التدبير المفوض وضعية احتكارية وخروقات تعاقدية
◆ البكاي محمدي - دكتور باحث في الاقتصاد وأستاذ بجامعة محمد الأول بوجدة.
شركات احتكارية لخدمات عمومية
لقد عرف المغرب عملية التدبير المفوض مند عقود طويلة، حيث يضرب بجذوره في زمن الاستعمار المباشر عبر ماسمي بعقود الامتياز (اتفاقية الجزيرة الخضراء1906…). واستمرت مع نهاية التسعينات ابتداء بأول تجربة بالدار البيضاء ليديك Lydec سنة 1997، متميزة بحجم المرافق المفوضة والمجال الترابي والديمغرافي المرتبط بتدخلها وكذلك المدة الزمنية للتدبير المفوض (30 سنة).
منذ هاته التجربة، أخذت عملية التدبير المفوض تنتشر في العديد من المدن وتكتسح العديد من القطاعات، بل أصبح التدبير المفوض الخيار الأول للدولة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية. هكذا، انخرطت الجماعات المحلية (بلديات ومجموعات حضرية) في تفويض تسيير المرافق العمومية وكان أضخمها بعد الدار البيضاء، الرباط عقد Redal التابعة لسويزSuez وطنجة-تطوانَ (Amendis) التابعة لفيوليا Veolia.
انسجاما مع إستراتيجيتهم، أصبحت الشركتين سويز Suez وفيوليا Veolia، تتقاسمان أعظم القطاعات (ميدان توزيع الماء والكهرباء و التطهير)، قطاعات منطقيا لا تقبل متدخلين كثر (سمات ما يسمى بالاحتكار الطبيعي). قطاعات حيوية ضرورية للعيش الكريم والحياة المستقرة، مدرة للربح الكبير (أي أسواق الاستهلاك – الربح الواسع وسوق – طلب كل الناس)؛ محتكرة أكبر المدن المغربية (ذات الاستقطاب الديمغرافي الكبير والمستدام) بخاصية ساحلية (الدار البيضاء، الرباط و طنجة-تطوان) وعقود ترهن هاته الأقطاب عشرات السنين.
استنادا لتقرير المجلس الأعلى للحسابات لـــ2014 وصل، خلال سنة 2012، عدد عقود التدبير المفوض 186 عقدا أهم قطاعات منها النقل العمومي، جمع النفايات، تدبير المطارح العمومية، مراكز لإنتاج الكهرباء (و تناسى مجالات التهيئة وعقود المناولة التي لا تعد و لا تحصى).
وبطبيعة الوضع الاحتكاري تتحكم شركات التدبير بمصير مؤسسات وأقطاب حضرية وترهن مواطنين (Pris en otage) لسنين. ليبقى السؤال بكل سذاجته : ماذا بقي أو تبقى لجماعات فوضت هكذا شؤونها الأساسية وما الجدوى من برامج أحزابها ومخططات التنمية المحلية ؟؟؟
ففي مجال الكهرباء، الماء والتطهير السائل تتدخل ثلاث أنماط من التدبير:
1. أربع شركات مفوض إليها التوزيع في الحقيقة، تمتلكها شركتين أساسيتين Veolia و Suez؛
2. اثنا عشرة وكالة مستقلة (سبع وكالات لتوزيع الماء والكهرباء و التطهير) وخمس وكالات لتوزيع الماء الصالح للشرب و التطهير السائل.
3. المكتب الوطني لتوزيع الماء الصالح للشرب و الكهرباء ONEE.
تجدر الاشارة أنه في استغلالها لقطاعات التوزيع، تستفيد شركات التدبير المفوض من استثمارات سابقة و قائمة (تتسلم إمكانيات هائلة). بنية و قاعدة مادية (رأسمال أولي) مجانية من إنجاز الوكالات والجماعات المحلية (المالية العمومية)، التي تقدر قيمتها بملايير الدراهم (بنيات تحتية للشبكات، بنايات…). بعملية حسابية بسيطة تظهر لنا الادعاءات حول جلب الاستثمارات. مثلا، إذا أخذنا حجم الاستثمارات بالنسبة لشركة ريضال 13.7 مليون درهم (والتي لا تشارك الشركة بأموالها الخاصة إلا في حدود21 %) وإن افترضنا أن ساكنة الرباط – سلا تقدر بـمليونين تقريبا، فيعد إذن معدل الاستثمار/الفرد لمدة 30 سنة هو 6,85 درهم (0,23 درهم سنويا للفرد).
هكذا عبر ثلاث مدن كبرى (مدينة الدار البيضاء والرباط وطنجة – تطوان) تستحوذ ثلاث شركات -أو قل شركتين- على أكثر من 55% من توزيع الماء الصالح للشرب و 62 % بالنسبة للتطهير.
- مؤشرات و مقارنات على الهامش
ففي الوقت الذي أنجز فيه المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب خلال الفترة 2006-2012 استثمارات بمبلغ 33.171 مليون درهم، (ص.58)، تقدر الاستثمارات التعاقدية لشركات التدبير المفوض مجتمعة خلال كامل مدة العقود بـــ 47.374 مليون درهم.
إذن أنجز المكتب الوطني في 6 سنوات ما ستحققه الشركات في 30 سنة تقريبا من التدبير المفوض، وتقريبا 3 أضعاف Triple ما ستحققه ريضال طيلة مدة العقد المبرم. علما أنه أقل الزبناء ويتدخل في الأغلب خارج المدارات الحضرية بمجالات ترابية واسعة (612 مركزا مقابل 46 مركزا. أي أكثر من 83% من المجال الترابي من تغطية المِؤسسات ذات الطابع العمومي مقابل 17% للشركات).
تدبير سيء ووابل من الخروقات التعاقدية
ميدانيا، أظهرت تجربة التدبير المفوض في مجال التوزيع عن اختلالات ونواقص فظيعة سواء تعلق الأمر بالاستثمارات المنجزة، الأهداف المحددة، التعريفة المطبقة… لكن الأفظع في ذلك، تهريب الأموال، التهرب الضريبي، التلاعب بالحسابات والصناديق… وللوقوف على هذه الاختلالات نستند على إفادات تقريري المجلس الأعلى لـسنة 2009 و2014 وبعض معطيات البحث التي تؤشر على :
- تستغل شركات التدبير المفوض 46 مركزا، ريضال لوحدها 13 مركز (ليديك 11 وأمانديس طنجة 8 وأمانديس تطوان 14).
- اما المكتب الوطني للماء و الكهرباء فيتولى تدبير 612 مركزا.
بينما يغطي هذا الأخير30% من الجماعات القروية، الوكالات الجماعية 68% تقريبا بينما لا تغطي شركات التدبير المفوض سوى 2%.
- يقدمان المكتب الوطني و الوكالات خدمات التطهير السائل لـــ5,4 مليون نسمة وعقود التدبير ل 9 مليون نسمة (أي 62%).
خلال سنة 2012 بلغ حجم مبيعات الماء الصالح للشرب ما قدره 781 مليون م3 بنسبة 37% للشركات المفوض إليها (بينما تغطي فقط %33)، الوكالات المستقلة 33% والمكتب الوطني 30%.
كما بلغت مبيعات الطاقة : 51% للمكتب الوطني، 16% للوكالات و33% للشركات المفوضة.
يظهر جيدا حجم استحواذ الخواص على قطاع التوزيع أمام 12 وكالة ومكتب الوطني يغطي 612 مركزا.
وحسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات لـــ2014، فإن الشركات المفوض إليها سجلت تأخرا كبيرا في إنجاز الاستثمارات، وفوارق مهمة بين الاستثمارات المنجزة وتلك المتعاقد بشأنها. بل تم إدراج تكاليف غير واردة ضمن التوقعات الأولية للعقد لتضخيم الإنجازات المالية.
- بحيث لم تصل نسبة الإنجازات إلا في حدود 57 % فقط بالنسبة لتمويل المفوض إليه؛ أما تمويل التجديد فقد بلغ الفارق 571 مليون درهم عوض 300 مليون درهم المحدد من طرف اللجنة المشتركة، وبالنسبة للتمويل عبر صندوق الأشغال فقد حث المجلس على أنه يتعين على الشركة استرجاع 371 مليون عوض 99 مليون درهم كما زعمت الشركة.
- التحرير المتأخر للرأسمال، التوزيع الاستباقي لحصص الأرباح، تحويلات غير قانونية للأموال للشركة الأم وكذا مصاريف العمالة مرتين المستخدمين الأجانب ضدا على مقتضيات العقد.
- تركيبات مالية غير شفافة.
- استهلاكات تقديرية وهامش غير تعاقدي، فوترة كميات غير مستهلكة، خدمات غير مقررة بدفاتر التحملات أو عقود الاشتراك׃
فمنذ يوليو 2014 أصبحت التعاريف عند البيع للماء، التطهير السائل والكهرباء تخضع لشروط جديد و بنية تعريفية جديدة (أنظر الجريدة الرسمية عدد 6275 مكرر)، مما جعل التدبير المفوض يتمتع بمرونة مهمة في الزيادة (الرفع من قدراته التمويلية والربحية).
وفيما يدعي المدافعون عن كون التدبير المفوض هي الصيغة المثلى التي تبنتها جل وأعظم الدول. نورد أسفله (أنظر الجدول)ت جارب دول رأسمالية متقدمة :
إن كانت تظهر فرنسا و المملكة المتحدة من متزعمي خوصصة هذه القطاعات، إلا أنه في السنين الأخيرة، عرفت هذه الدول تحولا جذريا و ذلك باسترجاع هذه المرافق إلى حظيرة الجماعات المحلية. و قد تم رصد 180 حالة استرجاع لحضيرة التدبيرالعمومي ما بين 2000 و 2014 أغلبها همت Suez و Veolia.
خاتمة
في الأخير، يجب أن نعلم أن رفض هاته الممارسات الاحتكارية الفاسدة للتدبير المفوض هم العديد من الدول التي اعتمدت هذا الشكل، وتعتبر أمريكا اللاتينية نموذجا حيا للاستفادة منه في التدبير الجماعي لهاته المرافق.
كما أنه تم تسجيل أن التقارير الصادرة عن مجلس الحسابات ومجلس المنافسة بفرنسا والتي تتهم هاتين الشركتين (فيوليا و سويز) وقفت على ارتكاب خروقات كثيرة وسلوكات غير قانونية وغير شريفة من طرف الشركتين. فقد سجل المجلسان أنهما تمارسان الاحتكار وتتقاسمان وتوزعان العقود فيما بينها، في العديد من المدن الفرنسية وداخل نفس المدن، عبر تحالفات ضمنية فيما بينهما لمنع تدخل فاعلين آخرين…
وإذا كانت طريقة التدبير المفوض قد أثارت العديد من الانتقادات، فإن آلية شركات التنمية المحلية قد دخلت حيزالتنفيذ كبديل للتدبير المفوض لإنجاز المشاريع والمخططات الترابية والمرافق الجماعية.
ونظرا لحيز هذا المقال، الذي يحول دون الخوض في التجربة الناشئة لشركات التنمية المحلية ،السؤال الذي سيتكرر: لماذا لا تعمل الجماعات الترابية على الاستفادة من تجارب أثبت نجاعتها و استطاعت بتجاربها (الإيجابية أو السلبية) المتنوعة من الإعتماد على طاقاتهاو باستقلالية إدارة مرافق حيوية هي من صلب مسؤولياتها رغم الافلاسات الذي يؤكها الاعتماد على الخواص.