ ‬خارجه‭.‬

ولذلك‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬إشعاعها‭ ‬امتد‭ ‬إلى‭ ‬الحجاز‭ ‬شرقا‭ ‬وإفريقيا‭ ‬جنوب‭ ‬الصحراء‭ ‬جنوبا‭. ‬فهذه‭ ‬زاوية‭ ‬تمجروت‭ ‬بجنوب‭ ‬المغرب‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تنشر‭ ‬فروعها‭ ‬في‭ ‬جل‭ ‬مناطق‭ ‬المغرب‭ ‬وخارجه‭ ‬حتى‭ ‬بلغت‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬فرع‭. ‬أما‭ ‬الزاوية‭ ‬الدرقاوية‭ ‬فقد‭ ‬حمل‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬حمزة‭ ‬المدني‭ ‬سنة‭ ‬1820‭ ‬إلى‭ ‬طرابلس‭ ‬تعاليمها‭ ‬وأسس‭ ‬فرعا‭ ‬لها‭ ‬ب‭ “‬مسراتة‭” ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬الطريقة‭ ‬المدنية،‭ ‬والتي‭ ‬امتد‭ ‬إشعاعها‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬ومصر‭ ‬والحجاز‭. ‬وكما‭ ‬يعلم‭ ‬الكثير‭ ‬فقد‭ ‬استطاعت‭ ‬الزاوية‭ ‬التيجانية‭ ‬بث‭ ‬إشعاعها‭ ‬إلى‭ ‬أعماق‭ ‬إفريقيا‭ ‬جنوب‭ ‬الصحراء‭.‬

وكأن‭ ‬الزاوية‭ ‬المغربية‭ ‬بهذا‭ ‬الإشعاع‭ ‬والانتشار‭ ‬الواسع‭ ‬لأتباعها‭ ‬شرقا‭ ‬وجنوبا‭ ‬تخبرنا‭ ‬بأنها‭ ‬ترفض‭ ‬الاعتراف‭ ‬بواقع‭ ‬التقسيم‭ ‬و‭ ‬التجزيء‭ ‬لأرض‭ ‬المغارب،‭ ‬والذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬غداة‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬الموحدية‭. ‬إن‭ ‬المتأمل‭ ‬في‭ ‬ظاهرة‭ ‬الزاوية‭ ‬المغربية‭ ‬و‭ ‬سلوكات‭ ‬أتباعها‭ ‬يستشعر‭ ‬وكأنها‭ ‬كانت‭ ‬حنينا‭ ‬لعصر‭ ‬الدولة‭ ‬الموحدية‭ ‬ومخزنها‭. ‬وكأن‭ ‬الزاوية‭ ‬بكل‭ ‬الأدوار‭ ‬التي‭ ‬لعبتها‭ ‬كانت‭ ‬تحاول‭ ‬إحياء‭ ‬العصر‭ ‬الموحدي‭ ‬بتوحيده‭ ‬لأرض‭ ‬المغارب‭ ‬ومخزنه‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬رعيته‭.‬

يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬إذن،‭ ‬ما‭ ‬موقف‭ ‬المخزن‭ ‬الشرفاوي‭ (‬السعدي‭ ‬والعلوي‭) ‬من‭ ‬الزاوية‭ ‬و‭ ‬أدوارها‭ ‬التأطيرية‭ ‬وكيف‭ ‬كانت‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين؟‭. ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعايش‭ ‬الحذر‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬المد‭ ‬والجزر‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يخل‭ ‬من‭ ‬مواجهات‭ ‬مفتوحة‭. ‬لكن‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬من‭ ‬الطرفين‭ ‬استطاع‭ ‬إلغاء‭ ‬وجود‭ ‬الآخر‭. ‬فكيف‭ ‬ذلك؟

بنت‭ ‬الزاوية‭ ‬مشروعيتها‭ ‬على‭ ‬المقاومة‭ ‬السياسية‭ ‬للمخزن‭ ‬الشرفاوي‭. ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬ذلك‭ ‬الدرع‭ ‬الذي‭ ‬يحتمي‭ ‬به‭ ‬المغاربة‭ ‬من‭ ‬تعديات‭ ‬هذا‭ ‬المخزن‭.‬‭ ‬لذلك‭ ‬فإنها‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تعترف‭ ‬بوجوده،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬رفضت‭ ‬أن‭ ‬تتماهى‭ ‬معه،‭ ‬ووضعت‭ ‬مسافة‭ ‬فاصلة‭ ‬بينها‭ ‬وبينه‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬المخزن‭ ‬الشرفاوي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يقبل‭ ‬بأقل‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬الكاملة‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬دأب‭ ‬شيوخ‭ ‬الزوايا‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬الاختلاط‭ ‬بالسلاطين‭ ‬والتردد‭ ‬عليهم‭. ‬و‭ ‬اتخذوا‭ ‬لذلك‭ ‬أعذارا‭ ‬شتى‭. ‬فهذا‭ ‬أبو‭ ‬المحاسن‭ ‬الفاسي‭ ‬شيخ‭ ‬الزاوية‭ ‬الفاسية‭ ‬يرفض‭ ‬لقاء‭ ‬أحمد‭ ‬المنصور‭ ‬السعدي،‭ ‬بدعوى‭ ‬كبر‭ ‬سنه‭ ‬وكذلك‭ ‬فعل‭ ‬الشيخ‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬زعيم‭ ‬الزاوية‭ ‬المخفية‭ ‬حيث‭ ‬رفض‭ ‬ملاقاة‭ ‬السلطان‭ ‬المولى‭ ‬إسماعيل‭.‬

كما‭ ‬لجأ‭ ‬شيوخ‭ ‬الزوايا‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬إعلان‭ ‬استقلاليتهم‭ ‬عن‭ ‬المخزن،‭ ‬وهو‭ ‬رفض‭ ‬الدعاء‭ ‬للسلطان‭ ‬على‭ ‬المنابر‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬بدعوى‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬بدعة‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أغضب‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬السلاطين‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الشيوخ‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬الجرأة‭ ‬لإعلان‭ ‬هذا‭ ‬الموقف،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنهم‭ ‬يمثلون‭ ‬المقاومة‭ ‬السياسية‭ ‬للمخزن‭. ‬وكمثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬نجد‭ ‬المصادر‭ ‬تصف‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬ناصر‭ ‬زعيم‭ ‬زاوية‭ ‬تمجروت‭ ‬ب‭ “‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الأمر‭ ‬بالمعروف‭ ‬و‭ ‬النهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر‭ ‬ولا‭ ‬يخاف‭ ‬في‭ ‬الله‭ ‬لومة‭ ‬لائم‭ ‬ولا‭ ‬يرى‭ ‬واقفا‭ ‬بباب‭ ‬ملك‭ ‬من‭ ‬الملوك‭ ‬ولم‭ ‬يخطب‭ ‬لملك‭ ‬قط‭”.‬

وانسجاما‭ ‬مع‭ ‬خطه‭ ‬المعارض،‭ ‬خاطب‭ ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬المولى‭ ‬رشيد‭ ‬المعروف‭ ‬بشراسته‭ ‬مع‭ ‬الزوايا‭ ‬قائلا‭: “‬وأوصيك‭ ‬إذا‭ ‬أمكنك‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أرضه‭ ‬وولاك‭ ‬أمر‭ ‬عباده‭ ‬أن‭ ‬توقظ‭ ‬قلبك‭ ‬لنشر‭ ‬العدل‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬وإحياء‭ ‬ما‭ ‬اندرس‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬النبي‭ ‬ومحو‭ ‬كل‭ ‬بدعة‭ ‬ضلالة‭ ‬أحدثها‭ ‬جور‭ ‬الأمراء‭ ‬قبلك‭”. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬دفع‭ ‬بمعارضته‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬حد‭ ‬بأن‭ ‬سلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬أصل‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬الزوايا‭ ‬والمخزن‭ ‬الشرفاوي‭ ‬فبين‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬النسب‭ ‬الشريف‭ ‬لا‭ ‬يمنح‭ ‬أية‭ ‬شرعية‭ ‬للسلطان‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬لا‭ ‬يرعى‭ ‬مصالح‭ ‬المغاربة‭ ‬وذلك‭ ‬بأن‭ ‬خاطبه‭ ‬قائلا‭: “‬و‭ ‬لا‭ ‬يغرنك‭ ‬أنك‭ ‬شريف،‭ ‬فإن‭ ‬الشرف‭ ‬لا‭ ‬يزيدك‭ ‬إلا‭ ‬تأكيد‭ ‬وجوب‭ ‬طاعة‭ ‬الله‭ ‬عليك‭”‬‭.‬

وطبعا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬للمولى‭ ‬رشيد‭ ‬أن‭ ‬يتحمل‭ ‬مثل‭ ‬هاته‭ ‬المعارضة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬شيخ‭ ‬زاوية‭ ‬تمجروت،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬و‭ ‬أن‭ ‬دمر‭ ‬الزاوية‭ ‬الدلائية‭. ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬إليه‭ ‬كتابا‭ ‬شديد‭ ‬اللهجة‭ ‬يأمره‭ ‬فيه‭ ‬بالمثول‭ ‬بين‭ ‬يديه،‭ ‬مهددا‭ ‬إياه‭ ‬بأوخم‭ ‬العواقب‭ ‬إن‭ ‬رفض‭ ‬القدوم‭. ‬لكن‭ ‬الشيخ‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬استخف‭ ‬بتهديداته‭ ‬وتجاهلها‭. ‬فقرر‭ ‬المولى‭ ‬رشيد‭ ‬التوجه‭ ‬إليه‭ ‬بجيشه‭ ‬في‭ ‬درعة‭ ‬لمعاقبته،‭ ‬لكن‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬توفي‭ ‬السلطان‭ ‬وسلم‭ ‬الشيخ‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬زكى‭ ‬كرامته‭ ‬لدى‭ ‬أتباعه‭.‬

ولم‭ ‬يقف‭ ‬هذا‭ ‬الشيخ‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يستغل‭ ‬نفوذه‭ ‬الروحي‭ ‬لمنع‭ ‬ممثلي‭ ‬السلطة‭ ‬من‭ ‬تنفيذ‭ ‬تعليمات‭ ‬السلطان،‭ ‬ويحذرهم‭ ‬من‭ ‬انتهاك‭ ‬حرمة‭ ‬الزوايا‭. ‬و‭ ‬هنا‭ ‬يتبدى‭ ‬لنا‭ ‬دور‭ ‬آخر‭ ‬للزوايا‭ ‬وهو‭ ‬حماية‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬عمال‭ ‬المخزن،‭ ‬مستغلة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مبدأ‭ “‬الحرم‭” ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬ممثلو‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬يجرؤون‭ ‬على‭ ‬المساس‭ ‬به‭. ‬وكمثال‭ ‬آخر‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬استحرموا‭ ‬بزاوية‭ ‬تناغملت‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الشدة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أنهكتهم‭ ‬الجبايات‭ ‬الثقيلة‭ ‬التي‭ ‬فرضها‭ ‬عليهم‭ ‬ممثلو‭ ‬السلطان‭. ‬وبطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬للمخزن‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬بهكذا‭ ‬معارضة،‭ ‬لذلك‭ ‬فقد‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬لها‭ ‬فتراوحت‭ ‬سياسته‭ ‬تجاه‭ ‬الزوايا‭ ‬بين‭ ‬القمع‭ ‬والاحتواء‭ ‬والمواجهة‭ ‬المفتوحة‭.‬

يوضح‭ ‬الباحث‭ ‬محمد‭ ‬جادور‭ ‬أن‭ ‬المخزن‭ ‬كان‭ ‬يراقب‭ ‬عن‭ ‬كثب‭ ‬تنامي‭ ‬ثروات‭ ‬الزوايا‭ ‬وتضاعف‭ ‬أتباعها،‭ ‬لذلك‭ ‬وضع‭ ‬لها‭ ‬حدودا‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تتجاوزها‭. ‬ولهذا‭ ‬حذر‭ ‬أبو‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬رضوان‭ ‬الشيخ‭ ‬أبا‭ ‬المحاسن‭ ‬الفاسي،‭ ‬حينما‭ ‬لاحظ‭ ‬ازدحام‭ ‬المريدين‭ ‬على‭ ‬زاويته‭ ‬قائلا‭: “‬يا‭ ‬سيدي‭ ‬إن‭ ‬موالينا‭ ‬الشرفاء،‭ ‬يعني‭ ‬ملوك‭ ‬الوقت،‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬نفوسهم‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭”. ‬كما‭ ‬اتخذ‭ ‬أحمد‭ ‬المنصور‭ ‬إجراءات‭ ‬عقابية‭ ‬ضد‭ ‬زعيم‭ ‬أبي‭ ‬الجعد‭ ‬الشيخ‭ ‬الشرفي‭ ‬لما‭ ‬بلغه‭ ‬أنه‭ ‬مد‭ ‬نفوذ‭ ‬زاويته‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬تادلا‭ ‬إلى‭ ‬تامسنا‭.‬

