مجتمع المخاطرة والراكبون خلسة
◆ محمد امباركي
”مجتمع المخاطر العالمي بحثاً عن العالم المفقود”، عنوان كتاب السوسيولوجي الألماني أولريش بيك (1944 ـ 2015)، ويعالج فيه التهديدات الكونية بدأ بالإرهاب وصولا الى التغير المناخي والحاجة إلى اتخاذ قرارات جريئة لحماية الإنسانية من المخاطر، وتحدث أيضا السوسيولوجي البريطاني ” أنطونيو كيدنز” عن مشكلة الخوف من المخاطر بقوله إننا نعيش في عالم فيه مخاطر جديدة لا نملك اتجاهها خبرة تاريخية، ويعطي “كيدنز” أمثلة بالأوبئة كجنون البقر، وذلك قبل زمن كورونا الذي تسبب في حالة من توازن الرعب ونزوع الهيمنة بين القوى الكبرى تعود إلى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية..
خلاصة أطروحة “المخاطر” هي كيفية الاستعداد الجيد والشجاع لمواجهتها ومراكمة التجربة والخبرة في هذا الشأن عموديا وأفقيا (الدولة والمجتمع). فهل يمكن مواجهة المخاطر بالخوف منها؟..
أطرح هذا السؤال لتفكيك حالتنا المغربية التي توجد في حالة كمون “ديمقراطي” !
إن مظاهر الخطر تتعدد بتعدد مجالات تدخل السلطة عبر السياسات العمومية في الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ولما نتحدث عن الخطر في بعده الجماعي والاجتماعي فنحن نعني غياب الأمن بمفهومه الحقوقي الواسع كما حددته الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، والذي تتقاطع فيه عدة حقوق كالحق في التعليم والصحة والكرامة والحرية..
والحق في الأمن والأمان وارد في الدستور المغربي، لكن الشعور الاجتماعي العام بهما يزداد هشاشة أمام عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتمدد مجالات المراقبة للأصوات المعارضة..
لا يمكن الحديث عن عنف المجتمع بمعزل عن عنف السلطة.. والعنف له تجليات الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي والقمع السياسي وتضييق مساحات التعبير السلمي عن الحاجة إلى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.. وفي هذه الحالة تتحول السلطة إلى خطر حقيقي على المجتمع لما تستمد مشروعيتها فقط من ممارسة العنف غير الشرعي بلغة ماكس فيبر لكسب رضى المجتمع، ومن ثمة من الطبيعي أن يصبح المجتمع شيئا فشيئا مجتمع مخاطرة من حيث تواتر الجريمة والاغتصاب وارتماء الشباب في أحضان مافيا الهجرة السرية وشبكات التطرف بمختلف مستوياته، بحثا عن الخلاص من أخطار الأفق المسدود في وطن تزداد فيه الفوارق الطبقية ومصادر الغنى غير المشروع وزواج السلطة والثروة.. ولما يحتج المجتمع سلميا سواء واقعيا أو افتراضيا تتعامل السلطة مع الحق في الاحتجاج كخطر يجب كبح جماحه مثلما تعاملت مع التعبيرات السلمية للطلبة والتلاميذ بين نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، كخطر سياسي على الأمن “العمومي” فلجأت إلى القمع وإغلاق معهد السوسيولوجيا ومنع المنابر الثقافية التقدمية وحظر اوطم وتشجيع الفكر الديني المتطرف والتضييق على الممارسة الجمعوية الجادة.
لا مندوحة لنا عن القول إنه لا يمكن بناء نموذج تنموي في ظل مجتمع يركب المخاطر بحثا عن كرامة مفقودة وحرية مهدورة في سياق تتصور فيه السلطة نفسها فوق المجتمع وغير خاضعة لمنطق المراقبة ومبادئ المحاسبة.. وهذا الخطر جزء من منطق الدولة “الأمنية” التي لا تفهم الأمن إلا في معناه الضيق المرتبط بالمنع واستثمار جميع الظروف لإعادة رسم الحدود بين المشروع وغير المشروع، وإن اقتضى الأمر مراقبة الحياة الشخصية للمفترض في مخيلتها أنهم خصومها في مقابل التستر بل وحماية لصوص المال العام وأرباب المعامل “السرية” التي تتحول في أحيان كثيرة الى مآتم جماعية يكون ضحيتها عمال وعاملات هم أصلا ضحايا جشع الباطرونا وعدم احترام مدونة الشغل على عِلاتها.
السؤال المؤرق مرتبط بالهدر السياسي لرأسمال التراكم الإيجابي، حيث بعد تكلفة سياسية وحقوقية وإنسانية باهظة لزمن من القمع، تتم العودة الى منطق المصالحة وضرورة التجاوز الجماعي، ثم ما تلبث أن تعود حليمة والى عاداتها القديمة.. ! كثير من خبراء السياسية يفسرون الأمر بتناقضات أطراف النظام السياسي بين “الصقور والحمائم” وضعف الحقل السياسي المضاد أو السلطة المضادة.. لكن السؤال الآخر المحير هو كيف يمكن بناء سلطة مضادة في ظل شروط سياسية ومؤسساتية لا تسمح بغير انبثاق تلك السلطة المضادة والتعبير عن نفسها بشكل محدود وكما يراد لها أن تكون.. ؟ والمشكلة في بنية سياسية مغلقة لا تسمح بحراك سياسي لا يعيد إنتاج بنياتها السوسيو تاريخية المقاومة للديمقراطية ورياح التغيير في الجوهر، وهو حراك في كل الأحوال ساكن ويراوح مكانه، لا هو بنازل ولا هو بصاعد، كأننا أمام مشهد يتلذذ المتحكمون فيه بمظاهر وممارسات توبيخ الضحايا.. الحديث عن الاستقرار في ظل مجتمع المخاطرة وأخطار السلطة أو تهديداتها الصريحة وغير العلنية ينم إما عن تناقض في الفهم أو سوء الفهم بشكل مقصود..
لكنه أمام هذه التجاذبات، يظل الخطر الآخر المؤثر هو ما سماه السوسيولوجي الأمريكي “مانكور أولسن” (1932-1998) “الراكبون خلسة”، والراكب خلسة هوالشخص الذي لا يشارك في فعل مشترك ولكنه يستفيد من ثماره، على سبيل المثال عامل في مصنع لا يشارك في إضراب جماعي للعمال لأنه يعي أن للمشاركة ثمن وأن عدم مشاركته لن تحول دون استفادته من مكاسب قد تتحقق وراء الإضراب. قد تكون حالة العامل مفهومة ومعذورة ويصرح بها، لكن أن يظل المثقف الجمعي صامتا أمام جبروت السلطة ولما تمارس السلطة النقد الذاتي على ذاتها “تكتيكيا” يلجأ إلى تفكيك أبعاد ذلك النقد وتسجيل شجاعة السلطة واستهلاك مقولة “الاستثناء المغربي” فهو العبث بعينه ، للأسف هذا هو حال العديد من النخب السياسية والثقافية والإعلامية في بلادنا والتي تخلت عن سلطة النقد إزاء انتهاك الحقوق والحريات بما فيها الحريات الأكاديمية وأصبحت تدافع بطريقة غير مقنعة عن منطق “التغيير من داخل الاستمرارية” وتتهم كل من ينتقد الردة الحقوقية الملحوظة بالعدمية والعداء للوطن.!.، ولما يحدث ” انفراج ما “تتقاطر إطلالات “الخلسة”..
نحن أمام ثالوث مركب من سلطة الخوف والخوف من السلطة والراكبين خلسة، هذا الثالوث الخطير لن يمنع المجتمع غير المرئي من المخاطرة على جميع المستويات وفي كل الاتجاهات، وبتالي لن يكتب النجاح للتدبير السلمي والعقلاني لنتائج هذه المخاطرة إلا بمخاطرة “ديمقراطية” شجاعة تحكمها إرادة سياسية واضحة لتجاوز واقع الاحتقان الاجتماعي والحقوقي والقطع مع استراتيجية الضبط “الأمني” لفضاءات التعبير والاحتجاج والنقد والمشاركة.