الملف

تقديم ملف العدد 333: الزوايا بالمغرب.. صناعة الولاء

قبل‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬صلب‭ ‬الملف،‭ ‬ستستعرض‭ ‬جريدة‭ ‬الطريق‭ ‬أهم‭ ‬المراحل‭ ‬التاريخية‭ ‬لنشوء‭ ‬الزاوية‭ ‬وأنواعها،‭ ‬كمدخل‭ ‬أساسي‭ ‬لفهم‭ ‬ذلك‭ ‬الارتباط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة‭ ‬والزوايا،‭ ‬إن‭ ‬الزاوية‭ ‬عند‭ ‬المتصوفة‭ ‬موضع‭ ‬معد‭ ‬للعبادة‭ ‬والإيواء‭ ‬وإطعام‭ ‬الواردين‭ ‬والقاصدين،‭ ‬والمحتاجين‭ ‬والمجاهدين‭ ‬وطلبة‭ ‬العلم‭.‬

وتعرف‭ ‬بأنها‭ ‬مدرسة‭ ‬دينية‭ ‬ودار‭ ‬مجانية‭ ‬للضيافة‭ ‬تشبه‭ ‬كثيرا‭ ‬الدير‭ ‬المسيحي‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى،‭ ‬وهي‭ ‬بهذه‭ ‬الصفة،‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬بالخوانق‭ ‬أو‭ ‬الخانقات‭[‬جمع‭ :‬الخانقاه‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬فارسية‭]‬‭ ‬في‭ ‬المشرق‭. ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يتداخل‭ ‬مدلول‭ ‬اصطلاح‭ ‬ومضمون‭ “‬الزاوية‭” ‬مع‭ ‬اصطلاح‭ “‬الرباط‭”‬،‭ ‬لتقاطع‭ ‬وتداخل‭ ‬أدوارهما‭ ‬الجهادية‭ ‬والتعبدية‭ ‬والإيوائية‭.‬

كما‭ ‬كانت‭ ‬الزاوية‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مدرسة‭ ‬قرآنية،‭ ‬وتنتشر‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب‭ ‬العربي‭ ‬وغرب‭ ‬أفريقيا،‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬بركة‭ ‬صغيرة‭ ‬ونافورة‭ ‬ماء،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬المدارس‭ ‬هي‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬سبل‭ ‬تعليم‭ ‬الأمور‭ ‬الدينية‭ ‬وبعض‭ ‬العلوم‭ ‬الأدبية،‭ ‬والتعليم‭ ‬فيها‭ ‬يتم‭ ‬بطريقة‭ ‬القراءة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الشيخ‭. ‬وترتبط‭ ‬بالصوفية‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭.‬

ظهرت‭ ‬الزوايا‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب‭ ‬بعد‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬الهجري،‭ ‬وكانت‭ ‬تسمى‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬بـ‭ “‬دار‭ ‬الكرامة‭”‬،‭ ‬والزاوية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬مصطلح‭ ‬خاص‭ ‬بالمغاربة،‭ ‬يقابله‭ ‬لدى‭ ‬المشارقة‭ “‬التكية‭”‬،‭ ‬ويقصد‭ ‬بها‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬ينزوي‭ ‬فيه‭ ‬المريدون‭ ‬بحضرة‭ ‬مشايخ‭ ‬التصوف‭ ‬لأجل‭ ‬تنقية‭ ‬النفس‭ ‬وتهذيب‭ ‬السلوك‭”.”‬

وقد‭ ‬عرفت‭ ‬انتعاشا‭ ‬وتطورا‭ ‬كبيرين‭ ‬في‭ ‬المدلول‭ ‬والوظائف‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬العاشر‭ ‬الهجري،‭ ‬حيث‭ ‬شهد‭ ‬هذا‭ ‬القرن‭ ‬امتداد‭ ‬أطماع‭ ‬النصارى‭ ‬إلى‭ ‬الثغور‭ ‬المغربية‭ ‬بعد‭ ‬تغلبهم‭ ‬على‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬الأندلس‭.‬

فالمغرب‭ ‬ومنذ‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬عرف‭ ‬توسع‭ ‬الفكر‭ ‬التصوفي‭ ‬الذي‭ ‬توج‭ ‬بظهور‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الزوايا‭ ‬التي‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تلعبه‭ ‬من‭ ‬أدوار‭ ‬اجتماعية‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬أدوار‭ ‬سياسية،‭ ‬كالتحكيم‭ ‬والبث‭ ‬في‭ ‬النزاعات‭ ‬بين‭ ‬القبائل،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬فعال‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬لواء‭ ‬الجهاد،‭ ‬ضد‭ ‬الغزو‭ ‬الأيبيري‭ ‬الذي‭ ‬اكتسح‭ ‬معظم‭ ‬السواحل‭ ‬المغربية،‭ ‬وذلك‭ ‬بتوعية‭ ‬وتعبئة‭ ‬الناس‭ ‬للجهاد‭ ‬ضد‭ ‬العدو‭ ‬المسيحي،‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬وحدة‭ ‬الوطن‭ ‬وحماية‭ ‬للمعتقدات‭ ‬الدينية‭ ‬الإسلامية‭.‬

وقد‭ ‬ظهر‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التمازج‭ ‬بين‭ ‬الفقه‭ ‬والأفكار‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بالظهور‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬حول‭ ‬التصوف،‭ ‬والناتجة‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬الرباط‭ ‬المعتمدة‭ ‬على‭ ‬الزهد‭ ‬والانعزالية‭ ‬ومفاهيم‭ ‬الجهاد‭ ‬والتضحية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬نشر‭ ‬الدين‭. ‬والملاحظ‭ ‬أن‭ ‬المؤرخين‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬يميزون‭ ‬في‭ ‬الاستعمال‭ ‬بين‭ ‬الرباط‭ ‬والزاوية،‭ ‬فقد‭ ‬يطلق‭ ‬المصطلحان‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ “‬الرباط‭ ‬والزواية”،‭ ‬إن‭ ‬إطلاق‭ ‬الرباط‭ ‬على‭ ‬الزاوية‭ ‬والعكس‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬للميلاد‭ ‬وذلك‭ ‬اعتبارا‭ ‬لتداخل‭ ‬الوظائف،‭ ‬فيحدد‭ ‬الإطلاق‭ ‬بتغليب‭ ‬أحدهما‭ ‬على‭ ‬الآخر‭.‬

يعد‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أكبر‭ ‬البلدان‭ ‬الإسلامية‭ ‬احتضانا‭ ‬لظاهرة‭ ‬الأضرحة‭ ‬والمزارات،‭ ‬فلا‭ ‬تكاد‭ ‬تجد‭ ‬تلا‭ ‬ولا‭ ‬سهلا‭ ‬ولا‭ ‬هضبة‭ ‬ولا‭ ‬قرية‭ ‬ولا‭ ‬مقبرة‭ ‬ولامدينة‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬شيد‭ ‬فيها‭ ‬ضريح‭ ‬أو‭ ‬مزار،‭ ‬إلى‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬وصف‭ ‬فيه‭ ‬المغرب‭ ‬ببلد‭ ‬المائة‭ ‬ألف‭ ‬ولي،‭ ‬ويقال‭ ‬بهذا‭ ‬الصدد‭ : “‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬بلاد‭ ‬المشرق‭ ‬هي‭ ‬بلاد‭ ‬الرسل‭ ‬والأنبياء،‭ ‬فإن‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب‭ ‬هي‭ ‬أرض‭ ‬الصالحين‭ ‬والأولياء‭”. ‬هذه‭ ‬المقولة‭ ‬لم‭ ‬تولد‭ ‬من‭ ‬فراغ‭ ‬وإنما‭ ‬لها‭ ‬مبرراتها‭ ‬وبراهينها‭ ‬الواقعية‭ ‬والموضوعية‭ ‬المتمثلة‭ ‬أساسا‭ ‬في‭ ‬أركيولوجيا‭ ‬الزوايا‭ ‬والرباطات‭ ‬والأضرحة‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬البلاد،‭ ‬حيث‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬حوالي‭ ‬7090‭ ‬ضريحا‭ ‬وزاوية‭ (‬1496‭ ‬زاوية‭)‬،‭ ‬تتوزع‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬البلاد‭ ‬وينفق‭ ‬عليها‭ ‬ما‭ ‬يفوق‭ ‬160‭ ‬مليون‭ ‬درهم‭ (‬حوالي16‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬هبات‭ ‬ومنح‭ ‬تسلم‭ ‬للقائمين‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تدبير‭ ‬شؤونها‭ ‬ورعايتها‭ ‬وخدمة‭ ‬السلطة‭ ‬السياسية‭ ‬وضمان‭ ‬الولاء‭ ‬لها،‭ ‬هذه‭ ‬الرعاية‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬علاقة‭ ‬تاريخية‭ ‬ربطت‭ ‬حكام‭ ‬المغرب‭ ‬بشيوخ‭ ‬الزوايا‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يلعبون‭ ‬أدوارا‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬الاستقرار‭ ‬السياسي‭ ‬والأمن‭ ‬الروحي‭ ‬بالبلد‭ ‬خدمة‭ ‬للسلطة‭ ‬الحاكمة‭.‬

عموما‭ ‬سنرى‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬للزوايا‭ ‬الذي‭ ‬تحلقت‭ ‬حوله‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬المتعبدين‭ ‬والنساك‭ ‬الذين‭ ‬انخرطوا‭ ‬تلقائيا‭ ‬في‭ ‬تنظيمات،‭ ‬ما‭ ‬لبثت‭ ‬أن‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسات‭ ‬قائمة‭ ‬الذات،‭ ‬فصارت‭ ‬بذلك‭ ‬موضوع‭ ‬مواجهة‭ ‬وطرفا‭ ‬في‭ ‬الصراع،‭ ‬كما‭ ‬أضحت‭ ‬عاملا‭ ‬مهما‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬سياسة‭ ‬البلد‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى