حراك الريف.. وإطلاق سراح نشطائه

من أجل مصالحة تاريخية لطي الملف

‭ ‬سارة‭ ‬سوجار

عاش‭ ‬المغرب‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬موجات‭ ‬من‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬والديناميات‭ ‬المجتمعية‭ ‬التي‭ ‬انتقدت‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية،‭ ‬والتي‭ ‬واجهتها‭ ‬السلطات‭ ‬بحملة‭ ‬من‭ ‬انتهاكات‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬طيلة‭ ‬عشر‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وقد‭ ‬اتخذت‭ ‬هاته‭ ‬الانتفاضات‭ ‬أشكالا‭ ‬مختلفة،‭ ‬بين‭ ‬احتجاجات‭ ‬مجالية‭ ‬وجهوية‭ ‬كحراك‭ ‬الريف‭ ‬وجرادة‭ ‬وزاكورة‭ ‬وورزازات‭ ‬وغيرها‭..‬،‭ ‬وكذا‭ ‬احتجاجات‭ ‬مهنية‭ ‬وفئوية‭ ‬كتلك‭ ‬المرتبطة‭ ‬بمطالب‭ ‬الأساتذة‭ ‬والممرضين‭ ‬والأطباء‭..‬

أكدت‭ ‬هذه‭ ‬الديناميات‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬حي،‭ ‬واعي‭ ‬ومسيس،‭ ‬لكن‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصة،‭ ‬وأكثر‭ ‬تطورا‭ ‬تجاوزت‭ ‬نمط‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬السابقة،‭ ‬فقد‭ ‬أبدع‭ ‬أشكال‭ ‬معارضته‭ ‬ورفضه‭ ‬للوضع‭ ‬القائم‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬أو‭ ‬داخل‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭.‬

لكن‭ ‬الدولة‭ ‬،‭ ‬للأسف،‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬استيعاب‭ ‬حجم‭ ‬التحولات‭ ‬النوعية‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي،‭ ‬الذي‭ ‬تطور‭ ‬وعيه‭ ‬بحقوقه‭ ‬وبآليات‭ ‬الاحتجاج‭ ‬المدني‭ ‬والسلمي،‭ ‬فسارعت‭ ‬أجهزة‭ ‬الدولة‭ ‬لاستعمال‭ ‬لغة‭ ‬العنف‭ ‬والترهيب،‭ ‬الغير‭ ‬متناسب‭ ‬مع‭ ‬سلمية‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬وعدالة‭ ‬المطالب‭ ‬المرفوعة،‭ ‬وعلى‭ ‬صوت‭ ‬القمع‭ ‬وتغييب‭ ‬لغة‭ ‬الحوار‭ ‬والتنمية‭ ‬والديمقراطية،‭ ‬لتصل‭ ‬حصيلة‭ ‬المقاربة‭ ‬الأمنية‭ ‬لمئات‭ ‬المعتقلين‭ ‬من‭ ‬نشطاء‭ ‬ومدونين‭ ‬وصحفيين‭. ‬

ويعتبر‭ ‬حراك‭ ‬الريف‭ ‬المثال‭ ‬الأبرز‭ ‬لهاته‭ ‬المفارقة‭ ‬التي‭ ‬غيبت‭ ‬التنمية‭ ‬العادلة‭ ‬للمنطقة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬تحريك‭ ‬العقاب‭ ‬الجماعي،‭ ‬وهو‭ ‬نموذج‭ ‬لدراسة‭ ‬الواقع‭ ‬الحقوقي‭ ‬الذي‭ ‬وصلنا‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬فهو‭ ‬حركة‭ ‬اجتماعية‭ ‬شعبية،‭ ‬ذات‭ ‬مطالب‭ ‬اجتماعية،‭ ‬بقدرة‭ ‬قادر‭ ‬كان‭ ‬مآلها‭ ‬السجن‭ ‬أو‭ ‬القمع‭ ‬وأحكام‭ ‬سجنية‭ ‬قاسية‭ ‬وصلت‭ ‬في‭ ‬مجمل‭ ‬أحكامها‭ ‬لمئات‭ ‬السنين‭.‬

وقد‭ ‬أكد‭ ‬تعامل‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الملف،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الوعود‭ ‬والكلام‭ ‬المعسول‭ ‬بالإصلاحات‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬إطلاقها‭ ‬لحظة‭ ‬عشرين‭ ‬فبراير‭ ‬مع‭ ‬الدستور‭ ‬الجديد،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلا‭ ‬محاولة‭ ‬لاحتواء‭ ‬اللحظة‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬والتحولات‭ ‬الإقليمية‭ ‬آنذاك،‭ ‬وذرا‭ ‬للرماد‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬الشارع‭ ‬المغربي‭ ‬بإسكات‭ ‬صوته،‭ ‬وإخراس‭ ‬حناجر‭ ‬الشباب‭.‬

