الثقافة: الثروة المسكوت عنها…!

◆ ذ. عبد الغني عارف

◆ ذ. عبد الغني عارف

في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أعمق‭ ‬تلميحاته‭ ‬الفكرية‭ ‬الثاقبة،‭ ‬يتحدث‭ ‬الشهيد‭ ” ‬مهدي‭ ‬عامل‭ ” ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬بكونها‭ ” ‬تتكون‭ ‬دوما‭ ‬ضديّاّ،‭ ‬تنمو‭ ‬وتتكامل‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬مستمر‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬قديم‭ ‬يموت‭ “‬،‭ ‬ولذلك‭ ‬فلكل‭ ‬نشاط‭ ‬نظري‭ ‬منحاز‭ ‬لسيرورة‭ ‬التغيير‭ ‬طابع‭ ‬نضالي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الثقافة‭ ‬وباستمرار‭ ‬أداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬ممارسة‭ ‬الصراع‭ ‬المجتمعي‭. ‬ولأن‭ ‬المجتمعات‭ ‬عادة‭ ‬لا‭ ‬تتطور‭ ‬إلا‭ ‬بحسم‭ ‬التمفصلات‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬بينة‭ ‬الصراع،‭ ‬فإن‭ ‬الثقافة‭ ‬تشكل‭ ‬رافدا‭ ‬أساسا‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬التغيير‭ ‬والتطور‭ ‬اللذين‭ ‬ينتصران‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬قديم‭ ‬ومتهالك‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬بوصلة‭ ‬يشكل‭ ‬المستقبل‭ ‬أفقها‭ ‬الجاذب‭. ‬

إن‭ ‬الثقافة‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬ترف‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والممارسات‭ ‬المتعالية‭ ‬عن‭ ‬الواقع،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬شرط‭ ‬جوهري‭ ‬لقيام‭ ‬المجتمع‭ ‬وضمان‭ ‬استمراره‭ ‬ووجوده،‭ ‬أي‭ ‬أنها‭ ‬تشكل‭ ‬ثروة‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬ملكية‭ ‬الشعوب،‭ ‬مع‭ ‬التوكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬الثقافة‭ ‬باعتبارها‭ ‬ثروة‭ ‬هو‭ ‬كونها‭ ‬لا‭  ‬تنحصر‭ ‬في‭ ‬سياج‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مادي‭ ‬ضيق،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬تتجاوز‭ ‬ذلك‭ ‬بحيث‭ ‬تكتسب‭ ‬أبعادا‭ ‬رمزية‭ ‬مؤثرة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الطبقات‭ ‬المسيطرة‭ ‬تسعى‭ ‬دائما‭ ‬إلى‭ ‬بسط‭ ‬هيمنتها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬ما‭ ‬تتيحه‭ ‬الثقافة‭ ‬من‭  ‬هوامش‭ ‬السيطرة‭ ‬وفرص‭ ‬تأبيدها،‭ ‬لذلك‭ ‬توجه‭ ‬جهدها‭ ‬نحو‭ ‬جعل‭ ‬الثقافة‭ ‬والمثقف‭ ‬دروعا‭ ‬واقية‭ ‬لها‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سائد‭. ‬إن‭ ‬التباين‭ ‬بين‭ ‬المجتمعات‭ ‬على‭ ‬سلم‭ ‬التخلف‭ ‬أو‭ ‬التقدم‭ ‬يعود‭ ‬أساسا‭ ‬إلى‭ ‬طبيعة‭ ‬الرؤى‭ ‬ومنظومة‭ ‬القيم‭ ‬الثقافية‭ ‬المحددة‭ ‬لأنماط‭ ‬العيش‭ ‬والتفكير‭ ‬والممارسة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭ ‬على‭ ‬حدة‭. ‬ولأن‭ ‬الثقافة‭ ‬ثروة‭ ‬فهي،‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مثل‭ ‬باقي‭ ‬أنواع‭ ‬الثروات‭ ‬الأخرى،‭ ‬قابلة‭ ‬للاستثمار‭ ‬الجيد‭ ‬أو‭ ‬السيء،‭ ‬وهي‭ ‬أيضا‭ ‬قابلة‭ ‬للاحتكار‭ ‬والطمس‭ ‬والتهريب‭…!‬

فهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬عن‭ ‬‭”‬الثقافة‭ ‬المهربة‭”‭ ‬؟‭!.. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭ ‬فمن‭ ‬يتولى‭ ‬هذا‭ ‬التهريب؟‭ ‬ولمصلحة‭ ‬من‭..‬؟‭ ‬ولأية‭ ‬أهداف‭ ..‬؟

نقارب‭ ‬الموضوع‭ ‬بهذه‭ ‬الرؤية‭ ‬المجازية‭ ‬فقط‭ ‬لنقول‭ ‬إن‭ ‬الثقافة‭ ‬ببلادنا،‭ ‬وبكل‭ ‬تجلياتها‭ ‬المتداولة،‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تشكل،‭ ‬للأسف،‭ ‬ثروة‭ ‬منسية،‭ ‬أو‭ ‬بوضوح‭ ‬أكثر،‭ ‬ثروة‭ ‬محتكرة‭ ‬بشكل‭ ‬لا‭ ‬يجعل‭ ‬منها‭ ‬عاملا‭ ‬يسهم،‭ ‬بالشكل‭ ‬المطلوب،‭ ‬في‭ ‬نهضة‭ ‬المجتمع‭ ‬وتقدمه‭.‬

ولأن‭ ‬المجال‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬بالحديث،‭ ‬وبالتفكيك‭ ‬المفصل،‭ ‬عن‭ ‬التوظيف‭ ‬الفلكلوري‭ ‬الفج‭ ‬للثقافة،‭ ‬باعتباره‭ ‬مظهرا‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬التهريب‭ ‬الثقافي،‭ ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬التوظيف‭ ‬الإيديولوجي‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ثقافي‭ ‬وإغراقه‭ ‬في‭ ‬لج‭ ‬الغيبي‭ ‬والخرافي،‭ ‬فإننا‭ ‬سنكتفي‭ ‬بالإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬–‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أكدته‭ ‬وتؤكده‭ ‬تجارب‭ ‬الشعوب‭ – ‬تعلن‭ ‬الثقافة‭ ‬عن‭ ‬إفلاسها‭ ‬التاريخي‭ ‬حينما‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬أداة‭ ‬للتخدير‭ ‬بين‭ ‬أيدي‭ ‬النخبة‭ ‬الفاسدة‭ ‬والكهنة‭ ‬الذين‭ ‬يبررون‭ ‬واقع‭ ‬الفساد‭. ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬أن‭ ‬أعداء‭ ‬التغيير‭ ‬ومناوئيه‭ ‬يراهنون‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬أوجهها‭ ‬المشرقة‭ ‬والمستشرفة‭ ‬للمستقبل‭ ‬ثروة‭ ‬مسكوتا‭ ‬عنها،‭ ‬ويعملون،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هجمات‭ ‬مضادة،‭ ‬على‭ ‬تغييب‭ ‬البعد‭ ‬الدينامي‭ ‬للثقافة‭ ‬بما‭ ‬يضمن‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬واستدامة‭ ‬واقع‭ ‬الاستغلال‭ ‬والجهل،‭ ‬والعمل‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬على‭ ‬حصرها‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬مغلقة،‭ ‬بحيث‭ ‬تكون،‭ ‬أو‭ ‬يراد‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون،‭ ‬مجرد‭ ‬إنتاج‭ ‬متعال‭ ‬عن‭ ‬الواقع،‭ ‬وهم‭ ‬بذلك‭ ‬يعملون‭ ‬على‭ ‬وأد‭ ‬القوة‭ ‬الضاربة‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬للفعل‭ ‬الثقافي‭ ‬الملتزم‭ ‬ضمن‭ ‬شبكة‭ ‬من‭ ‬التناقضات‭ ‬التي‭ ‬يفرزها‭ ‬الصراع‭ ‬في‭ ‬رقعة‭ ‬مجتمعية‭ ‬معينة‭ ‬وضمن‭ ‬شرط‭ ‬تاريخي‭ ‬خاص‭.‬

إن‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬المعطى‭ ‬الثقافي‭ ‬كثروة‭ ‬حقيقية‭ ‬قابلة‭ ‬للاستثمار‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬يتطلب‭ ‬بالضرورة‭ ‬تغيير‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬ماهية‭ ‬المثقف‭ ‬وإلى‭ ‬طبيعة‭ ‬أدواره‭ ‬ووظائفه،‭ ‬فالمثقف‭ ‬لا‭ ‬يكتسب‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬الواصفة‭ ‬فقط‭ ‬لأنه‭ ‬يكتب،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ -‬وربما‭ ‬قبلا–‭ ‬لأن‭ ‬له‭ ‬رؤية‭ ‬محددة‭ ‬للكون‭ ‬وللمجتمع،‭ ‬وله‭ ‬أيضا‭ ‬موقف‭ ‬وموقع‭ ‬ضمن‭ ‬السيرورة‭ ‬التاريخية‭ ‬لتطور‭ / ‬تغير‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬بالضبط‭ ‬تنبع‭ ‬أهمية‭ ‬الثقافة‭ ‬كثروة،‭ ‬أي‭ ‬كمعبر‭ ‬لكل‭ ‬تيارات‭ ‬تغيير‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬تأبيد‭ ‬حصاره‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى