التعليم العالي في زمن كورونا.. الارتباك وضعف التأطير
◆ ذ. أيتعدي عبد الله ـ أستاذ بجامعة القاضي عياض
فالفشل الذريع الذي راكمته منظومتنا التعليمية ليس وليد اليوم بل بدأت بوادره منذ عهد الحماية. ويتجلى هذا الفشل على جميع المستويات من بنيات تحتية وموارد بشرية (عددا وتأهيلا) والحكامة والتسيير الإداري والبرامج والتجهيزات الضرورية للتعلم وكسب المهارات.. ويمكن الجزم أن أغلب المعيقات التي يعاني منها التعليم في بلادنا سببها الرئيسي هو غياب الحكامة الجيدة وسيادة التسيير الإداري العشوائي وغياب مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة مما يفتح الباب لمن هب ودب لتحمل مسؤولية إدارة المؤسسات التعليمية بدون كفاءة في التدبير والتسيير. هذا إذن هو باختصار شديد واقع منظومتنا التربوية في أزمنة عادية بدون أي جائحة وبإمكانيات مالية لا يستهان بها، وخاصة الأموال المرصودة للبرنامج الاستعجالي والتي لم تخلف أي أثر إيجابي في الواقع. وهذا أيضا يبين بالملموس مدى توغل الفساد في المنظومة التربوية بصفة عامة.
أما التعليم العالي والبحث العلمي خلال زمن جائحة كورونا، فالجاحد وحده من يقر بنجاحه والكل أقر بفشل المنظومة قبل زمن كورونا. لأنه كيف لواقع كان أفظع قبل الجائحة أن يتعافى من صلب الجائحة، حيث أقفلت فيه جميع أبواب المؤسسات والمختبرات وأصبح التعلم والبحث العلمي بين عشية وضحاها افتراضيا وعن بعد، مما تسبب في ارتباك شامل على جميع المستويات، بالرغم من المجهودات المبذولة في بعض الجامعات والمعاهد، لكنها تبقى محدودة جدا. كما لا يمكن أن نستثني الدور المحوري، وبإمكانيات شخصية في بعض الأحيان، الذي لعبه الأستاذ في جل مراحل العملية. فبالإضافة إلى المعيقات التي ذكرت، ففي زمن كورونا زادت معيقات أخرى تحد من مردودية التعلم والبحث العلمي والمعرفي. وأبرز هذه المعيقات هناك التفاعل الميداني للمتعلم وخاصة في كليات العلوم والمعاهد والمدارس العليا للعلوم والتكنولوجيا. بحيث أنه في هذه المؤسسات هناك مواد، إن لم أقل أغلب المواد، لا يمكن بتاتا تلقينها فقط نظريا وافتراضيا، بل أكثر من هذا هناك أعمال بحث تطبيقية تعتمد على التأطير الميداني وتتطلب زيارة ودراسة وتحليلا واستنتاجات ميدانية يقوم بها الطالب ميدانيا على أرض الواقع. ففي زمن كورونا ألغيت جميع الأشغال التطبيقية العملية لتحل محلها فقط أشغال نظرية افتراضية عن بعد. و أبرز مثال هنا هو أشغال بحوث نهاية السنة بالنسبة لطلبة الأسدس السادس (الإجازة) و طلبة السنة الثانية ماستر. بحيث أنه من المفروض أن تجري هذه البحوث داخل مختبرات المقاولات والشركات والمصانع ومكاتب الدراسات.. التي تهتم بالبحث العلمي؛ لكن في زمن كورونا كل أعمال البحوث أنجزت فقط في شقها النظري وقدمت عن بعد.
وكل هذا من شأنه أن يزيد في تكريس نمط التعليم النظري لدى الطالب وإهمال الجانب التطبيقي العملي الميداني الذي هو أهم بكثير لكسب المعارف والمهارات من خلال الاحتكاك بالواقع. بالإضافة إلى كون التعليم عن بعد ساهم في اتساع الهوة بين الملقن والمتلقي، مما يساهم في ضعف التحفيز المعنوي وبالتالي تدني الرغبة في المواكبة وربما أيضا ظهور نوع من العزوف لدى الطالب. كل هذا يبين أنه لا بديل عن تعليم حضوري جيد ومجاني يستجيب لمتطلبات العصر. وبهذا الصدد فالعديد من المهنيين والفاعلين في المنظومة التربوية والنقابات أقروا بأن التعليم عن بعد لم يستطع تعويض التعليم الحضوري، بل من شأنه أن يزيد في تعميق الفوارق الاجتماعية والطبقية لدى الناشئة مع الضرب في العمق لمبدأ تكافؤ الفرص. بالرغم من المجهودات المبذولة سواء من طرف الأساتذة والأطر الإدارية والتقنية، وهياكل المؤسسات الجامعية، لكنها للأسف لم تحقق الأهداف المسطرة لها.
و بخصوص التعليم بالتناوب المعتمد حاليا في جميع المؤسسات الجامعية، فهو أيضا تشوبه صعوبات ومعيقات، فبالإضافة إلى ضعف الوسائل اللوجستيكية أو انعدامها عند طلاب القرى النائية والأرياف، هناك أيضا مشكل المبيت والمطعم بالنسبة للطلاب الذين يقطنون خارج المدن الجامعية، وخاصة أن الأحياء الجامعية على قلتها لم تفتح أبوابها إلى الآن. والملاحظ أيضا هو انعدام الدعم والتحفيزات بجميع أشكالها، مادية كانت أو معنوية، ومتابعة حالات الطلاب الذين يعانون أوضاعا هشة ماديا أو نفسيا، كما فعلت العديد من الدول الديمقراطية، وخاصة في أوروبا إزاء طلابها الذين فقدوا عملهم الموسمي. أما مجال البحث العلمي فحدث ولا حرج، فأغلب البحوث المنجزة رديئة المحتوى وغالبا لا ترقى إلى المستوى المطلوب. وهذا المجال أيضا ينخره الترهل وسوء التسيير، بالإضافة إلى شح الإمكانيات والدعم والميزانية.. فالقبول في الماجيستر مثلا دائما يخضع وفي أغلب المواقع الجامعية لمنطق غير سليم في الانتقاء.. مما يضرب عرض الحائط مبدأ الكفاءة والاستحقاق. كما هو الحال أيضا في التسجيل بسلك الدكتوراه. والملاحظ في زمن كورونا أن بعض الأطروحات تناقش خفية وبعيدا عن أنظار العموم. وفيما يخص تقييم مستوى المهارات والمكتسبات لدى الطلاب عبر الامتحانات عن بعد، فالكل يقر أن هذا النوع من التقييم لا يمكن اعتماده لأنه لا يعكس المستوى الحقيقي للطالب، بل أكثر من هذا قد تشوبه عمليات غش خطيرة. فمثلا بإمكان طالب أن يستعين بطالب آخر أو بأستاذ آو بأي شخص آخر لإجراء الامتحان في مكانه.
أخيرا.. في اعتقادي الشيء الوحيد الذي حقق نجاحا كبيرا في زمن الجائحة هو التدبير الأحادي والفوقي والضرب عرض الحائط للمقاربة التشاركية من طرف الوزارة الوصية. حيث يتم استبعاد آراء الفرقاء الاجتماعيين في أغلب الأحيان، والأساتذة والإداريين ومجالس المؤسسات والنقابات.. في جميع محطات اعتماد أنماط التعليم، مما يجعل كل الإجراءات في هذا المجال بعيدة عن المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها الجامعة والمنظومة التربوية برمتها، علما أن الطلاب يعانون أصلا في ظل التعليم الحضوري. أما فيما يخص بالإجراءات الاحترازية (مواد التعقيم، علامات التشوير، التباعد..) فالمجهودات المتواضعة المبذولة تبقى محدودة جدا (في الزمان والمكان) ولا ترقى إلى المستوى المطلوب. فالملاحظ أنه في أغلب الأفواج نسبة الحضور تفوق بكثير النسبة المسموح بها في حالات الطوارئ، بل أكثر من هذا هناك أفواج تحضر بنسبة 100 % كما قبل الجائحة، يعني أنها لم تعرف أي تخفيض في العدد! إعمالا بما هو مصرح به فيما يخص الإجراءات الاحترازية. وفي هذه الحالة يستحيل تطبيق التباعد الجسدي وخاصة في قاعات محدودة الطاقة الاستيعابية. ويتعلق الأمر هنا بحصص الأعمال الموجهة والأعمال التطبيقية، بحيث يكون عدد الحضور في زمن الجائحة هو نفسه قبل الجائحة.
أما الإصلاحات البيداغوجية (آخرها نظام الباشلور الذي سيشرع في تنزيله ابتداء من السنة الجامعية المقبلة في بعض الجامعات)، فهي دائما تكون فوقية ويطبعها التسرع والعشوائية بدون تقييم الحصيلة الحالية ولا دراسة مسبقة للوضع الجامعي على عدة مستويات : موارد بشرية مؤهلة (أطر التدريس والأطر الإدارية)، البنية التحية للمؤسسات، موارد مالية كافية ومعدات وتجهيزات التدريس والبحث العلمي..