‭ ‬ويمكن‭ ‬تعرية‭ ‬ثلاث‭ ‬حقائق‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭:‬

1‭ ‬ـ‭ ‬أن‭  ‬النموذج‭ ‬المغربي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يوما‭ ‬مُحَصَّنًا‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬كانوا‭ ‬يحاولون‭ ‬الترويج‭ ‬له‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬الاستثناء‭ ‬المغربي،‭ ‬وأن‭ ‬التردد‭ ‬الديمقراطي‭ ‬الذي‭ ‬عشناه‭ ‬فترة‭  ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬ب‭ “‬البلوكاج‭ ‬الحكومي‭”‬،‭ ‬وعدم‭ ‬وجود‭ ‬عدالة‭ ‬مجالية‭  ‬واجتماعية،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يشعل‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة‭ ‬انتفاضات‭ ‬ورجات‭ ‬مجتمعية‭  ‬تضرب‭ ‬عمق‭ ‬ما‭ ‬حاولت‭ ‬الدولة‭ ‬أن‭ ‬تصوره‭ ‬للمنتظم‭ ‬الدولي‭ ‬منذ‭ ‬2011‭. ‬

2‭ ‬ـ‭ ‬فشل‭ ‬مؤسسات‭ ‬الوساطة‭ ‬من‭ ‬نخب‭ ‬تمثيلية،‭ ‬مجتمع‭ ‬مدني‭ ‬وسياسي‭ ‬في‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الملف،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬فقدان‭ ‬عامل‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬المواطن‭ ‬وهذه‭ ‬الوسائط،‭ ‬ويطرح‭ ‬سؤال‭ ‬مدى‭ ‬استيعاب‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬وفهمها‭ ‬للتحولات‭ ‬المجتمعية‭ ‬الجديدة‭ ‬وللبدائل‭ ‬الاحتجاجية‭ ‬التي‭ ‬أبدعها‭  ‬المغاربة‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬وتنظيم‭ ‬وأدوات‭ ‬خارج‭ ‬كل‭ ‬الكلاسيكيات‭ ‬الجاهزة‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬وتنظيمات‭ ‬وخطابات‭.‬

3‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬تقدمه‭ ‬لهذه‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬إلا‭ ‬القمع‭ ‬والاعتقال،‭ ‬فرغم‭ ‬اعترافها‭ ‬بمطالب‭ ‬الحراك‭ ‬ومشروعيته،‭ ‬ورغم‭ ‬إقرار‭ ‬ملك‭ ‬البلاد‭ ‬بفشل‭ ‬النموذج‭ ‬التنموي‭ ‬وإعفاء‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬يد‭ ‬فيما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬اختلالات‭ ‬في‭ ‬الحسيمة،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬استمرت‭ ‬في‭ ‬نهج‭ ‬المقاربة‭ ‬الأمنية‭ ‬عوض‭ ‬التعاطي‭ ‬التنموي‭ ‬والديمقراطي‭ ‬مع‭ ‬الملف‭.‬

‭ ‬

اليوم‭ ‬ونحن‭ ‬نعيش‭ ‬سياقا‭ ‬دوليا‭ ‬وإقليميا‭  ‬مختلفا،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬طغت‭ ‬أجندة‭ ‬محاربة‭ ‬الإرهاب‭ ‬والهجرة‭ ‬غير‭ ‬النظامية‭ ‬والأمن‭ ‬الدولي‭ ‬على‭ ‬رهانات‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬تعرف‭ ‬اللحظة‭ ‬واقعا‭ ‬آخر‭ ‬مرتبطا‭ ‬بالأزمة‭ ‬الصحية‭ ‬ومخلفاتها،‭ ‬مرتبطا‭ ‬بالصيغة‭ ‬الجديدة‭ ‬للإدارة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬و‭ ‬بالانتفاضات‭ ‬المتواترة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬والتفاوض‭ ‬الدولي‭ ‬الجديد‭ ‬على‭ ‬أجندة‭ ‬السلم‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭. ‬أننا‭ ‬نحتاج‭ ‬في‭ ‬مغرب‭ ‬اليوم‭  ‬إلى‭ ‬إجابات‭ ‬جديدة،‭ ‬إجابات‭ ‬حقيقية،‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬عمقها‭ ‬سياسات‭ ‬تنموية‭ ‬عادلة‭ ‬وطنيا‭ ‬ومجاليا،‭ ‬ووضع‭ ‬مخطط‭ ‬استراتيجي‭ ‬واضح‭ ‬المعالم‭ ‬لمصالحات‭ ‬ديمقراطية‭ ‬تجعل‭ ‬جدلية‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬المواطنة‭ ‬والأرض‭ ‬كثنائية‭ ‬تحقق‭ ‬العدالة‭ ‬والكرامة‭ ‬لكل‭ ‬المغربيات‭ ‬والمغاربة‭. 

إن‭ ‬المصالحة‭ ‬التنموية‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬مع‭ ‬منطقة‭ ‬الريف،‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬المناطق‭ ‬المغربية،‭ ‬وإطلاق‭ ‬سراح‭ ‬جميع‭ ‬المعتقلين‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬الحراكات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والحق‭ ‬في‭ ‬الرأي،‭ ‬يعتبران‭ ‬شرطين‭ ‬أساسيين‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬عنق‭ ‬الزجاجة‭ ‬الذي‭ ‬وصلنا‭ ‬إليه‭ ‬بفعل‭ ‬فاعل‭.‬

في‭ ‬نفس‭ ‬السياق‭ ‬يرتبط‭ ‬تحقيق‭ ‬الرهانات‭ ‬الإقليمية‭ ‬والإفريقية‭ ‬والدولية‭ ‬للمغرب،‭ ‬بتقدم‭ ‬بلادنا‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والتنموي‭ ‬والسياسي،‭ ‬وبإرساء‭ ‬ديمقراطية‭ ‬حقة‭ ‬بالمغرب‭ ‬تقطع‭ ‬مع‭ ‬الأساليب‭ ‬السلطوية‭ ‬البائدة،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المدخل‭ ‬السليم‭ ‬لانخراط‭ ‬كل‭ ‬الفاعلين‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصالح‭ ‬الوطن‭ ‬خارجيا‭ ‬وداخليا،‭ ‬ويبقى‭ ‬كسب‭ ‬رهان‭ ‬تمتين‭ ‬اللحمة‭ ‬الداخلية‭ ‬لبنات‭ ‬وأبناء‭ ‬الوطن‭ ‬مشروطا‭ ‬بالانخراط‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬انفراج‭ ‬عام‭ ‬بسيادة‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬والكرامة‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وإخلاء‭ ‬سجون‭ ‬المملكة‭ ‬من‭ ‬معتقلي‭ ‬الرأي‭ ‬والحراكات‭ ‬الاجتماعية‭.‬

‭ ‬

إننا‭ ‬نحتاج‭ ‬لإرادة‭ ‬جدية‭ ‬تستجيب‭ ‬للمطالب‭ ‬العادلة‭ ‬للشارع،‭ ‬وإلى‭ ‬قنوات‭ ‬حوار‭ ‬حقيقية‭ ‬تجعل‭ ‬الانفراج‭ ‬السياسي‭ ‬والإفراج‭ ‬عن‭ ‬المعتقلين‭ ‬أولى‭ ‬أولوياتها،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬جسر‭ ‬الثقة‭ ‬بين‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬ومختلف‭ ‬الفاعلين‭.‬

لقد‭ ‬استطاع‭ ‬المغاربة‭ ‬أن‭ ‬يبدعوا‭ ‬فضاءات‭ ‬جديدة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬آرائهم‭ ‬ومواقفهم‭ ‬من‭ ‬سياسات‭ ‬الدولة،‭  ‬وأدوات‭ ‬جديدة‭ ‬للمشاركة‭ ‬السياسية‭ ‬يجب‭ ‬استيعابها،‭ ‬الاعتراف‭ ‬بها‭ ‬والتفاعل‭ ‬إيجابيا‭ ‬معها‭ ‬لأنها‭ ‬مستقبل‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬آليات‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬وكذا‭ ‬لضمان‭ ‬مشاركة‭ ‬أوسع‭ ‬للمواطنات‭ ‬والمواطنين‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية‭.‬

لقد‭ ‬عرف‭ ‬ملف‭ ‬حراك‭ ‬الريف‭ ‬ظلما‭ ‬إنسانيا،‭ ‬قانونيا‭ ‬وسياسيا،‭ ‬وعرف‭ ‬إجماعا‭ ‬وتعبئة‭ ‬وطنية‭ ‬ودولية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬حله،‭ ‬لذلك‭ ‬فإن‭ ‬الإفراج‭ ‬عن‭ ‬معتقليه‭ ‬وتحقيق‭ ‬مطالبه‭ ‬العادلة‭ ‬سيكون‭ ‬مدخلا‭ ‬حقيقيا‭ ‬لمغرب‭ ‬الديمقراطية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى