مدينة الدار البيضاء من الشموخ إلى الغرق
الدار البيضاء.. التاريخ
لقد أجمع عدد من المؤرخين على أن تأسيس مدينة الدار البيضاء، أي كازابلانكا المغربية (أنفا)، على أنها من تأسيس أمازيغ مملكة بورغواطة سنة 768م، وأنفا هي تعبير أمازيغي. وحسب الزياني المولود سنة 1734م “المدينة أسسها الأمازيغ حيث حينما انتقل الزيانيون أو بنو زيان، سلالة قبيلة زناتة الأمازيغية إلى تامسنا وتادلة قاموا بتأسيس أنفا في تامسنا ومدينة داي في تادلة”. لقد كان لبنائها اختيار وأهداف من المؤسسين، أي الاختيار الاستراتيجي على مستوى الاقتصادي والصناعي والتجاري وأيضا لمراقبة شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي. وبحكم التحولات السياسية والثقافية والاقتصادية عبر التاريخ، خضعت الدار البيضاء لحكم عدد من الدول من الأمازيغ والرومان والعرب والبرغواطيين والمرابطين والموحدين والبرتغاليين والإسبان والفرنسيين والإنجليز، لما لها من مكانة مهمة في شمال إفريقيا وفي المغرب بصفتها مدينة ميناء، مما جعلها هدفا مهما للغزاة في تاريخها. وكانوا يعرفونها ب “منحدر”، مصطلح يستعمله المحليون، والمدنيون الناطقون باللهجة البونيقية التي كانت منتشرة في جنوب حوض البحر المتوسط وتسمى كذلك بالقرطاجية أو بالفينيقية. ولما دخلها جيش الاحتلال الفرنسي في عام 1907، عندها تبنى الاسم الاسباني أي كازابلانكا، لكن استمر الكثير يسميها بأنفا ومعناه “منحدر”.
الدار البيضاء ..محج الثقافات
لقد ظلت محافظة على شموخها بالتصدي لكل محاولة استعمار أو غزو. فلم يفلح البرتغاليون سنة 1715م في السيطرة عليها، حيث تمت هزيمتهم على يد المرنيين. بعد أن دمرها زلزال كبير في 1755م. وهو الزلزال الذي عرفته لشبونة البرتغالية في نفس الآن. فنهضت من رمادها كالفنيق وأعيد بناءها لتستمر في لعب دور المبادلات التجارية الكبرى بالنسبة لحوض البحر الأبيض المتوسط. ويبدو أن “أنفا” قد اندثرت بدون أن تترك أي أثر سوى ضريح “سيدي علال القيرواني”، وهو من أصل تونسي من مدينة القيروان. ويقع ضريحه يالسقالة أمام ميناء الدار البيضاء، وضريح سيدي عبد الرحمان بن الجيلالي الذي يوجد ضريحه على صخرة بشاطئ عين الذئاب وهو من أصل عراقي، مما يعني أن الدار البيضاء ظلت محج الثقافات والديانات منذ أن أعلن عن تأسيسيها إلى اليوم.
الدار البيضاء ..ملتقى أنفا
ورغم وجود المغرب تحت وطأة الاستعمار الفرنسي والاستعمار الإسباني، وفي أوج الحرب العالمية الثانية كانت الدار البيضاء مركز اهتمام دولي، إذ تم فيها عقد مؤتمر أنفا التاريخي في يناير سنة 1943 بالدار البيضاء، والذي حضره كل من محمد الخامس وبجانبه ابنه ولي عهده الحسن الثاني والرئيس الأمريكي “فراكلين روزفلت” ورئيس الوزراء البريطاني “ونستون تشرشيل”، الذين اجتمعوا لتوحيد الخطة العسكرية ضد محور المانيا النازية وحلفائها من تركيا وإيطاليا واليابان. لقد كرس هذا المؤتمر دور الدار البيضاء الاستراتيجي في ظل الأزمات التي يعرفها العالم.
الدار البيضاء ..تفدي شهداءها
استمرت الدار البيضاء تفدي شهداءها ضحايا الحروب أو الاستعمار بروحها وبدمها. فلما طغى الاستعمار الفرنسي أخرجت من بين ضلوعها شبابا يحمل السلاح من أجل تحرير الوطن والانتقام لشهدائها الذين سقطوا من أجل التحرير وفي مقدمتهم الشاب محمد الزرقطوني ابن درب السوينية في المدينة القديمة. لقد قام هذا الشاب بعملية تفجير السوق المركزي في الدار البيضاء” مارشي سنطرال”. فكان من رموز المقاومة الذين أسسوا لانطلاقتها وتحديد أهدافها وتقوية تنظيماتها وامتداداتها. مع رفاقه في الكفاح المسلح، حتى استشهد يوم 18 يونيو 1954، حينما ألقت القبض عليه سلطات الاستعمار الغاشم، ففضل الشهادة حفاظا على أسرار المقاومة والتضحية من أجل استمرار نشاطاتها. تلك هي الدار البيضاء مهد المقاومة وانطلاق حركة التحرير الشعبية.
الدار البيضاء ..الطبقة العاملة
انضمت الطبقة العاملة بالدار البيضاء، مهد المقاومة، مع بداية تأسيس منظمتها النقابية الاتحاد المغربي للشغل في بداية الخمسينيات من القرن العشرين إلى صفوف المقاومين للاستعمار الفرنسي، فكانت الرافعة المعول عليها من أجل مغرب مستقل ينعم بالديمقراطية وبالحرية وبالمساواة. الدار البيضاء التي كشفت عن محنة البروليتارية وعما تتعرض له من استغلال، وعبأتها لتكون في قيادة الصراع الطبقي الرامي إلى الحسم مع الاستغلال والاستبداد والحكرة.
الدار البيضاء وفلول الاستعمار
فبعد أن دمرها البرتغاليون وقصفها الفرنسيون سنة 1907 وسقوط مئات الشهداء خلال مقاومة الاستعمار، جاءها أذناب الاستعمار على إثر الإعلان على الاستقلال الشكلي ليقوموا بالسطو على الأراضي والمنشآت الاستراتيجية وعلى الشركات. ولتنفيذ عملياتهم خلقوا الفتنة بين الناس حتى لا يهتموا بما يجري. كما تحركت المنظمة الإرهابية اليد الحمراء La Main Rouge)) لتنفيذ عمليات من شأنها حماية الفرنسيين بالدار البيضاء وعملائهم من المغاربة، تكون مهمتها تصفية نشطاء الاستقلال في كل من المغرب والجزائر وتونس. هذه المجموعة السرية قامت يوم 11 من يونيو سنة 1955 باغتيال الناشط السياسي الفرنسي المدافع عن استقلال المغرب جاك ليمايي دوبريويل، وقد تم اغتياله في الساحة التي تحمل اسمه الآن، عند سفح مبنى الحرية الذي كان يعيش فيه. أمام هذه الحركات المشينة الهادفة إلى إسقاط الدار البيضاء من عيون العالم تنتفض مرة أخرى شامخة لتفرض هيبتها على الكل مستمرة في الشموخ. لكن رغم ذلك لم تسلم من كيد الاستعماريين الجدد الذين جعلوا منها بقرة حلوبا وأخذوا يطمسون معالمها التاريخية من أسوار وحدائق ومنتزهات والتي كانت تشهد لها بالمدينة المندمجة، مدينة ملتقى الثقافات والحضارات. ثم عملوا على أن يجعلوا منها مدينة سلبية دون أي حس نضالي أو سياسي أو اجتماعي. لكنها خرجت في 23 مارس 1965 في انتفاضة عارمة ضد السياسة التعليمية التي أقرها النظام المخزني، هذه الانتفاضة التي ووجهت بالرصاص، فسقط شهداء كثيرون على يد السفاك أفقير. لم تستلم البيضاء لسياسة القمع ولا للاستغلال، بل ظلت صامدة في وجه الفساد فقررت الاستجابة لنداء الإضراب العام الذي دعت إليه الكنفدرالية الديمقراطية للشغل في يونيو 1981، فعرف هذا الإضراب خروج أبناء الدار البيضاء مرة أخرى للتعبير عن سخطهم وعن سخط الجماهير الشعبية في البلاد مما جعل قوات الأمن والجيش يتدخلون لإخماد هذه الانتفاضة بالرصاص والقتل العشوائي لتعيش المدينة ومعها جميع المغاربة حدادا لم ينته بعد، لأن أسرا عديدة لم تعرف مصير جثت أبنائها الذين سقطوا في ذلك اليوم.
الدار البيضاء والفضائح
لقد عرفت الدار البيضاء سلسلة من الفضائح بدءا من فضيحة شركة بان أمريكان BAN AMERICAIN سنة 1970 حيث تعرضت للابتزاز من طرف وزراء وموظفين سامين كانوا ينعمون بعطف الملك، لما أرادت إنشاء سلسلة من الفنادق بالدار البيضاء، الشيء الذي تم ضبطه من طرف المخابرات الأمريكية وأخبر به الملك الراحل الحسن الثاني، والذي كان لا يزال تحت وطأة الانقلابين العسكريين (1971ـ 1972)، وفي سياق تدمر شعبي بفعل القمع والفقر والأمية وفي سياق التحولات التي تعرفها دول العالم، أمر باعتقال ومحاسبة المتورطين في كل عمليات الفساد والرشوة. بالإضافة إلى هذه الفضيحة جاءت فضيحة مشاريع تم نهب مالها والتي كانت موضوع محاكمة النقابي والبرلماني السابق ورئيس جماعة عين السبع الحي المحمدي، عبد الرزاق أفيلال، في ملف يتعلق بجناية “المشاركة في تبديد أموال عمومية”، كما كان يتابع إلى جانبه (21) متهما، في حالة سراح، بينهم مسؤولون سابقون في جماعة عين السبع الحي المحمدي، ومهندسون ومقاولون وممونون، ومنعشون عقاريون، بتهم “المساهمة في تبديد أموال عمومية والمشاركة في استغلال النفوذ”. وتوبع كذلك عبد العزيز العفورة، العامل السابق لعمالة عين السبع الحي المحمدي في الدار البيضاء والسليماني ومن معه من أجل تهم «استغلال النفوذ والمساهمة والمشاركة في تبديد واختلاس أموال عمومية وتزوير محررات رسمية واستعمالها وتزوير أوراق تجارية وبنكية والارتشاء”.و يستمر استنزاف الدار البيضاء و جيوب أهلها بعد إفلاس شركة النقل الحضري دون مسائلة أو متابعة عن سبب الإفلاس لشركة رأسمالها من المال العام، وأيضا عملية التدبير المفوض الذي فوت إلى شركة ليديك، في إطار صفقة موجهة، دون الوقوف عل أسباب فشل الوكالة الحضرية للماء والكهرباء.
مدينة الدار البيضاء الممزقة
على إثر أحدات 1981 قرر النظام المخزني تقسيم الدار البيضاء إلى عمالات في إطار مقاربة أمنية، على حساب المقاربة الاجتماعية التي من شأنها إنقاذ ابنائها من البطالة و الفقر. وتم عزل أحياء عن بعضها البعض وإسراف أموال طائلة لبناء عمالات ومقاطعات إدارية وأمنية، وبقيت الدار البيضاء تتناسل فيها الجرائم والفساد ونهب المال العام . وتحت ذريعة التحديث في إطار برنامج “الدار البيضاء تتحرك”، رصدت له أموال طائلة تناهز 6.402 مليار درهم سنة ،2014 ولم يظهر منها ما يفيد بأن الدار البيضاء تحركت، بل لقد تم عزل الأحياء الشعبية عن باقي الأحياء في إطار عملية التوسيع فكانت المدينة القديمة ضحية الإهمال من حيث البنية التحتية والمحافظة على هياكلها التراثية من الدمار، فأصبحت كلما جادت السماء بأمطار الخير إلا وكانت الأحياء القديمة تعرف انهيار منازلها تباعا، في دروب المدينة القديمة حتى أصبحت تشكل خطرا على سكانها.
لقد غابت شركة لديك أيام الكارثة، فهذه الشركة التابعة ل “سويز” الفرنسية والمتعددة الجنسيات، حصلت على عقد من قبل إدريس البصري في عام 1997 لمدة 30 عاما، وهي تشتغل في ظروف مثيرة للجدل، فق قدرت أرباحها في نهاية ديسمبر 2015 إلى 6934 مليون درهم، وقوتها العاملة 3600 موظف. وتتضمن نشاطات الشركة الكهرباء، المياه، والصرف الصحي في مدينة الدار البيضاء، إلا أن التكلفة الذي يؤديها المواطن جد مرتفعة مقارنة بنوع الخدمات وستكشف أمطار بداية السنة الجديد هشاشة البنية التحتية وغياب الصيانة المستمرة وإنشاء قنوات بديلة وأخرى مساعدة لتصريف المياه العادمة والمياه الشتوية. لقد تكالبت على مدينة الدار البيضاء لوبيات الفساد ونهب المال العام من سماسرة العقار وشركات البناء فحولوا الساحات العمومية والمناطق الخضراء ومجاري المياه الشتوية إلى عمارات عشوائية وأحياء من الإسمنت مما جعل تصريف المياه العادمة أو المياه الشتوية أمرا مستحيلا، مما أدى إلى اختناق المصارف الصحية ومجاري المياه. لذلك وبناء على ما عرفته الدار البيضاء من استنزاف ومن نهب وفساد منذ بداية الاستقلال، لا بد من محاسبة كل من ساهم في تحويل الساحات والحدائق والمناطق الخضراء إلى بنايات عشوائية، ومحاسبة الشركات المسؤولة على التدبير المفوض ووزراء الداخلية والولاة والعمال والمجالس التي تعاقبت على تدبير شؤون مدينة الدار البيضاء حتى نبرء الأمطار من جرائم ارتكبها المسؤولون في حق هذه المدينة الشامخة المناهضة للحكرة.