ومنع‭ ‬المولى‭ ‬إسماعيل‭ ‬زعيم‭ ‬الزاوية‭ ‬الناصرية‭ ‬من‭ ‬أداء‭ ‬الحج‭ ‬لموسمين‭ ‬متتاليين‭ ‬بسبب‭ ‬رفضه‭ ‬ذكر‭ ‬اسم‭ ‬السلطان‭ ‬على‭ ‬المنابر‭. ‬ونجد‭ ‬باشا‭ ‬مراكش‭ ‬بعد‭ ‬تخريب‭ ‬زاوية‭ ‬تسافت‭ ‬ينصح‭ ‬زعيمها‭ ‬بأن‭ ‬لا‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬الغوغاء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬تحتهم‭ ‬ولا‭ ‬يقدرون‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬أرواحهم‭. ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬وعاه‭ ‬الشيخ‭ ‬جيدا‭ ‬فبادر‭ ‬إلى‭ ‬إعلان‭ ‬الطاعة‭ ‬وأعقبه‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬المخزن‭ ‬إصدار‭ ‬ثلاثة‭ ‬ظهائر‭ ‬توقير‭ ‬واحترام‭ ‬لزاويته،‭ ‬تفوض‭ ‬لها‭ ‬استغلال‭ ‬منجم‭ ‬ملح‭ ‬وترخص‭ ‬لإعادة‭ ‬بناءها‭. ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المخزن‭ ‬كان‭ ‬يستعمل‭ ‬سياسة‭ ‬العصا‭ ‬والجزرة‭ ‬لتدجين‭ ‬الزوايا‭ ‬المعارضة‭ ‬له‭ ‬وضمها‭ ‬إلى‭ ‬صفه‭ ‬وقد‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬منها‭.‬

لم‭ ‬يكتف‭ ‬المخزن‭ ‬إذن‭ ‬بالقمع‭ ‬بل‭ ‬لوح‭ ‬بجزرة‭ ‬الاحتواء،‭ ‬وقد‭ ‬أخذت‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬عدة‭ ‬أشكال‭. ‬فنجد‭ ‬أنه‭ ‬منح‭ ‬شيوخ‭ ‬الزوايا‭ ‬ظهائر‭ ‬التوقير‭ ‬والاحترام‭ ‬وأعفى‭ ‬زواياهم‭ ‬من‭ ‬الضرائب‭ ‬والتكاليف‭ ‬ومنحهم‭ ‬إقطاعات‭ ‬أو‭ ‬عزايب‭. ‬وتابع‭ ‬اختراقه‭ ‬للزوايا‭ ‬بأن‭ ‬أشرف‭ ‬على‭ ‬تنصيب‭ ‬شيوخها‭ ‬لينتهي‭ ‬باستتباعها‭ ‬بشكل‭ ‬كامل،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنصيب‭ ‬شيوخها‭ ‬قوادا‭ ‬له‭.‬

بيد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬شقها‭ ‬القمعي‭ ‬أو‭ ‬الاحتوائي‭ ‬لم‭ ‬تفلح‭ ‬في‭ ‬تدجين‭ ‬كل‭ ‬الزوايا‭ ‬وتحييد‭ ‬معارضتها‭ ‬للمخزن‭. ‬لقد‭ ‬ظلت‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬بين‭ ‬أخذ‭ ‬ورد،‭ ‬ومد‭ ‬وجزر،‭ ‬حتى‭ ‬انفجرت‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬المولى‭ ‬سليمان‭ ‬الذي‭ ‬اختار‭ ‬المواجهة‭ ‬المفتوحة‭ ‬مع‭ ‬الزوايا‭ ‬بغية‭ ‬استئصالها‭ ‬بالمرة،‭ ‬حيث‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬العهد‭ ‬نهاية‭ ‬التعايش‭ ‬الحذر‭ ‬واندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬الشاملة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭.‬

اتخذت‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬أولا‭ ‬شكل‭ ‬الحرب‭ ‬الإيديولوجية‭. ‬فالمولى‭ ‬سليمان‭ ‬وفاء‭ ‬منه‭ ‬لأصوله‭ ‬الأعرابية،‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬استقدام‭ ‬المذهب‭ ‬الوهابي‭ ‬من‭ ‬الحجاز‭ ‬وإحلاله‭ ‬بالمغرب،‭ ‬معتبرا‭ ‬عدم‭ ‬شرعية‭ ‬الزوايا‭ ‬بسبب‭ ‬اتباعها‭ ‬للعرف‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الشرع‭. ‬وقد‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬موقفه‭ ‬المناهض‭ ‬للعرف‭ ‬الذي‭ ‬تستند‭ ‬عليه‭ ‬الزوايا‭ ‬بالقول‭: “‬فمن‭ ‬المنقول‭ ‬على‭ ‬الملل‭ ‬والمشهور‭ ‬في‭ ‬الأواخر‭ ‬والأوائل‭ ‬أن‭ ‬المناكر‭ ‬والبدع‭ ‬إذا‭ ‬فشت‭ ‬في‭ ‬قوم‭ ‬أحاط‭ ‬بهم‭ ‬سوء‭ ‬كسبهم‭… ‬ووقعت‭ ‬فيهم‭ ‬المثلات‭ ‬وشحت‭ ‬السماء‭ ‬وغيض‭ ‬الماء‭ ‬واستولت‭ ‬الأعداء‭… ‬وانتشر‭ ‬الداء‭ ‬وجفت‭ ‬الضروع‭ ‬ونقصت‭ ‬بركة‭ ‬الزروع‭. ‬إن‭ ‬سوء‭ ‬الأدب‭ ‬مع‭ ‬الله‭ ‬يفتح‭ ‬أبواب‭ ‬الشدائد‭ ‬و‭ ‬يسد‭ ‬طريق‭ ‬الفوائد‭”.‬

وجلي‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬المولى‭ ‬سليمان‭ ‬يعزف‭ ‬على‭ ‬وتر‭ ‬خوف‭ ‬المغاربة‭ ‬من‭ ‬الجفاف،‭ ‬وما‭ ‬يترتب‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬وخيمة‭ ‬كالجوع‭ ‬والطاعون‭ ‬والحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬و‭ ‬يربط‭ ‬ذلك‭ ‬بإتباع‭ ‬المغاربة‭ ‬للزوايا‭ ‬وبدعهم‭ ‬الممثلة‭ ‬في‭ ‬العرف‭. ‬وكأنه‭ ‬هنا‭ ‬يحاجج‭ ‬الزوايا‭ ‬بأنها‭ ‬سبب‭ ‬الجفاف‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬واقيا‭ ‬منه‭.‬

أما‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المادي‭ ‬فقد‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬حرمان‭ ‬الزوايا‭ ‬من‭ ‬مواردها‭ ‬المالية،‭ ‬فمنع‭ ‬عنها‭ ‬الامتيازات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتمتع‭ ‬بها‭. ‬بل‭ ‬وصل‭ ‬به‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬حرمانها‭ ‬من‭ ‬إقامة‭ ‬المواسم‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬تمثله‭ ‬من‭ ‬أساس‭ ‬اقتصادي‭ ‬تعتمد‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬تصريف‭ ‬منتجاتها‭.‬

كان‭ ‬لهذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬المخزنية‭ ‬أن‭ ‬دفعت‭ ‬بالطرفين‭ ‬الى‭ ‬المواجهة‭ ‬العسكرية‭ ‬الشاملة‭ ‬حيث‭ ‬ثار‭ ‬مولاي‭ ‬العربي‭ ‬وأتباعه‭ ‬على‭ ‬السلطان‭ ‬سليمان‭ ‬وكبدوه‭ ‬الهزائم‭ ‬المتتالية‭. ‬كما‭ ‬أسروه‭ ‬سنة‭ ‬1818‭ ‬لعدة‭ ‬أيام‭ ‬بعد‭ ‬هزم‭ ‬جيشه‭ ‬و‭ ‬قتل‭ ‬ابنه‭ ‬المولى‭ ‬ابراهيم‭. ‬وفي‭ ‬سنة‭ ‬1819‭ ‬حاصر‭ ‬بوبكر‭ ‬امهاوش‭ ‬مناصر‭ ‬زاوية‭ ‬درقاوة‭ ‬مكناس‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1820‭ ‬فقد‭ ‬اتفق‭ ‬مولاي‭ ‬العربي‭ ‬الدرقاوي‭ ‬و‭ ‬الحاج‭ ‬العربي‭ ‬الوزاني‭ ‬وأعيان‭ ‬فاس‭ ‬على‭ ‬خلع‭ ‬السلطان‭ ‬سليمان‭ ‬وتنصيب‭ ‬ابن‭ ‬أخيه‭ ‬المولى‭ ‬ابراهيم‭ ‬بن‭ ‬يزيد‭ ‬خلفا‭ ‬له‭ ‬ووقعوا‭ ‬وثيقة‭ ‬بذلك‭.‬

