كرونولوجيا الحركة النقابية العمالية بالمغرب
◆ عبد المجيد مصدق
أولا : الجذور التاريخية للنقابات العمالية
بدأت حركة العمال إبان الثورة الصناعية بأوروبا، عندما تضاءل عدد الوظائف في قطاع الزراعة و اتجهت موجة التوظيف نحو القطاع الصناعي. جابهت هذه الموجة مقاومة شديدة. أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان ثمة مجموعة اسمها “شهداء تول بودل”، كانت قد عوقبت لأنها شكلت نقابات، الأمر الذي كان مخالف للقانون آنذاك. الحركة كسبت تأييد ا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، والتي تطورت في 1981 لإصلاحات تتضمن حدودا لعدد ساعات يوم العمل، إلغاء عمل الأطفال، حق العمال في التنظيم، ومسؤولية الدولة في تنظيم شؤون العمال. عقب نشر وثيقة “بوب ليو” ، حيث بدأت الحركة العمالية تنتعش في أوروبا وبعد ذلك في قارة أمريكا الشمالية.
على مدار العالم، أدت حركة العمال إلى إصلاحات في حقوق العمال، مثل عطلة نهاية الأسبوع ، الحد الأدنى للأجور، العطلة مدفوعة الرسوم، والنجاح في جعل الحد الأقصى لعدد ساعات يوم العمل لا يتعدى ثاني ساعات. هنالك الكثير من النشطاء العماليين في التاريخ الحديث الذين ساهموا في صنع تغييرات ثورية في زمنهم، والتي تعد في الوقت الحالي عادية. على سبيل المثال، ماري هاري جونز المعروفة ب “الأم جونز”.
فقد تكونت الجماعات الأولى للعمال من الحرفيين في بريطانيا في سنة 1720، وبرزت الاتحادات المهنية الأولى تحت تسمية (الجمعيات)، مثل (جمعية الخياطين) في لندن و(جمعية عمال الصناعات الصوفية) في المنطقة الغربية من بريطانيا، وقد تعرضت النقابات في بريطانيا في كثير من الأحيان للقمع الشديد حتى عام 1824، ولكنها كانت سائدة بالفعل في مدن مختلفة كلندن. أُضفيت الشرعية على النقابات العمالية في عام 1824، إبان انضمام أعداد متزايدة من عمال المصانع إلى هذه الاتحادات في جهودها الرامية إلى تحسين الأجور وظروف العمل. تجلى النضال في مواقع العمل في بروز صراعات مختلفة كالتمرد الاسكتلندي عام 1820، حيث شرع 60 ألف عامل بإضراب عام، والذي ما لبث أن قُمع. منذ عام 1830، بُذلت محاولات لإنشاء نقابات وطنية عامة، كان أبرزها اتحاد نقابات العمال الوطنية الكبرى لروبرت أوين في عام 1834، والذي جذب طائفة من الاشتراكيين من أتباع أوين والثوريين. لعبت تلك المنظمة دورًا في الاحتجاجات بعد قضية شهداء تولباديل، لكنها سرعان ما انهارت.
كانت ثورة ميرثر أحد التطورات الهامة لحركة النقابات العمالية في ويلز في مايو 1831، حيث نزل عمال الفحم والصلب الذين يعملون لدى أسرة كراوشي القوية إلى شوارع مرثير تيدفيل، مطالبين بالإصلاح، احتجاجًا على خفض أجورهم والبطالة العامة. امتدت الاحتجاجات تدريجيًا إلى المدن والقرى الصناعية المجاورة، وبحلول نهاية مايو كانت المنطقة بأكملها في حالة تمرد. رُفع علم الثورة الأحمر لأول مرة في العالم، ـ وهو الذي تبنته حركة النقابات العمالية دوليًا والجماعات الاشتراكية عمومًا منذ ذلك الوقت
في أواخر ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشرـ، طغى النشاط السياسي على النقابات العمالية. كانت الميثاقية ذات أهمية خاصة، وأيدت معظم الهيئات الاجتماعية أهدافها رغم عدم قيام أي منها على ما يبدو بأدوار قيادية. وتعد الميثاقية حركة إصلاح سياسي من الطبقة العاملة في بريطانيا وكانت هذه الحركة قائمة في الفترة من 1838 إلى 1858. انبثق اسم الحركة من ميثاق الشعب لعام 1838 وكانت حركة احتجاج وطنية، ولها معاقل تأييد في إنجلترا الشمالية، وميدلاند الشرقية، وسستافوردشاير بوتريز، وبلاك كَنتري، وويلز فاليز الجنوبية. بلغ دعم الحركة ذروته في الأعوام 1839 و1842 و1848، عندما قُدّمت العرائض التي وقعها ملايين العاملين للبرلمان. كانت الاستراتيجية المُتبعة تتمثل بتوظيف نطاق الدعم الذي حظيت به هذه العرائض والاجتماعات المرافقة لها للضغط على السياسيين للتنازل عن حق اقتراع الرجال فقط. اعتمدت الميثاقية على الطرق الدستورية لتأمين أهدافها، رغم وجود البعض ممن انخرطوا في أنشطة التمرد، ولا سيما في جنوب ويلز ويوركشاير. لم ترضخ الحكومة لأي من المطالب، وكان لزامًا على الاقتراع أن ينتظر عقدين آخرين من الزمان. اشتهرت الميثاقية بين بعض النقابات العمالية، وخاصة بين الخياطين وصانعي الأحذية والنجارين وعمال البناء في لندن. كان الخوف من توافد العمالة غير الماهرة أحد الأسباب وراء ذلك، في مانشستر وغلاسكو، اضطلع المهندسون بشدة في الأنشطة الميثاقية. نشطت العديد من النقابات العمالية في الإضراب العام لعام 1842، والذي امتد إلى 15 مقاطعة في إنجلترا وويلز، وثمانية مقاطعات في اسكتلندا. علّمت الميثاقية التقنيات والمهارات السياسية التي ألهمت قيادة النقابات العمالية.
استُبعدت النساء إلى حد كبير من تشكيل النقابات العمالية وعضويتها وتسلسلها الهرمي حتى أواخر القرن العشرين. وتعزى محاولة تحدي النساء لسيطرة الذكور وشق الطريق نحو التمثيل في النقابات والاتحادات العمالية بصورة كبيرة إلى مثابرة المصلحين من الطبقة المتوسطة مثل رابطة حماية المرأة ووقايتها التي سعت إلى مناقشة الظروف بشكل ودي مع أصحاب العمل في سبعينيات القرن التاسع عشر. أصبحت فيما بعد تسمى رابطة نقابات العمال النسائية. انفصل الاشتراكيون المتشددون عن رابطة حماية المرأة وشكلوا اتحاد نقابات العمال النسائية، ولم يكن لهم تأثير يذكر. وكانت هناك بضع حالات اتخذت فيها النساء كقيادات للنقابات العمالية وأخذن زمام المبادرة في القرن التاسع عشر. لعبت النساء دورًا أساسيًا في إضراب غرب يوكشاير عام 1875.
