بصوت مرتفع

المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬كبؤرة‭ ‬احتجاجية‭..‬

◆ محمد امباركي

لم تعد المدرسة في المغرب حقلا لصراع صامت يحكمه منطق المد والجزر بين رهانات ومشاريع متنافسة على المستوى الإيديولوجي والسياسي والرمزي على الأقل ما بعد إضراب 1979 والعقاب الشرش الذي طال نساء ورجال التعليم آنذاك، بل أصبحت بؤرة احتجاجية بامتياز طالما أن هذه المؤسسة / القضية الثانية بعد قضية الصحراء المغربية، ظلت تلاحقها لعنة الأزمة حيث تحولت المدرسة في نفس الوقت إلى مختبر لتجريب وصفات تقنوقراطية فاشلة لا تربط بين ثلاثية التعليم والتنمية والديمقراطية وإلى خريطة ممتدة من الاحتجاج.

إن‭ ‬الاحتجاج‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وليد‭ ‬زمن‭ ‬الجائحة‭ ‬والمسار‭ ‬المتعثر‭ ‬للتعليم‭ ‬عن‭ ‬بعد‭ ‬وتحول‭ ‬الاستمرارية‭ ‬البيداغوجية‭ ‬الى‭ “‬انقطاع‭ ‬غير‭ ‬معلن‭ ” ‬عن‭ ‬التمدرس‭ ‬وقطيعة‭ ‬اجتماعية‭ ‬مؤلمة‭ ‬خاصة‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأطفال‭ ‬واليافعين،‭ ‬هذا‭ ‬دون‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬غياب‭ ‬العدالة‭ ‬الرقمية‭ ‬كوجه‭ ‬من‭ ‬أوجه‭ ‬غياب‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمجالية‭  ‬وتكافؤ‭ ‬الفرص‭ ‬التربوية‭ ‬وانكشاف‭ ‬جشع‭ ‬منطق‭ ‬التسليع‭ ‬والخوصصة‭ ‬وتحويل‭ ‬المدرسة‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭  ‬تحكمها‭ ‬ميكانيزمات‭ ‬التعاقد‭ ‬وإعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬التفاوتات‭ ‬الاجتماعية‭.. ‬بل‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬الاحتجاج‭ ‬اللغة‭ ‬السائدة‭ ‬داخل‭ ‬الحقل‭ ‬التعليمي‭ ‬ليشمل‭ ‬فئات‭ ‬تعليمية‭ ‬متعددة‭ ‬حيث‭ ‬دخل‭ ‬مسلسل‭ ‬الاحتجاج‭ ‬شهرا‭ ‬ونصف‭.. ‬فبأي‭ ‬معنى‭ ‬يستقيم‭ ‬خطاب‭ ‬المسؤولين‭ ‬عن‭ ‬تنزيل‭ ‬مخططات‭ ‬ورؤى‭ ‬الإصلاح‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬هكذا‭ ‬مناخ‭ ‬من‭ ‬الاحتقان‭ ‬والتوتر‭ ‬وتغييب‭  ‬لغة‭ ‬الحوار‭ ‬الجاد‭ ‬وحس‭ ‬المسؤولية‭ ‬والحكمة‭ ‬؟‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬المعقول‭ ‬مضاعفة‭ ‬العسف‭ ‬الثقافي‭ ‬والعنف‭ ‬الرمزي‭ ‬الممارس‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬المدرسة‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬تعبير‭ ‬عالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الفرنسي‭”‬بيير‭ ‬بورديو‭”‬،‭ ‬بهدر‭ ‬كرامة‭ ‬أطر‭ ‬التأطير‭ ‬البيداغوجي‭ ‬والإداري‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬الشيء‭ ‬الكثير‭ ‬لصياغة‭ ‬المضامين‭ ‬الثقافية‭ ‬والقيمية‭ ‬والحمولات‭ ‬البيداغوجية‭ ‬لهذا‭ ‬العالم‭ ‬وترفض‭ ‬أن‭ ‬يصاغ‭ ‬خارج‭ ‬الاعتراف‭ ‬المادي‭ ‬والمعنوي‭ ‬بوجودها‭ ‬وتضحياتها‭ ‬؟

لا‭ ‬مندوحة‭ ‬أن‭ ‬الاحتجاج‭ ‬كمنطق‭ ‬للفعل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لما‭ ‬يهيمن‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬معين،‭ ‬فهذا‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬الاحتقان‭ ‬والغضب‭ ‬وعدم‭ ‬الرضى،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فشل‭ ‬الإصلاحات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬في‭ ‬إخراج‭ ‬المدرسة‭ ‬من‭ ‬لعنة‭  ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬تلاحقها‭ ‬تاريخيا‭ ‬كتجلي‭ ‬من‭ ‬تجليات‭ ‬أزمة‭ ‬البناء‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬والأخطر‭ ‬هو‭ ‬استمرار‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬تغييب‭ ‬مبدأ‭ ‬مساءلة‭ ‬ومحاسبة‭ ‬المسؤولين‭ ‬عن‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬ربط‭ ‬المسؤولية‭ ‬بالمحاسبة‭ ‬والارتقاء‭ ‬بالمدرسة‭ ‬المغربية‭ ‬الى‭ ‬مصاف‭ ‬مدرسة‭ “‬الجودة‭ ‬والإنصاف‭ ‬والارتقاء‭ ‬الاجتماعي‭”  ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬الرؤية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬لإصلاح‭ ‬التعليم‭ ‬2015‭-‬2030‭. !‬

إن‭ ‬تدبير‭ ‬هذه‭ ‬البؤرة‭ ‬الاحتجاجية‭  ‬بمنطق‭ “‬الأرض‭ ‬المحروقة‭” ‬عبر‭ ‬استجداء‭ ‬المقاربة‭ ‬الأمنية‭ ‬ونهج‭ ‬سياسة‭ ‬الآذان‭ ‬الصماء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬‭”‬حوار‭ ‬الطرشان‭”  ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بالمركزيات‭ ‬النقابية‭ ‬المناضلة‭ ‬والفاعلين‭ ‬التربويين،‭ ‬لن‭ ‬يزيد‭ ‬الوضع‭ ‬إلا‭ ‬احتقانا‭ ‬وتصعيدا‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬يستوجب‭ ‬مكافئة‭ ‬رجال‭ ‬ونساء‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬الذين‭ ‬بذلوا‭ ‬مجهودات‭ ‬محترمة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجائحة‭ ‬بدل‭ ‬سحلهم‭ ‬وتعريض‭ ‬كرامتهم‭ ‬للإهانة‭.. ‬بل‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬الإنصات‭ ‬لهم‭ ‬وإلى‭ ‬تطلعاتهم‭ ‬كلما‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بحال‭ ‬ومستقبل‭ ‬المدرسة‭.. ‬عقلية‭ “‬الأرض‭ ‬المحروقة‭” ‬لن‭ ‬تؤدي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلا‭ ‬الى‭ ‬خراب‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬خافيا‭ ‬أن‭ ‬استراتيجية‭ ‬هندسة‭ ‬الرضى‭ ‬بالإكراه‭ ‬قد‭ ‬تفعل‭ ‬فعلها‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬اجتماعية‭ ‬عدة‭  ‬خاصة‭ ‬منها‭ ‬الهشة‭ ‬والمقصية‭ ‬اجتماعيا‭ ‬ومجاليا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الترهيب‭ ‬والترغيب،‭ ‬لكن‭ ‬الرهان‭ ‬على‭ ‬نجاح‭ ‬هذه‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬بغضب‭ ‬نساء‭ ‬ورجال‭ ‬التعليم‭  ‬لوقف‭ ‬دورات‭ ‬الاحتجاج‭ ‬المتراكمة‭ ‬والمرشحة‭ ‬للاستمرارهو‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الوهم،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬المسؤولين‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬ووزير‭ ‬التربية‭ ‬الوطنية‭ ‬والتكوين‭ ‬المهني‭ ‬إعمال‭ ‬الحكمة‭ ‬والتعامل‭ ‬مع‭ ‬المدرسة‭ ‬المغربية‭ ‬كقضية‭ ‬استراتيجية‭ ‬تتموقع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬كل‭ ‬خطاب‭ ‬أو‭ ‬سياسة‭ ‬عمومية‭ ‬تتحدث‭ ‬لغة‭ ‬العدالة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والتأهيل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬لأن‭ ‬المدخل‭ ‬الأساسي‭ ‬لإنتاج‭ ‬مجتمع‭ ‬المواطنة‭ ‬هو‭ ‬إنتاج‭ ‬مدرسة‭ ‬مواطنة،‭ ‬ومن‭ ‬قيم‭ ‬المواطنة‭ ‬احترام‭ ‬حقوق‭ ‬الفئات‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬حراك‭ ‬سوسيوـ‭ ‬مهني‭ ‬لا‭ ‬تحكمه‭ ‬ميكانيزمات‭ “‬التعاقد‭” ‬و‭”‬التجميد‭” ‬والمماطلة،‭ ‬وكذا‭ ‬احترام‭ ‬حقها‭ ‬الدستوري‭ ‬في‭ ‬الاحتجاج‭ ‬والتظاهر‭ ‬السلمي‭ ‬وصيانة‭ ‬كرامتها‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬العدوان‭ ‬والإهانة‭.. ‬فهل‭ ‬تنتصر‭ ‬روح‭ ‬المسؤولية‭ ‬والحكمة‭ ‬على‭ ‬خطاب‭ ‬الأزمة‭ ‬والتأزيم‭ ‬؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى