حراك الريف.. وإطلاق سراح نشطائه
من أجل مصالحة تاريخية لطي الملف
◆ سارة سوجار
عاش المغرب على وقع موجات من الاحتجاجات والديناميات المجتمعية التي انتقدت السياسات العمومية، والتي واجهتها السلطات بحملة من انتهاكات الحقوق والحريات طيلة عشر السنوات الأخيرة، وقد اتخذت هاته الانتفاضات أشكالا مختلفة، بين احتجاجات مجالية وجهوية كحراك الريف وجرادة وزاكورة وورزازات وغيرها..، وكذا احتجاجات مهنية وفئوية كتلك المرتبطة بمطالب الأساتذة والممرضين والأطباء..
أكدت هذه الديناميات على أن المجتمع المغربي حي، واعي ومسيس، لكن بطريقته الخاصة، وأكثر تطورا تجاوزت نمط الاحتجاجات السابقة، فقد أبدع أشكال معارضته ورفضه للوضع القائم سواء في الشارع أو داخل مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن الدولة ، للأسف، لم تستطع استيعاب حجم التحولات النوعية التي حدثت في نسيج المجتمع المغربي، الذي تطور وعيه بحقوقه وبآليات الاحتجاج المدني والسلمي، فسارعت أجهزة الدولة لاستعمال لغة العنف والترهيب، الغير متناسب مع سلمية الاحتجاجات وعدالة المطالب المرفوعة، وعلى صوت القمع وتغييب لغة الحوار والتنمية والديمقراطية، لتصل حصيلة المقاربة الأمنية لمئات المعتقلين من نشطاء ومدونين وصحفيين.
ويعتبر حراك الريف المثال الأبرز لهاته المفارقة التي غيبت التنمية العادلة للمنطقة في مقابل تحريك العقاب الجماعي، وهو نموذج لدراسة الواقع الحقوقي الذي وصلنا إليه في المغرب، فهو حركة اجتماعية شعبية، ذات مطالب اجتماعية، بقدرة قادر كان مآلها السجن أو القمع وأحكام سجنية قاسية وصلت في مجمل أحكامها لمئات السنين.
وقد أكد تعامل الدولة في هذا الملف، على أن الوعود والكلام المعسول بالإصلاحات التي تم إطلاقها لحظة عشرين فبراير مع الدستور الجديد، لم تكن إلا محاولة لاحتواء اللحظة الاحتجاجية والتحولات الإقليمية آنذاك، وذرا للرماد في عيون الشارع المغربي بإسكات صوته، وإخراس حناجر الشباب.
ويمكن تعرية ثلاث حقائق أساسية في هذا الملف:
1 ـ أن النموذج المغربي لم يكن يوما مُحَصَّنًا حسب ما كانوا يحاولون الترويج له تحت مسمى الاستثناء المغربي، وأن التردد الديمقراطي الذي عشناه فترة ما سمي ب “البلوكاج الحكومي”، وعدم وجود عدالة مجالية واجتماعية، يمكن أن يشعل في أي لحظة انتفاضات ورجات مجتمعية تضرب عمق ما حاولت الدولة أن تصوره للمنتظم الدولي منذ 2011.
2 ـ فشل مؤسسات الوساطة من نخب تمثيلية، مجتمع مدني وسياسي في التدخل في هذا الملف، وهو ما يؤكد فقدان عامل الثقة بين المواطن وهذه الوسائط، ويطرح سؤال مدى استيعاب هذه الأخيرة وفهمها للتحولات المجتمعية الجديدة وللبدائل الاحتجاجية التي أبدعها المغاربة من لغة وتنظيم وأدوات خارج كل الكلاسيكيات الجاهزة من مؤسسات وتنظيمات وخطابات.
3 ـ أن الدولة ليس لها ما تقدمه لهذه الاحتجاجات إلا القمع والاعتقال، فرغم اعترافها بمطالب الحراك ومشروعيته، ورغم إقرار ملك البلاد بفشل النموذج التنموي وإعفاء كل من كانت له يد فيما حدث من اختلالات في الحسيمة، إلا أنها استمرت في نهج المقاربة الأمنية عوض التعاطي التنموي والديمقراطي مع الملف.
اليوم ونحن نعيش سياقا دوليا وإقليميا مختلفا، فبعد أن طغت أجندة محاربة الإرهاب والهجرة غير النظامية والأمن الدولي على رهانات العلاقات الدولية في العالم، تعرف اللحظة واقعا آخر مرتبطا بالأزمة الصحية ومخلفاتها، مرتبطا بالصيغة الجديدة للإدارة الأمريكية، و بالانتفاضات المتواترة في العالم، والتفاوض الدولي الجديد على أجندة السلم وحقوق الإنسان. أننا نحتاج في مغرب اليوم إلى إجابات جديدة، إجابات حقيقية، تحمل في عمقها سياسات تنموية عادلة وطنيا ومجاليا، ووضع مخطط استراتيجي واضح المعالم لمصالحات ديمقراطية تجعل جدلية الحق في المواطنة والأرض كثنائية تحقق العدالة والكرامة لكل المغربيات والمغاربة.
إن المصالحة التنموية والسياسية والثقافية مع منطقة الريف، ومع كل المناطق المغربية، وإطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية الحراكات الاجتماعية والحق في الرأي، يعتبران شرطين أساسيين للخروج من عنق الزجاجة الذي وصلنا إليه بفعل فاعل.
في نفس السياق يرتبط تحقيق الرهانات الإقليمية والإفريقية والدولية للمغرب، بتقدم بلادنا الاقتصادي والتنموي والسياسي، وبإرساء ديمقراطية حقة بالمغرب تقطع مع الأساليب السلطوية البائدة، وهذا هو المدخل السليم لانخراط كل الفاعلين في الدفاع عن مصالح الوطن خارجيا وداخليا، ويبقى كسب رهان تمتين اللحمة الداخلية لبنات وأبناء الوطن مشروطا بالانخراط في إرساء انفراج عام بسيادة الحقوق والحريات والكرامة والعدالة الاجتماعية، وإخلاء سجون المملكة من معتقلي الرأي والحراكات الاجتماعية.
إننا نحتاج لإرادة جدية تستجيب للمطالب العادلة للشارع، وإلى قنوات حوار حقيقية تجعل الانفراج السياسي والإفراج عن المعتقلين أولى أولوياتها، من أجل بناء جسر الثقة بين الاحتجاجات ومختلف الفاعلين.
لقد استطاع المغاربة أن يبدعوا فضاءات جديدة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم من سياسات الدولة، وأدوات جديدة للمشاركة السياسية يجب استيعابها، الاعتراف بها والتفاعل إيجابيا معها لأنها مستقبل المغرب في ترسيخ آليات الديمقراطية، وكذا لضمان مشاركة أوسع للمواطنات والمواطنين في السياسات العمومية.
لقد عرف ملف حراك الريف ظلما إنسانيا، قانونيا وسياسيا، وعرف إجماعا وتعبئة وطنية ودولية من أجل حله، لذلك فإن الإفراج عن معتقليه وتحقيق مطالبه العادلة سيكون مدخلا حقيقيا لمغرب الديمقراطية وحقوق الإنسان.