أما في فرنسا فقد أقيمت التعاونيات التي اقتصرت أهدافها على زيادة الأجر، كذلك قام شكل آخر من التجمعات سُمي (الزماليات الفرنسية) التي كانت تضم عمالاً من أوساط مهنية مختلفة متجاوزين بذلك حدود المهنة، وكان قانون ( لوشابليه) عام 1791م أحد النصوص الأولى التي أشارت إلى وجود تنظيمات الأُجراء الدائمة في فرنسا. وفي ألمانيا لم تولد النقابة التعاونية كما هو في فرنسا، ولكن بتأثير من فرنسا بدأ عمال بعض الحرف وعلى الأخص أولئك الذين يعملون في صناعة القبعات بإقامة تنظيمات عمالية كانت على شكل نقابات وبدأت الأشكال النقابية بالظهور.
فمع تطور النهضة الصناعية في أوربا وظهور الآلات البخارية، وبعد تطبيق نظام (الأسيجة) الذي سمح لملاك الأراضي وضع أيديهم على أراضي الفلاحين وطردهم منها بعد تحويلها إلى مراعي محمية، نزحت أعداد هائلة من الفلاحين إلى المناطق الصناعية مما أدى إلى توافر قوى عاملة رخيصة محرومة من جميع وسائل العيش، وانتشر البؤس والآفات الاجتماعية كالبطالة والفقر والإجرام وغيرها، إضافة إلى انتشار اضطهاد العمال واستغلالهم مع عدم توفر ضمانات السلامة للعمال، فأصبحوا يموتون أو يصابون بعاهات دون وجود نظم الضمان والحماية الاجتماعية.
ففي 4 ماي عام 1886 كان الإضراب الشهير الذي سُمّي بقضية (هاي ماركت) الذي طالب العمال فيه بتحديد ساعات العمل بما لا يزيد عن ثماني ساعات يومياً، الأمر الذي لم يَرُقْ للسلطات وأصحاب المعامل، خصوصاً أن الدعوة للإضراب حققت نجاحاً كبيرا وشلّت الحركة الاقتصادية في المدينة، مما دفع بالشرطة لإطلاق النار على العمال المضربين، وقد ذهب ضحية تلك المظاهرة وأعمال شغب التي حدثت في ميدان هاي ماركت في مدينة شيكاغو العشرات من العمال وبضع رجال من الشرطة، لقد تجاوزت قضية هاي ماركت أسوار أميركا وبلغ صداها العالم، وقد أحيا المؤتمر الأول للأممية الاشتراكية ذكراها في العاصمة الفرنسية باريس عام 1889 وأصبح الأول من ماي احتفالاً دولياً للإنجازات الاجتماعية والاقتصادية للحركة العمالية.
كل هذه الظروف المأساوية دفعت العمال لتنظيم صفوفهم وبدؤوا بتشكيل صناديق الزمالة وصناديق التعاضد فيما بينهم درءاً للأخطار الاجتماعية، ثم ما لبثت تلك المنظمات البدائية أن تطورت لتصبح منظمات أكثر اتساعاً وذات أسس تنظيمية وأنظمة داخلية، واقتصرت أهدافها في البداية على الدفاع عن حقوق أعضائها ومصالحهم، وزيادة الأجور، ثم اكتسبت النقابات صفة سياسية وأصبحت تشارك في قضايا النهوض الاقتصادي والتنمية والإصلاح السياسي.
بعد الأحداث المأسوية للطبقة العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية بدأت النقابات العمالية بالتشكل في منتصف القرن التاسع عشر كاستجابة للتأثير الاجتماعي والاقتصادي للثورة الصناعية. فبدأت النقابات العمالية الوطنية بالظهور في الحقبة التي تلت الحرب الأهلية. حيث ظهر اتحاد «فرسان العمل» كقوة عظمى في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، ولكنه انهار بسبب قلة التنظيم وضعف الإدارة والاختلاف على أهداف الاتحاد والرفض الذي قابله من أصاحب العمل والقوى الحكومية.
أظهر اتحاد العمال الأمريكي الذي أسسه وأداره سامويل كومبرز عام 1886 وحتى وفاته عام 1924 متانة واستمرارية أكبر. ظهر الاتحاد بوصفه ائتلافًا لمجموعة من مختلف النقابات المحلية. ساعد في دعم وتوجيه الضربات حتى أصبح لاعبًا أساسيًا في السياسة الوطنية.
استفادت النقابات العمالية الأمريكية بشكل كبير من سياسات الصفقة الجديدة التي أبرمها فرانكلين ديلانو روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي. فقد أسهم قانون علاقات العمل الوطنية لعام 1935 على وجه الخصوص في دعم الحق القانوني في تنظيم النقابات.
على الصعيد الدولي
خلال الفترة من 1844 إلى 1918م بدأ التنظيم النقابي بتشكيل تنظيمات عمالية نقابية ذات طابع دولي تخطت الحدود القومية وتجاوزت الأطر الوطنية للبلد الواحد من أجل حماية الطبقة العاملة، وكانت من الواجهات الرئيسية للشيوعية العالمية والأحزاب الاشتراكية، وقد أعطت ثورة أكتوبر في روسيا دفعة جديدة لهذه الاتحادات التي بدأت تنشر فروعها في جميع أنحاء العالم، وقد كانت النقابات إحدى وسائل الشيوعية في الانتشار في العالم وبالذات في دول العالم الثالث.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى تنادت النقابات في العالم إلى تأسيس اتحاد نقابي عالمي يجمع كل النقابات في العالم، وبدعم من الكتلة الاشتراكية تأسّس اتحاد النقابات العالمي في باريس عام 1945 م مما دعا الكتلة الرأسمالية ممثلة في دول أوربا الغربية وأمريكا إلى تأسيس اتحاد نقابي آخر أطلق عليه الاتحاد الدولي للنقابات الحرة.
في روسيا القيصرية قامت الثورة الروسية الأولى في العام 1905 احتجاجًا ضد الاستغلال والحرمان والاستبداد. وجاءت هذه الثورة في سياق نضالاتٍ عمالية وفلاحية كانت آخذة في التطوُّر منذ أعوامٍ عديدة. في 9 يناير 1905، خَرَجَ آلاف العمال في سان بطرسبورج -العاصمة آنذاك- في مسيرةٍ حاملين عريضة بقيادة قس يُدعى جابون، إلى قصر القيصر مطالبين إياه أن ينصفهم بأجورٍ عادلة، وحرياتٍ مدنية، وأن يمنح الفلاحين أرضًا، ويهب الشعب بأسره جمعيةً تأسيسيةً بالاقتراع العام المتساوي، فاستقبلتهم النيران، وقتل وجرح الكثيرين، كان ذلك هو ما أُطلِقَ عليه “يوم الأحد الدامي، كانت هذه هي البداية المتواضعة للثورة الروسية التي سرعان ما قَفَزَت لتصبح إحدى أكثر الثورات إلهامًا في التاريخ.
ظلَّ لينين حتى وقتٍ متأخِّر يرى هزيمة ديسمبر 1905 هزيمةً مؤقَّتة قد تعطِّل مسار الثورة بعض الوقت، لكن فقط ليندفع في انطلاقٍ أكبر في المستقبل المنظور (وربما تدفعه في ذلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة). فكَتَب يقول “قد ترك القمع العميق للثورة بصمةً قويةً في عقول كلِّ المشاركين فيها… ولذلك، حتى أولئك الناس ذوي الشخصيات الثابتة قد يفقدون عقولهم لفتراتٍ قصيرةٍ أو طويلة، فلا يستطيعون مواكبة الأحداث ولا يتقبَّلون حقيقة أن التاريخ غيَّر مجراه”.
واستمرت الأوضاع في الأزمة إلى حين قيام أول ثورة تاريخية قادتها الطبقة العاملة في أكتوبر 1917 قبل سنة من نهاية الحرب العالمية الأولى، في بدايات الثورة قاتل القادة النقابيون من خلال الحزب الثوري أمثال لينين وتروتسكي من أجل أن تتمكن البروليتريا من ملكية وسائل الإنتاج لفتح الطريق نظريا إلى تحطيم أسوار الطبقية أنظمة وفكرا، والتي أدت في الحقيقة إلى مصالح إنتاج الدولة بدلاً من مصالح العمال المباشرة تعويضات و سلامة، حيث لا يمكن للنقابات مواجهة أي درجة من ظروف العمل غير الآمنة أو الأجور المنخفضة إذا قرر الحزب البلشفي والدولة أنه يجب تقديم التضحيات.
لم يكن كل شيء غير متعاطف خلال هذه الحقبة. عاش الكثير من الناس حياة فقيرة ولكن متفائلة وتحسنت نسبيًا مع مرور الوقت بعد معارك محاربة الأمية وتكوين عمال مهرة ساهموا من بعد في تسيير المؤسسات الإنتاجية التشاركية.
فعلى عكس النقابات في الغرب ، فإن التنوع السوفيتي سابقا لم يكن يناضل من أجل المصالح الاقتصادية للعمال. إنها أحزمة ناقلة لتعليمات الحزب، ويحملون عقوبات ومكافآت لموظفي المزارع الصناعية والجماعية، كانت نقابات العمال السوفيتية تعمل مع صاحب العمل والحكومة وليس ضدها. وكان ينطبق الشيء نفسه على النقابات العمالية في دول الكتلة الشرقية سابقا، وكذلك الشأن في الصين الشعبية بعد ثورة ماو تسي تونغ التي قادتها الطبقة العاملة خصوصا المرتبطة بالقطاع الزراعي حيث تخضع أيضًا للحزب وللتخطيط الاقتصادي للدولة.
ولا يفوتنا هنا بالمناسبة التذكير بذكرى مرور سنتين بعد مائة عام على عقد المؤتمر التأسيسي للأممية الشيوعية الثالثة في موسكو. بين 2-6 مارس1919 وعلى الرغم من أن الرحلة كانت صعبة بسب الحرب الأهلية الشرسة والحصار الإمبريالي شارك 51 مندوبا في المؤتمر وكان لدى 35 منهم حقوق كاملة في التصويت ومثلوا 17 منظمة، و16 مندوبا لهم صوت استشاري مثلوا 16 منظمة أخرى. وعلى مدى الأعوام التالية سينضم ملايين العمال من أصحاب الآراء الثورية حول العالم إلى الأحزاب الشيوعية وإلى الأممية الثالثة.
وكذلك الجهود التي بذلت لتوحيد النقابات، ففي ظل أحداث الحرب العالمية الثانية، وكيفية قيام النقابات الشيوعية بخطوات هامة ومدروسة بدقة من أجل بلورة عملية بناء ومأسسة اتحاد النقابات العالمي، وسط التأكيد على أهمية أن تكون قوة نقابية ثورية مدافعة عن مصالح الطبقة العاملة، ورفض التوجهات الإصلاحية – المهادنة، القائمة لدى قوى نقابية قائمة خاصة في ظل الدول الرأسمالية.
عقدت جلسات المؤتمر التحضيري بلندن في فبراير 1945، وكانت الطائرات الألمانية تشن هجماتها على لندن، لكن ذلك لم يردع أعضاء المؤتمر من مواصلة أعماله، متحلّين بشجاعة قيادات نقابية بصمت أثرها على صفحات التاريخ من أجل غد مشرق للبروليتاريا في حربها المزمنة داخل نفق الصراع الطبقي.
ثانيا : نبذة عن مسار الحركة النقابية بالمغرب
الحركة النقابية بالمغرب قبل الاستقلال
كان المغرب قبل دخول الاستعمار بلدا فلاحيا، وكان المحتلون في حاجة لاستقدام الموظفين والعمال من فرنسا ومن بعض الدول الأوربية لتنفيذ سياستهم الاستعمارية، هذا الوضع شكل بؤرة لانتقال العمل النقابي عن طريق العمال سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص من فرنسا، في انتظار تكوين مستخدمين وعمال مغاربة وهكذا بدأ العمال بتشكيل نوع فتي من النقابات بداية بما سمي بالجمعية العامة في ماي 1919، إذن فقد برزت الطبقة العاملة المغربية مع دخول نمط الإنتاج الرأسمالي إلى المغرب الذي صاحب عملية استعماره من طرف فرنسا.
وقد قام الموظفون بدور حاسم في نشأة هذه الحركة، وإن كانوا لا يشكلون مجموعة منسجمة. إذ كان التمييز واضحا من جهة، بين الموظفين «القدامى» الذين جاءوا إلى المغرب قبل الحرب العالمية الأولى ولهم ما يحتاجونه بدون أن يتوفروا على الدبلومات المطلوبة، ومن جهة ثانية، بين الموظفين الجدد، ومعظمهم شباب في بداية حياتهم المهنية، لتنطلق القافلة النقابية بودادية التعليم الابتدائي بالمغرب :1920- 1922، الجمعية الودادية لبريد المغرب، ودادية التعليم الثانوي للمغرب، ودادية الإدارة العامة للأشغال العمومية، ودادية السكك الحديدية، وكانوا يعملون تحت بنود القانون الخاص بالجمعيات المسموح لها بالنشاط من طرف كتابة الحماية بموجب ظهير 24 مايو 1914 الصادر في الجريدة الرسمية في نفس السنة، بإشراف المقيم العام الجنرال ليوطي. كما أن بعض النصوص كانت تشكل خطاطة أولية لتشريع الشغل، فكان على مدة العمل ألا تتجاوز عشر ساعات بالنسبة للنساء والأطفال (ظهيري 1926 و 1928)؛ كما تم إنشاء فرقة لمفتشي الشغل، إلا أنها كانت تضم في 1930-1931 مفتشين معدودين على رؤوس الأصابع بالنسبة للمغرب برمته. ومهما يكن من أمر، فإن كثلة اليد العاملة المغربية التي اجتذبتها قطاعات الإنتاج العصرية بشكل موسمي أو نهائي استمرت في النمو، ويمكن تقديرها بأكثر من 100000 شخص سنة 1929، غير أن هذه الحركة كانت لها مميزات مختلفة في القطاعات الخاصة والعمومية والقطاعات ذات الامتياز.
ففي السكك الحديدية للمغرب بدا مستخدمو هذه الأخيرة هم الأكثر نشاطا. إذ بعد إنشاء اللبنة الأولى بالقنيطرة سنة 1924، أسسوا الجمعية الودادية المهنية يوم 27 أكتوبر 1925، وكان السككيون، الذين تم تشغيلهم كمُياومين، يريدون نظاما أساسيا يحدد شروط عملهم، ويريدون تطبيق الأجور الميتربولية بزيادة 35%، وإنشاء صندوق التعاون، ومجانية العلاج الطبي والأدوية، وتشكيل مجلس تأديبي ولجنة للترقية. وأمام رفض الإدارة مناقشة هذه المطالب شنوا الإضراب المغربي الأول أيام 5 و6 و26 من مارس 1926 بفرنسا وكان لها مناضلون في المغرب. وفي إطار التضامن كونت لجنة عمل ضد حرب الريف في إطار نقابة (س.ج.ت)، وكان للحزب الاشتراكي الفرع الفرنسي للأممية العالمية أنشطة مكتفة في ذلك، وتشكلت الفدرالية الاشتراكية للمغرب في فروعه الذي كان أولها بالرباط ، وقد أعطى الاشتراكيون والشيوعيون دفعة هامة للعمل النقابي بالمغرب بحيث انصبوا على تكوين العمال من خلال عروض وندوات مستغلين كل المناسبات والفرص المتاحة وكانت فئة المعلمين هي النواة الصلبة لتكوين العمل النقابي.
تم في يونيو 1930 إنشاء اتحاد جهوي جنيني للكونفدرالية العامة للشغل ك.ع.ش. بالدار البيضاء، النسخة المغربية في ارتباط مع النقابة المركزية بفرنسا، دون أن تعارضه الإقامة العامة. وكان هذا نتيجة لعمل مزدوج: أي العمل التنظيمي الذي قامت به بعض مجموعات الموظفين منذ 1919، وكذا طموح ك.ع.ش. إلى بسط نفوذها على إفريقيا الشمالية بكاملها وتوسيع قاعدتها على حساب منافستها الكونفدرالية الوحدوية.
وتجدر الإشارة إلى أن قمة المطالبة بالحق النقابي كانت بين سنتي 1928- 1929، من طرف كزانوقا وهو اشتراكي ومندوب عن مراكش وقد قدم مطلبا «بتفويض من زملائه إلى مجلس الحكومة» يوم 10 يناير 1928، واستند في ذلك إلى التنامي الهائل لليد العاملة الأوربية بالمغرب وإلى ضرورة استفادة الشغيلة من قوانين اجتماعية مماثلة للقوانين الفرنسية، وإنشاء منظمات للدفاع عن العمال؛ ثم طالب بتطبيق القانون الفرنسي الذي يمنح الحق النقابي ويسري على الجميع.
وعموما ظهرت هذه المجموعات النقابية منذ الاحتلال الفرنسي للمغرب إلى جانب أو ضمن المجتمع المغربي التقليدي، وكانت تضم، مقابل أرباب العمل و المستوطنين الكبار وسلطات الحماية، الموظفين والمأجورين الفرنسيين، وكان بعضهم نقابيين واشتراكيين أو شيوعيين، وكذا الكتلة المتنامية من العمال المغاربة المنخرطين ضمن العملية العصرية للإنتاج و المبادلات، والتي تمثل جنينا بروليتاريا غير محدد الملامح وذا شعور غير ثابت إلى حين ارتباطه بعناصر الحركة الوطنية حيث ستندمج الحركة النقابية في العمل على محاربة الاستعمار لاحقا.
ومهما يكن من أمر، فإن كثلة اليد العاملة المغربية التي اجتذبتها قطاعات الإنتاج العصرية بشكل موسمي أو نهائي استمرت في النمو، ويمكن تقديرها بأكثر من 100000 ما بين ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي تحت الاحتلال الفرنسي،علما أنه لم تتردد الإقامة العامة في منع المغاربة من الانخراط في النقابات بمرسوم 24 يونيو 1938 متذرعة بأحداث وقعت في مناجم الفوسفاط.
ويمكن القول إن الطلائع الأولى من النقابيين المغاربة استفادوا من نظرائهم الفرنسيين والأوروبيين، في كيفية العمل النقابي والتشريعات المرتبطة به وهو ما جعل عناصرها تتطور إلى حين إنشاء اتحاد النقابات الكونفدرالية عام 1946 الذي أصبح اتحاد النقابات المستقلة عام 1950 وفي نفس الإطار لا بد من التذكير ببداية العمل ولو بشكل متقطع مع العناصر النقابية الجزائرية والتونسية باعتبار خضوعهم لنفس الاستعمار وتحت رايات نفس النقابات الفرنسية، وسيتوج هذا العمل بالتضامن مع الاتحاد التونسي للشغل إبان اغتيال الشهيد المناضل فرحات حشاد والذي شكل اغتياله خطوة مهمة للعمل المشترك لتحرير دول المغرب العربي، ولا يفوتنا التذكير أنه في المغرب قد صدر أول تشريع يتعلق بشأن النقابات سنة 1936، إلا أنه كان يمنع المغاربة من الانتماء النقابي ويقصره فقط على الأوربيين ويخضع لعقوبات زجرية كل الذين ينخرطون في نقابة ما، إلى أن جاء ظهير 12 شتنبر 1955 الذي نص صراحة على السماح للمغاربة بالانتماء النقابي حيث ظهر أول تجمع نقابي خاص بالمغاربة، هذا الحق سيتم تنظيمه بمقتضى ظهير 16 يوليوز 1957.
فالنقابة كانت تمارس جاذبية لا تقاوم على العمال الجوعى المتروكين عرضة للاستغلال الوحشي، فيما كان المناضلون النقابيون متعطشين للكفاح، ومع ذلك كان بعض القادة الاستقلاليين يحثون سريا على الانخراط في النقابات. ولم يتخذ حزب الاستقلال موقفا مساندا إلا في سنة 1948.
في الطريق إلى تأسيس إطار نقابي مغربي
وينبغي التأكيد على موقف بعض قادة الحزب الجهويين مثل السيد بوشتى الجامعي الذي صرح سنة 1948 للطيب بن بوعزة، بعد أن قدم إلى الدار البيضاء مطرودا من ناحية وجدة، بأن النقابات هي مركز للشيوعية، وضرب له المثل بعلي يعتة الذي بدأ كما قال بالانخراط في نقابة المعلمين مع ميشيل مازيلا، قبل أن يجعل منه هذا الأخير مسيرا مقتنعا بالشيوعية، وبعد ذلك طلب الجامعي من المرحوم بن المكي، وكان عاملا في شركة كوزيمار ومقاوما كبيرا، أن يرافق الطيب إلى الفندق، وهو الاسم الذي كان يطلق على منزل الشهيد إبراهيم الروداني، وهناك مكث الطيب حتى حصل على سكن وعمل بمساعدة عبد الرحمان اليوسفي وبناصر حركات
ولم تتدفق جماهير العمال إلا في سنة 1946، إذ وفدت من مختلف المهن، الموانئ، البناء، السكك الحديدية، الأوراش العسكرية التابعة للطيران، السدود، المناجم وغيرها
واستفادت الحركة النقابية من وصول المقيم العام الفرنسي الجديد ايريك لابون الذي تقمص الليبرالية، وبدأت تعمل في واضحة النهار
وفي المؤتمر المنعقد بمراكش يومي 30 نوفمبر/تشرين الثاني و1 ديسمبر/كانون الأول 1946 أصبح اتحاد نقابات (س.ج.ت) يحمل اسم الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب. تضافر هذا الجهد مع نظيره لدى مناضلي الكونفدرالية العامة للشغل والحزب الشيوعي الذين قرروا تسريع وتيرة تحويل الاتحاد العام للنقابات المتحدة إلى اتحاد نقابي مغربي. هكذا كانت سنوات 1950ـ 1951 مطبوعة بنشاط دعاوي كثيف، واستقطاب، ونضالات مطلبية كان بعضها بالغ الضراوة، من أجل رفع الأجور، واحترام الحريات وإلغاء صنوف الميز، ومن أجل الحق النقابي. وأثمرت النضالات سياسيا، حيث استنكرت منظمة الاتحاد العام، ما يبديه أرباب العمل والإقامة العامة من قمع،وطالبت بضرورة إلغاء نظام الحماية بما هو “مصدر كل الشرور” (مقرر مؤتمر الدار البيضاء يومي 10 و11 نوفمبر 1950.
بعد أن كان الطيب بن بوعزة عضوا باللجنة التنفيذية للاتحاد العام للنقابات المتحدة منذ مارس 1948، جرى انتخابه عضوا بالمكتب في يونيو 1950. وفي نوفمبر 1950 بات أمينا عاما إلى جانب أندريه لوروا. الذي طرده
بعد نقاش مع مناضلي الاتحاد العام للشغل وفيما يخص استئناف الحركة النقابية، في (2ـ 4 أبريل 1954)، ارتأى الطيب بن بوعزة مع المحجوب بن الصديق والتباري أن عليهم خلق اتحادهم النقابي الخاص دون أي اعتبار آخر. وفيما سافر المحجوب بن الصديق إلى فرنسا للاتصال مع وفد من الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة، أعاد الطيب ربط الصلات محليا مع المناضلين والمجموعات العمالية السرية وخلايا المقاومة. ويوم 5 يناير 1955 أصدر، بمعية المحجوب بن الصديق والتباري، بيانا من أجل اتحاد نقابي مغربي منخرط في الكونفدرالية الدولية للنقابات الحرة، وهي المهمة التنظيمية التي اضطلع بها حتى النهاية يوم 20 مارس بتنظيم مؤتمر تأسيس الاتحاد المغربي للشغل في منزله بالدار البيضاء. كيف ولماذا وُضع الطيب في المكانة الثانية نائبا للأمين العام بعد المحجوب بن الصديق رغم أصوات أغلبية المؤتمرين التي جعلته أمينا عاما؟ ترتب عن ذلك حالة توتر أفضت بعد عامين في 1958 إلى انصراف الطيب بن بوعزة الذي جرى تعيينه سفيرا في يوغوسلافيا من قبل حكومة عبد الله إبراهيم. وواصل لاحقا مسارا دبلوماسيا.
الحركة النقابية بعد الاستقلال
الاتحاد المغربي للشغل
يوم الأحد 20 مارس 1955 وكان المغرب لا زال تحت الاحتلال، تأسست أول مركزية نقابية مغربية “الإتحاد المغربي للشغل”، بمنزل رئيس اللجنة التحضيرية الطيب بن بوعزة، وبحضور 57 مناضلا نقابيا مغربيا من الذين سبق لهم أن نشطوا في فروع المركزيات النقابية الفرنسية التي كانت موجودة في المغرب، حيث صوت المؤتمرون على أعضاء اللجنة الإدارية، ثم أعضاء المكتب الوطني. فانتخب الطيب بن بوعزة أمينا عاما والمحجوب بن الصديق نائبا له، وقد اعتبر الأمين العام هذا اليوم صفحة مجيدة في تاريخ الحركة النقابية.
غير أن الواقع كان لم يكن كذلك، فقد روى محمد الصديق، وهو من مؤسسي للاتحاد المغربي للشغل وعضو في أول مكتب وطني، “أن المحجوب بن الصديق انتقد قرار اللجنة الإدارية وأكد أحقيته بمنصب الكاتب العام بدعوى علاقاته الخارجية، فاضطرت اللجنة الإدارية إلى عرض الأمر على المؤتمرين الذين زكوا الطيب بن بوعزة من جديد في منصب الأمين العام بأغلبية ساحقة. لكن بعد أخذ ورد تم إرسال التقرير إلى وكالة الأخبار برفقة محمد الصديق الذي يضيف قائلا “لكن المفاجأة كانت عظمى ونزل الخبر كالصاعقة حينما نشرت وكالات الأخبار والصحافة الدولية في اليوم الموالي الخبر الذي ورد فيه أن المحجوب بن الصديق أمين عام عوض الطيب بن بوعزة
بعد انقسام حزب الاستقلال إلى شطرين سياسيين، فصلت النقابة عن كلا الحزبين رغم كل المحاولات التي قام بها أعضاء الحزب الجديد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية التي توجد بعض قيادته ضمن قيادة النقابة لترك النقابة تحت مظلة الحزب، والملحوظ في هذه النقابة أن ظل اليسار أيضا حتى الآن يعمل في صفوفها.
الشهيد عمر بنجلون، ومقاومة التحريف السياسي، والنقابي
كان الهدف الأساسي لاستهداف الشهيد عمر بنجلون، هو التحاقه بالاتحاد المغربي للشغل، كنافذة للارتباط بالطبقة العاملة، وقيادته لنقابة البريد، وحرصه على ديمقراطية، وتقدمية، وجماهيرية، واستقلالية، ووحدوية العمل النقابي، في إطار النقابة التي كان يقودها، وفي التنظيم المركزي للإتحاد المغربي للشغل الذي كان منضويا تحت لوائه أنداك، رغم ما تعرض له من تعذيب، من أجل ثنيه عن العمل على جعل الاتحاد المغربي للشغل، نقابة مبدئية، فمند البداية ارتبط عمر بالصراع من أجل إرساء العمل النقابي الديمقراطي المعبر عن الجماهير، إلى جانب عمله على ترسيخ الفكر الاشتراكي العلمي في صفوف الحركة الاتحادية، من أجل قيام الدولة الديمقراطية، ودولة الحق، والقانون، التي ترعى مصالح الكادحين، وطليعتهم الطبقة لعاملة، وتحمي تلك المصالح.
لقد عمل من أجل الانخراط الجماعي في مقاومة كافة أشكال التحريف التي تستهدف الممارسة النقابية، ومن أجل نقابة مبدئية تسعى إلى تحقيق الوحدة النقابية، تجاه تردي الأوضاع المادية، والمعنوية للعمال، وباقي الأجراء. الأمر الذي أقلق النظام، ومعه الرجعية الظلامية بكل أنواعها، وهو ما أدى غلى قيام تحالف رجعي / ظلامي، قام بتصفيته جسديا، في عز النهار، في 18 دجنبر 1975، وأمام منزله، وأمام أنظار الجماهير الشعبية الكادحة، من أجل بث الرعب في صفوف الحركة العمالية، واليسارية، والتقدمية، والديمقراطية، ومن أجل أن لا تجد أفكاره المنتظرة طريقها إلى الجماهير الشعبية الكادحة، وفي طليعتها الطبقة العاملة، بيد أنه وللتاريخ فلولا عمل الشهيد عمر من خلال نضالاته النقابية المتعددة فكرا وممارسة ما كان لنقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل أن ترى النور بعد استشهاده بثلاث سنوات، حيث أسس الأرضية وطور الحاضنة المستقبلية لاستقبال ذلك المولود الجديد.
وقد كانت مؤاخذات عمر لتسيير النقابة في تحولها للجانب الخبزي ولصراعه من أجل حفاظها على هويتها الكفاحية واستقلاليتها عن الدولة، وشفافيتها المالية.
الكونفدرالية الديمقراطية للشغل
ظلت النقابات القطاعية والفئوية تخوض الحرب ضد اختيارات النظام وأذياله خارج إطار نقابة الاتحاد المغربي للشغل، بعد اغتيال الشهيد عمر بنجلون، إلى أن تأسست الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في 26 نونبر 1978، وأصبح رجل التعليم المناضل محمد نوبير الأموي في قيادتها، هذا الأخير سبق أن اختاره الشهيد المهدي بن بركة مسؤولا عن اللجنة العمالية بالرباط في 1963. وبدأت في هذه المرحلة قصة الأموي مع الاعتقالات والمضايقات السلطوية في ذروة الاستقطاب بين النظام والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والكونفدرالية مدينة للشهيد عمر بن جلون إذ أن كل النقابات العمالية القطاعية القوية التي انضمت إليها، سهر الشهيد على وحدتها واستمرار تلاحمها وقوتها وكانت تعتبره رمزا وملهما لها.
من خلال معرفة أعضاء قيادة الكونفدرالية الديمقراطية وأغلبية قواعدها سيبدو لافتا للنظر أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إذاك والذي خرج من جبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لم يستطع الحفاظ بعد ذلك على علاقة التكامل مع النقابة.
وتمثل سنة 1979 سنة فاصلة في تاريخ الحركة النقابية المغربية، إذ شهدت مستوى ديناميكي ونضالات غير مسبوقة في مواجهة اختيارات النظام، وهي النضالات التي دفعت الدولة إلى التفاهم على الساحة السياسية، وهو ما دفع بالاتحاد لبناء قاعدة انتخابية لتحسين المكانة في المؤسسات تحت شعار الإصلاح من داخل النسق السياسي، ولأن النظام له حساباته فقد فتح كوة داخل نفق الاستبداد، والانفراج المحدد المعالم بخطوطه الحمراء، بيد أن الأوضاع الاجتماعية التي كانت تتفاقم يوما بعد يوم في مقابل إفراغ الخزينة اتجاه المتطلبات العسكرية للحفاظ على أراضينا الجنوبية قد أدى إلى تأزم الأوضاع، وكان على النقابة الفتية أن تظهر وجودها وقوتها، بعد أن لم يكن من الممكن لشعارات التعبئة التي اعتمدتها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بانتقاد “البيروقراطية” و”الجهاز البرصوي” و”المتاجرة بالنضالات” لتبني صرحا نقابيا خارج النضال على أرض الواقع، فقد بدأت الإضرابات القطاعية الواحدة تلوى الأخرى إلى أن وصلت إلى ذروته.ا
إضراب 11-10-9 ابريل 1979
من أهم الخطوات النضالية، الذي به ستؤسس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل وجودها ميدانيا، كان الإضراب ذو الطابع السياسي وكان ببعد قومي في 30 مارس 1979 تضامنا مع الشعب الفلسطيني، الذي عرفت قضيته جريمة تاريخية بعد زيارة أنور السادات إلى الكيان الصهيوني وما تلا ذلك من مسلسل استسلامي في كامب ديفيد، وقد تلته اعتقالات و طرد من العمل، حيث أن النظام ساهم في هذه الجريمة في حق الشعب الفلسطيني والتي يعتبرها المغاربة قضيتهم الأولى وقضية تحرر، هذا التحرك منح للنقابة بعضا من المصداقية لدى عموم الشعب المغربي.
وفي سياق تردي أوضاع الشغلية وجل الطبقات الشعبية، لدرجة أن مسؤولا أعلن لصحيفة لوموند الفرنسية، بأن أدنى حد للأجور هو الموجود في المغرب، فقد ظلت الأجور جامدة، لمدة أكثر من عقد من الزمن، وحدث انزلاق فضيع للقدرة الشرائية للعمال، بفعل التضخم وارتفاع أسعار جل المواد الغذائية والخدمات الأساسية.
كل هاته الأوضاع المتأزمة دفعت ب ك.د.ش لإعلان الإضراب الشهير في9\10\11 أبريل 1979، والذي قادته النقابات الوطنية الثمانية المؤسسة للكونفدرالية الديمقراطية للشغل وهي : البريدـ الفوسفاط- التعليم – الصحة – السكر والشاي – الماء والكهرباء- سكك الحديدـ النقل.
شملت موجة الإضرابات القطاعين العام والخاص على السواء، وضربت قطاعات استراتيجية، متحدية النظام منذ إرسائه ما سمي بالإجماع الوطني حول قضية الوحدة الترابية والعبث بقضيتنا الوطنية للتغطية على الانهيار الاجتماعي.
اعتبرت الدولة الوضع الاقتصادي والمالي غير مناسب لتلبية المطالب، واعتبرت وزارة الداخلية الإضراب سياسيا، فلجأت إلى القمع بشدة لوقف موجة النضالات، لاسيما لما قررت نقابة التعليم الإضراب القابل للتمديد كل 48 ساعة إلى غاية تحقيق المطالب. وقد استهدف التنكيل نقابتي التعليم والصحة بوجه خاص متخذا شكلي الاعتقال و الطرد من العمل، وقد كانت حصيلة القمع المخزني كالتالي :
ـ الصحة 54 معتقل حوكم منهم 26.
ـ التعليم 584 معتقل حوكم منهم 204.
ـ المطرودون 708 بالتعليم و بالصحة 99 مطرود و 79 موقوف مؤقتا.
وقامت الدولة بمحاصرة مقرات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لمنع الاجتماعات و التجمعات، ومع تتالي القمع وصمود المناضلين اضطرت الدولة إلى تقديم تنازلات، حيث أعلن وزير العدل في خطاب يوم 27 أبريل 1979 التدابير التالي:
1ـ تراجع عن الزيادة في سعر الماء والكهرباء.
2ـ رفع الأجر القانوني في الصناعة و التجارة بنسبة 30% و في الزراعة بنسبة 40% و التزم بزيادة 10 % ابتداء من يناير 1980.
3ـ زيادة 10% في رواتب الموظفين ابتداء من مايو 1979 و 5 % ابتداء من يناير 1980.
أدى رد الدولة العنيف، إلى تراجع وتيرة الإضرابات لكن دون تحقيق تهدئة تامة للوضع الاجتماعي. وكانت من أبرز المعارك العمالية اللاحقة إضراب عمال تكرير البترول لاسمير طيلة شهر في صيف العام 1980. وهو الصيف الذي شهد قرار الحسن الثاني القاضي بإرجاع النقابيين المطرودين بقطاعي التعليم والصحة إلى عملهم.
كان للأزمة المالية ومتطلبات المجهود الحربي في الصحراء والجفاف دور في اشتداد الخناق على النظام من جهة، وكانت الآثار وخيمة على الشعب بصفة عامة والطبقة العاملة بصفة خاصة، حيث اعتبرت الزيادة في أسعار بعض المواد الأساسية النقطة التي أفاضت المياه التي كانت تغلي داخل الكأس.
إضراب 20 يونيو 1981
بعد الارتفاع المهول لأسعار المواد الأساسية (الدقيق، السكر، الزيت) الذي كان خطوة أولى في تنفيذ برنامج التقويم الهيكلي، ستبدأ الدولة رسميا في تنفيذه سنة 1983، فدعت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لإضراب عام بتاريخ 20 يونيو 1981، لكن السلطات العمومية لم تحترم حق الإضراب، مما أدى لوقوع أعمال فوضى- بعد تدخل أجهزة الأمن- ومن بعد ذلك الدرك والجيش مما أدى إلى وقوع عدة قتلى ومئات الاعتقالات من بينها اعتقال الكاتب العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل ونائبه بالإضافة لعدد من القيادات النقابية. بعد هذه الأحداث تم منع الأنشطة النقابية للكونفدرالية للشغل، ولم تبدأ الحياة النقابية في الاستقرار إلا بعد سنة 1984.
إن هدا الإضراب العام الذي واجهه النظام بعنف وقسوة، نتج عنه الآلاف بين القتلى والجرحى ومئات المعتقلين والمخطوفين ومئات من الذين اختاروا المنفى الاضطراري، واشتهرت المأساة كما سماها اليد القذرة المنفذة للمجزرة “بشهداء الكوميرة”.”
سجنت قيادة النقابة كما سُجن الأموي لعامين، ما عزز مكانته في النقابة وسياسيا لاحقا في الصراع داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
دينامية التسعينات
وظل الوضع بعد ذلك بين المد والجزر إلى حين إعلان كل من الكونفدرالية والاتحاد العام للشغالين بالمغرب إضرابا عاما، عرف بانتفاضة فاس في دجنبر1990، وقد خلّفت العديد من الضحايا، قتلى وجرحى ومعتقلين وخسائر مادية جسيمة عامة وخاصة، وشهدت أحداث عنف.
في سنة 1992، رحل اسم الأموي إلى خارج الحدود مع محاكمة شهيرة له في دعوى رفعتها عليه الحكومة على خلفية حديث لصحيفة الباييس الإسبانية وصف فيها الوزراء بأنهم “لصوص”، وصدر في حقه حكم بالسجن سنتين نافذتين، لكن بعد ذلك صدر في حقّه عفو بعد 14 شهراً من الاعتقال. وقد كان الهدف الأساسي من هذا الاعتقال هو وقف تحذير الأموي ومعاقبته على تجاوز الخطوط الحمراء، إذ اعتبرت هيئة دفاع نوبير الأموي وقتها محاكمة الأموي تدخل في إطار الصراع السياسي للمعارضة مع نظام الحكم، خصوصا أن المحاكمة جاءت بعد حوار أجراه الأموي مع جريدة “حرية المواطن” دعا فيه إلى إقامة نظام ملكي برلماني يسود فيه الملك ولا يحكم.
والغريب في هذه المحاكمة، وفق هيئة الدفاع، هو أن الحكومة المغربية تابعت نوبير الأموي ولم تتابع مدير نشر الجريدة التي نشرت الاستجواب ولا الصحافي الذي أجرى الاستجواب؛ وهو ما اعتبره الدفاع دليلا على رغبة الدولة في الانتقام من شخص الأموي، هذا من جهة ومن جهة أخرى الضغط عليه كي يترك قيادة الحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تشق طريقها بإصرار نحو خريطة طريق ما سمي لاحقا بالتناوب التوافقي، الذي كان قد عارضه رفقة نائبه الراحل الدكتور عبد المجيد بوزوبع في آخر مؤتمر للحزب آنذاك ، هذه الواقعة وإن كانت تظهر على أنها تدخل في نطاق أمور داخلية للحزب، إلا أن النظام سجلها في مخططه تحسبا لما عرف عن الأموي من اندفاع قد يفرمل بدايات التوافقات بين الكتلة والنظام، للعمل على ما تم التصريح به من أن البلاد على وشك التعرض للسكة القلبية.
سيتلو ذلك التنسيق مع نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب انطلاقا من سنوات التسعينات وعقد اتفاق فاتح غشت 1996، وبداية التمهيد لدخول الاتحاد الاشتراكي لحكومة ما سمي حكومة التناوب، وانتهى بتنظيم حزب الاتحاد الاشتراكي لعملية انشقاق داخل الكدش أسفرت عن تأسيس نقابة الفدرالية الديمقراطية للشغل (فدش) سنة 2002 وتأسيس رفاق الراحل الدكتور عبد المجيد بوزوبع لنقابة المنظمة الديمقراطية للشغل.
05 وفي يونيو 1996 سيتم تنظيم إضراب عام وطني دعت له الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب والذي نتج عنه فتح الحوار الجماعي الثلاثي لأول مرة.
بحلول فاتح غشت 1996، سيتم التوقيع على أول اتفاق ثلاثي منذ الاستقلال-40 سنة- والذي شمل عدة محاور، وبالخصوص تأسيس ميكانزمات الحوار الاجتماعي على المستوى الوطني، الإقليمي والقطاعي، الترقية الداخلية للمأجورين، احترام الحرية النقابية، المصادقة على المعايير الدولية للعمل، السكن الوظيفي، الرفع من الأجور،… لكن شتان بين الحبر الذي وقعت به الاتفاقيات وواقع التطبيق ؟؟؟
في 29 أكتوبر1997 سيتم الإعلان عن إضراب عام لحمل الحكومة على تطبيق الالتزامات المنصوص عليها في اتفاق 1 غشت 1996.
وبانتقال حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى المشاركة في “الحكومة” سنة 1998، بدأت هوة الخلاف تتسع بين الجناح النقابي للأموي والتوجه السياسي للحزب، مما أسفر في النهاية عن انشقاق جديد لأنصار الكونفدرالية في الحزب بقيادة الأموي في اتجاه دعم حزب جديد هو حزب المؤتمر الوطني الاتحادي.
الخاتمة
حق تأسيس النقابات والانتماء إليها حق أساسي يضمنه القانون الوطني كما يضمنه القانون الدولي. وهذا الأخير يضمن حق التمتع بهذا القانون الأساسي بفعل التزامات الدولة في إطار المؤسسات الدولية التي ينتمي إليها المغرب، من قبيل منظمة الأمم المتحدة ومنظمة العمل الدولي وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية، وما يترتب على ذلك من التزامات.
إن ممارسة الحق النقابي لا تكون فاعلة ومجدية على المدى القريب والمتوسط والبعيد إلا في إطار تنظيم نقابي، والواقع أن الحركة النقابية المغربية تعرف أزمة متعددة الأوجه، فالعمل النقابي الجاد والكفاحي يجب أن يكون مستقلا عن الحكومة، والأحزاب السياسية (ولو كان تكامليا معها) وعن أرباب العمل، و يستمد قوته وتوجهاته وقراراته من الفعل النقابي القاعدي لتترجمه القيادة إلى قرارات تنفيذية بغية تحقيق المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشغيلة.
فمع تفريخ عدة نقابات صفراء فهل تحقق هذا الزواج الكاتوليكي بين الشرعية القانونية لحق الطبقة العاملة في تأسيس النقابات واستقطاب الدولة، وهل كانت هذه الأخيرة جديرة بالمسؤولية الأخلاقية والثقة التي وضعت فيها..؟ الثابت من الوقائع التاريخية في عدد كبير من الدول أن النزاعات العمالية الكبرى تساهم في تقوية النقابة وبالتالي تحسين الوضعية الاجتماعية والمهنية للطبقة العاملة، وأن ما نعيشه في المغرب هو تراجع النقابة الذي أدى إلى التقليص من حجم المكتسبات التي سبق الحصول عليها، وبالتالي فإن هذه الوضعية تؤدي إلى تقوية الدولة وأجهزتها والباطرونا وتراجع التفاف الشغيلة حول النقابات.
فالصراع بين النظرة الكفاحية والنظرة التواطئية وسط النسيج النقابي خلق أرضية خصبة للانتهازيين في الأحزاب والنقابات وتوسع كتلة المعارضين لأي عمل نقابي تقدمي يمس مصالحهم وامتيازاتهم، لذلك نجد على سبيل المثال أن انتخاب/اختيار القيادات النقابية تتم في الكواليس قبل المؤتمرات مع رفع شعارات فضفاضة وبراقة كالسلم الاجتماعي والمقاولة المواطنة والتشاركية لجدب الأنصار وذر الرماد في العيون، مما أدى إلى تراجع وضعف العمل النقابي ونفور أغلب الشغيلة منه، وانعكس هذا التدهور في انكماش الجسم النقابي، جراء سنوات من التخبط ما بين إضرابات ارتجالية ومجزأة ومفاوضات عقيمة مع أرباب العمل والحكومة مفضية إلى اتفاقات لا تنفذ بصفة خاصة على عمال القطاع الخاص، فيما ظهرت في القطاع العام الحركات الفئوية وفرضت استقلاليتها كنتيجة مباشرة لسوء تدبير جزء كبير من القيادات النقابية وتخاذلها بل وتواطئها وخيانتها لعرق جبين وآمال وتطلعات البروليتاريا وضرب مصداقية العمل النقابي النبيل الذي يتوخى تحقيق الملف المطلبي من خلال قدرته على تعبئة عدد كبير من العمال أثناء النزاعات.
وفي هذا الإطار فإن ممارسة المركزيات النقابية لوظيفة التمثيل والتفاوض طيلة أربعة عقود منذ الاستقلال، ظلت تخضع لمسطرة لا تستند إلى أي نص قانوني، وتهيمن عليها الدولة، بحيث تبتدئ المسطرة لدى مفتشية الشغل ثم العمالة. وفي بعض الحالات تتدخل الوزارة المعنية بالنزاع، وإذا فشلت محاولة الصلح في إطار مفتشية الشغل، يتم اللجوء إلى السلطة المحلية التي تستدعي أطراف النزاع، وتقوم بمحاولة الصلح بحضور مفتش الشغل ومندوب العمال بصفة مستشار.
فالمشرع المغربي اتجه منذ وقت مبكر من عهد الاستقلال للاعتراف بحق العمال في التنظيم النقابي، فصادق على الاتفاقية رقم 98 المتعلقة بحق التنظيم والمفاوضة الجماعية، وصدر ظهير 16 يوليو 1957 بشأن تأسيس النقابات، مع تشتت القوانين المنظمة لميدان الشغل والموروثة منذ فترة الحماية، تبلورت فكرة جمع النصوص في مدونة واحدة، وتطلب الأمر عدة سنوات لإخراج مدونة الشغل في شتنبر 2003، والتي ظلت جل بنودها حبرا على ورق، وصولا إلى مشاريع قوانين والمراسيم التي قيدت حق الإضراب وفتحت مجال الطرد التعسفي من قبل أرباب العمل، وسط ضجيج نقابات بدون روح نضالية. كما أن الدساتير المغربية الممنوحة، ظلت نظريا تؤكد على إلزامية صيانة الحريات العامة بما فيها الحرية النقابية في التشريع والممارسة، وأسندت للمنظمات النقابية تنظيم المواطنين وتمثيلهم، كما أقرت هذه الدساتير بحق الإضراب مع لازمة: “ويصدر قانون تنظيمي ينظمه” وتخصيص نسبة لممثلي المأجورين، الشيء الذي يمنح حضورا للمركزيات النقابية داخل البرلمان لإبداء مواقفها تجاه السياسات العمومية خاصة ما يتعلق بالطبقة العاملة، بيد أن هذا الدور أضحى امتيازا البعض القيادات النقابية ولا أثر له ملموس على الشغيلة.
ويلاحظ أن النصوص القانونية ( ظهير 16 يوليو 1957 ، وظهير 15 نونبر 1958 المتعلق بحق تأسيس الجمعيات ) ظلت تفتقر إلى معايير الشغل الدولية الكفيلة بتقوية الممارسة النقابية، وفي هذا الإطار ظلت بعض النقابات المركزية تطالب لعدة سنوات بتوقيع السلطات العمومية على اتفاقيات من شأنها تدعيم العمل النقابي وتقويته، كالاتفاقية رقم 87 المتعلقة بالحريات النقابية (تنص مثلا على أن العمال وأرباب العمل دون تمييز لهم الحق دون ترخيص مسبق في تكوين منظمات حسب اختيارهم، كما تنص على انعدام حق السلطات في الحل أو التوقيف عن طريق إجراءات إدارية.)
لقد عانت الطبقة العاملة من القمع ولا زالت تؤدي ضريبة فشل “النماذج التنموية” خصوصا من ثمانينات إلى تسعينات القرن الماضي ونتيجة الآثار السيئة للخوصصة وسياسات التقشف والتقويم الهيكلي وتراكم الديون الخارجية والداخلية وضعف الاستثمار، والجفاف مما أدى إلى ظهور أزمة خانقة أضحت بنيوية حتى الآن، والضحية هي الطبقة العاملة في غياب قوة نقابة كفاحية موحدة وفاعلة، لقد اتضحت الصورة جاليا في ضعف وتواطئ جزء كبير من النقابات وأرباب العمل حين اكتساح جائحة كورونا البلاد وتم فرض حالة الطوارئ والحجر الصحي الإجباري، حيث لم تتحرك أغلب النقابات لدفع الدولة لتعميم المساعدة المادية لمئات الآلاف من المياومين والعاملين بدون حماية اجتماعية وبدون تغطية صحية ولا يجمعهم بهذا الوطن أمام ظلم وجشع كل هؤلاء من الدولة والنقابات وأرباب العمل سوى رقم بطاقة التعريف. لدلك يتضح بجلاء أن أزمة الحركة النقابية المغربية المتمثلة في الالتفاف على الديمقراطية والكولسة وتحكم الحزبي في النقابي واستقطاب الدولة والتبعية للأجنبي وإشكالية الوحدة والانشقاق وغيرها ليست وليدة اليوم بل لازمتها منذ تأسيس “الإتحاد المغربي للشغل”. “
وغير خاف على الدارس في الوقت الحالي أن النقابات التي أصبحت تضم مئات الملايين عبر العالم و تؤثر على مجريات الأمور التي تحدث على الساحة الدولية، فهي إلى جانب نضالها في سبيل حقوق الطبقة العاملة المشروعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية… إلخ، فإنها ناضلت ولا زالت تناضل في الصفوف الأمامية من أجل قضايا مصيرية تهم حقوق الإنسان ومساندة نضال الشعوب لأجل تحررها من الاستعمار كقضية الشعب الفلسطيني، والنضال ضد العولمة والرأسمالية المتوحشة وضد التمييز العنصري والجوع والفقر والأمراض والأوبئة، وقضية المناخ والتنمية المستدامة في البلدان النامية، كما أنها تعتبر سدا منيعا ضدّ تخفيض المساعدات الاجتماعية وزيادة الضرائب، وضدّ الحروب وتجارة الأسلحة وسياسات الحكومات التي تنتهج سياسة قمعية تنتهك حقوق الإنسان، كما أنها تناضل في سبيل إرساء السلم والأمن الدوليين.
إن رصيد اليسار النضالي يفرض عليه مواكبة التطورات التي عرفها الصراع الطبقي طيلة عقود، والذي كان يتميز في بعض السنوات بنهوض جديد وقوي للحركة الجماهيرية، وذلك بتجديد آليات الاشتغال والإنصات الواعي لهموم الأجراء وتنظيم معاركهم العادلة ورفع منسوب وعيهم بحقوقهم.