الحركة العمالية وأسئلة المستقبل
◆ عبد اللطيف قيلش - عضو المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم/ كدش
من المسلمات التي سقطت، مثل أوراق الخريف، القدرة المطلقة على التوقع. (نور الدين العوفي، تدوينات على هامش البديل الاقتصادي، من الكتاب الجماعي: العالم ما بعد جائحة كورونا، رؤى مستقبلية، إشراف وتقديم علي أومليل، الطبعة الأولى 2021، المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء ،المغرب ص 173). لقد أضحى الحديث عن عالم ما قبل وما بعد كورونا، والأمر هنا لا يعني أن العالم ما قبل كورونا مختلف جوهريا عن ما تعيشه الإنسانية على ضوء الجائحة وتداعياتها. إن كورونا عرت المستور، وكشفت عن عمق الأزمة وطبيعتها، إن الأمر هنا يتعلق بحصيلة ونتائج التوجهات النيوليبرالية التي همشت الإنسان، وجردت التنمية من أبعادها البشرية، وإخضاعها لمنطق الربح ومنطق السوق حتى وإن كان ثمنها تدمير الإنسان والبيئة والحضارة، واختلال التوازن الاجتماعي والتماسك المجتمعي. حيث أظهرت الجائحة كما هو شأن العديد من الأزمات (الأزمة المالية 2008)، فالرأسمالية سواء كانت صناعية أو مالية تشكو من عيوب ملازمة لها، أولها تغليب الإنتاج (وما يستتبعه من الجري وراء الربح) على التوزيع، والأنانية على التضامن، وثراء أقلية على حساب العدالة الاجتماعية، وتغليبها في ظل الرأسمالية المالية، وهيمنة الرأسمال على العمل، أي بتغول الأوضاع الريعية (حسن أوريد، عالم بلا معنى، الطبعة الأولى 2021، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب ص 288-289). كشفت الجائحة أن الرأسمالية عاجزة أن تقدم أجوبة للإنسانية، بل إنها مصدر كل مآسي الشعوب، كما أظهرت (الجائحة) أن مستقبل الأمم وتقدمها وتنميتها لمواجهة الأزمات والتحديات يستوجب الاستثمار في الرأسمال البشري عبر أهم قطاعين اجتماعيين واستراتيجيين وهما التعليم والصحة، ويستوجب الأمر أيضا إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الاجتماعية ولدور القطاع العام كرافعة للتنمية. فإذا كانت للجائحة آثار وخيمة على الأوضاع الاجتماعية لمختلف الشرائح الاجتماعية، فإن النصيب الأوفر كان للشرائح الأكثر هشاشة، وفي المقدمة العاملون في القطاع غير المهيكل والطبقة العاملة والنساء والشباب، من خلال فقدان الشغل، وفقدان الأجور أو تخفيضها والبطالة… وتشير العديد من التقارير المعززة بالأرقام إلى اتساع دائرة تأنيث الفقر وتأنيث البطالة وتأنيث الإقصاء الاجتماعي..
تخلد الطبقة العاملة المغربية فاتح ماي 2021 في ظل سياق يتسم بالهجوم على المكتسبات والحقوق وخنق الحريات، ومصادرة حق التظاهر والاحتجاج السلمي، وتغييب الحوار والتضييق على الحريات النقابية وتهميش الحركة النقابية، والتملص من تنفيذ الالتزامات وتجاهل المطالب والإصرار على التوظيف بالتعاقد في قطاع التعليم ضمن مخطط تفكيك القطاع العام، رغم المسلسل الاحتجاجي المتواصل. إن دروس الأزمات في التاريخ تفيد باستغلال الأنظمة السياسية لهذه الظرفيات للمزيد من تكريس السلطوية وضرب الحريات، ما يجعل الحركة العمالية مطالبة بإدراك ضرورة وملحاحية الربط الجدلي بين المسألة الاجتماعية وقضية الديمقراطية، وأن التنمية لا أفق لها إذا لم تكن متعددة الأبعاد، ومرتبطة بالحرية وبالعدالة كإنصاف (أمارتيا سين – جون راولز). إن الحركة العمالية مطالبة بمواصلة إنجاز مهامها في عالم متحول على كل المستويات وضمنه عالم الشغل، حيث اختفاء مهن وظهور مهن جديدة، بعضها انتشر أكثر مع الجائحة، من خلال استثمار تطورات التكنولوجية الحديثة والثورة الرقمية، كما انتشر العمل عن بعد بتداعياته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية. وهذت يفرض الأخذ بعين الاعتبار متغيرات العالم المعولم تحت سيطرة الافتراضي، حيث لم تعد القيمة هي العمل، ولا حتى الرأسمال، بل الحركية التي يمكن أن تبث في الرأسمال من خلال عمليات لوغاريتمية تقوم بها حواسيب ضخمة لجني أرباح طائلة، إذن لقد وقع انفصال بين العمل والرأسمال، والأسوأ بين الواقع والعالم الافتراضي (حسن أوريد، عالم بلا معالم ،ص 17). إن الثورة الرقمية قادت إلى الديكتاتورية الرقمية، وهو ما يتهدد العديد من الأنساق بالاندثار والانهيار، وتشكل أنساق جديدة تعيد صياغة المفاهيم والأدوار والوظائف، وبالتالي فإن عالم الشغل والحركة العمالية في قلب هذه التحولات.
إن الطبقة العاملة لم تعد هي الفاعل الوحيد أو الرئيسي في مشهد يتسم بتعدد الفاعلين الاجتماعيين، والذين برز دورهم في الفعل الاحتجاجي خارج التنظيمات، وبتكسير لأنماط البروفيلات المألوفة وأدوات العمل المعتادة، وهي موجة عالمية. لاشك أن شبكات التواصل الاجتماعي تمثل بدورها أحد الفاعلين، فالانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع التواصل منح مهمة تحطيم أنساق الهيمنة التي عرفها التاريخ، بما فيها الهيمنة الذكورية على النساء، وهو المنحى الذي يقاوم اليوم بكل الأشكال بما فيها العنف. في ظل هذه التحولات الكونية، تحتاج الحركة العمالية إلى إعادة بناء الذات على ضوء قراءة الوضع في أدق تفاصيله لفهم واستيعاب ما يجري، لإطلاق نفس جديد، تستعيد معه الحركة العمالية دورها المحوري، وتمد الجسور مع الحركات الاحتجاجية والاجتماعية المدافعة عن القضايا العادلة، لتقوية موقعها الاجتماعي المرتبط جدليا بمشروع بناء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فالاستبداد والاستغلال يلتقيان كخصم طبقي للطبقة العاملة وكل المضطهدين. إن عالم ما بعد كورونا يستلزم مراجعة الدولة للمقاربات المعتمدة، واستخلاص العبر من أزمة الجائحة، فلامناص من عقد اجتماعي لتأهيل المغرب إلى امتلاك مقومات الصمود ومواجهة الأزمات والصدمات. من المؤكد أن العقد الاجتماعي جزء من الإصلاح الشامل الذي بات ضرورة مجتمعية وتنموية.