نستخلص‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬الزاوية‭ ‬والمخزن‭ ‬الشرفاوي‭ ‬كيانان‭ ‬سياسيان‭ ‬متناقضان،‭ ‬فرضت‭ ‬عليهما‭ ‬الظروف‭ ‬التعايش‭. ‬فلا‭ ‬المخزن‭ ‬أزال‭ ‬الزاوية‭ ‬ولا‭ ‬هي‭ ‬أزالته‭. ‬فكلاهما‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬التعايش‭ ‬الحذر‭ ‬والصعب،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬كان‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬نفي‭ ‬الآخر‭. ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الزاوية‭ ‬جرى‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬كيان‭ ‬سياسي‭ ‬من‭ ‬شباب‭ ‬وهرم‭. ‬فمنها‭ ‬من‭ ‬عرف‭ ‬صراعات‭ ‬بين‭ ‬شيوخها‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تطلب‭ ‬وساطة‭ ‬المخزن‭ ‬وتخضع‭ ‬لشروطه‭ ‬وترتمي‭ ‬في‭ ‬أحضانه‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬أفقدها‭ ‬مصداقيتها‭ ‬لدى‭ ‬الإتباع،‭ ‬ومنها‭ ‬من‭ ‬لجأ‭ ‬إلى‭ ‬طلب‭ ‬الحماية‭ ‬القنصلية‭ ‬هربا‭ ‬من‭ ‬مضايقات‭ ‬المخزن،‭ ‬ومنها‭ ‬من‭ ‬تعاون‭ ‬مع‭ ‬الاستعمار،‭ ‬ومنها‭ ‬طبعا‭ ‬من‭ ‬قاومه‭ ‬ولم‭ ‬يعترف‭ ‬بسلطة‭ ‬الحماية‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬جميعها‭ ‬خفت‭ ‬بريقها‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬لتؤول‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬الى‭ ‬مؤسسة‭ ‬فلكلورية‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬الطابع‭ ‬الاحتفالي‭ ‬والتراثي‭.‬

ختاما‭ ‬نقول‭ ‬إنه‭ ‬من‭ ‬السهل‭ ‬إلصاق‭ ‬الصفات‭ ‬السلبية‭ ‬بالزوايا‭ ‬نظرا‭ ‬لما‭ ‬آلت‭ ‬إليه‭ ‬حاليا‭. ‬فينظر‭ ‬إليها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬أداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬السلطة‭ ‬لتجهيل‭ ‬الناس‭ ‬وشدهم‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬وإلهاءهم‭ ‬عن‭ ‬قضاياهم‭ ‬الحقيقية‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬تسرع‭ ‬كبير‭ ‬ويغمض‭ ‬العين‭ ‬عن‭ ‬الأدوار‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬لعبتها‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬وحفظ‭ ‬كيانه‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬الزاوية‭ ‬نتاج‭ ‬أزمة‭ ‬خانقة‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬المجتمع،‭ ‬وحينما‭ ‬انتفت‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬انتفت‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭. ‬لكن‭ ‬الإنسان‭ ‬المغربي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬لم‭ ‬ينسها‭ ‬أو‭ ‬يتنكر‭ ‬لها،‭ ‬بل‭ ‬ظل‭ ‬مرتبطا‭ ‬بها‭ ‬وإن‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬فلكلوري‭ ‬احتفالي،‭ ‬معبرا‭ ‬عن‭ ‬امتنانه‭ ‬لمربيته‭ ‬التي‭ ‬رعته‭ ‬طوال‭ ‬الخمسة‭ ‬قرون‭ ‬الماضية‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى