حلاق السعادة.. مسرحياً

 محمد نايت دراع

‭”‬صالون‭ ‬السعادة‭ “‬،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬اسم‭ ‬الصالون‭ ‬الذي‭ ‬دأبت‭ ‬على‭ ‬قص‭ ‬شعري‭ ‬عند‭ ‬صاحبه‭ ‬سعيد،‭ ‬ولأنني‭ ‬زبون‭ ‬قديم‭  ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يستشيرني‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬الحلاقة‭ ‬التي‭ ‬أرغب‭ ‬فيها،‭  ‬ما‭ ‬أن‭ ‬أستوي‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬الحلاقة‭ ‬ويلفني‭ ‬بمنديله‭ ‬حتى‭ ‬ينهال‭ ‬بمقصه‭ ‬على‭ ‬شعري‭ ‬الكثيف‭ ‬والمجعد،‭ ‬استمتع‭ ‬بطقطقات‭ ‬المقص،‭  ‬كان‭ ‬سعيد‭  ‬قليل‭ ‬الكلام‭ ‬مع‭ ‬زبنائه،‭ ‬يظل‭ ‬محتفظا‭ ‬بابتسامته‭ ‬رقيقة‭ ‬طيلة‭ ‬الوقت،‭ ‬أمور‭ ‬تمنحه‭ ‬هيبة‭ ‬ووقارا‭ ‬خاصين،‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تسمع‭ ‬له‭ ‬صوتا‭ ‬وهو‭ ‬يتنقل‭ ‬فوق‭ ‬رأسك‭ ‬بمقصه،‭ ‬إلا‭ ‬ليرد‭ ‬تحية‭ ‬زبون،‭ ‬أو‭ ‬عندما‭ ‬يفك‭ ‬المنديل‭ ‬عن‭ ‬رقبتك‭ ‬ويشطب‭ ‬عنقك‭ ‬بحنان‭ ‬متمنيا‭ ‬لك‭ ‬صحة‭ ‬جيدة،‭ ‬أمس‭ ‬البارحة‭ ‬ظن‭ ‬أني‭ ‬أمازحه‭ ‬حينما‭ ‬قطعت‭ ‬حركة‭ ‬يده‭ ‬وكانت‭ ‬أصابعه‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬أذينات‭ ‬المقص،‭ ‬من‭ ‬فضلك‭ ‬أريدك‭ ‬أن‭ ‬تحلق‭ ‬شعر‭ ‬رأسي‭ ‬بالكامل،‭ ‬ابتسم‭ ‬معتبرا‭ ‬كلامي‭ ‬مجرد‭ ‬مزحة،‭ ‬لكني‭ ‬قطعت‭ ‬تردده،‭ ‬الحق‭ ‬أقول‭ : ‬أريدك‭ ‬أن‭ ‬تستعمل‭ ‬الموسى‭ ‬من‭ ‬فضلك‭. ‬توقفت‭  ‬يده‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬مشلولة‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬الحركة‭ ‬،بينما‭ ‬رأسي‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل‭ ‬وعيناي‭ ‬مشدودتان‭ ‬إلى‭ ‬ركبتاي‭ ‬تحت‭ ‬المنديل،‭ ‬ألعن‭ ‬كل‭ ‬المخرجين‭ ‬والممثلين،‭ ‬إنهم‭ ‬مجرد‭ ‬مجانين‭ ‬وحمقى،‭ ‬لعنت‭ ‬نفسي‭ ‬والمخرج‭ ‬أيضا،‭ ‬لقد‭ ‬ألح‭ ‬علي‭ ‬بالظهور‭ ‬برأس‭ ‬أصلع‭ ‬هذا‭ ‬المساء‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭.‬

‭ ‬الحلاق‭ ‬سعيد‭ ‬وهو‭ ‬يقوم‭ ‬بترطيب‭ ‬شعر،‭ ‬لم‭ ‬يقطع‭ ‬بعد‭ ‬شكه‭ ‬باليقين‭ ‬في‭ ‬طلبي‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬له‭ ‬غريبا،‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬أستشعر‭ ‬اطمئناني‭ ‬للموسى‭ ‬على‭ ‬جلد‭ ‬رأسي‭ ‬ونسمات‭ ‬باردة‭ ‬تغزو‭ ‬مسامه،‭ ‬يجر‭ ‬موسه‭ ‬من‭ ‬الأعلى‭ ‬للأسفل،‭ ‬والشعر‭ ‬يتساقط‭ ‬على‭ ‬ركبتاي‭ ‬فوق‭ ‬المنديل‭ ‬كجثث‭ ‬صراصير‭ ‬ميتة،‭ ‬تراءى‭ ‬لي‭ ‬وجهه‭ ‬منعكسا‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬وهو‭ ‬يقاوم‭ ‬نوبة‭ ‬من‭ ‬الضحك،‭ ‬وكلما‭ ‬اتسعت‭ ‬الرقعة‭ ‬فوق‭ ‬رأسي‭ ‬اتسعت‭ ‬ضحكته‭ ‬لتصير‭ ‬صاخبة‭ ‬ومجلجلة،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬اضطر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬للتوقف،‭ ‬مبعدا‭ ‬موسه‭ ‬عن‭ ‬رأسي‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬اهتزاز‭ ‬جسده‭ ‬بالضحك،‭ ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تحمد‭ ‬عقباه،‭ ‬بل‭ ‬واستعمل‭ ‬المناديل‭ ‬الورقية‭  ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬لتجفيف‭ ‬خديه‭ ‬من‭ ‬الدموع،‭ ‬حاول‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬يعتذر‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬الكلمات‭ ‬تتلوى‭ ‬في‭ ‬فمه‭  ‬وتبتلعها‭  ‬ضحكاته‭ ‬الصاخبة،‭ ‬تنفجر‭ ‬تارة‭ ‬ويضغط‭ ‬تارة‭ ‬برأسه‭ ‬على‭ ‬عنقه‭ ‬ليخنقها‭ ‬مخافة‭ ‬أن‭ ‬يثير‭ ‬حنقي،‭ ‬وكنت‭ ‬حقا‭ ‬أجهل‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬حولي‭.‬

في‭ ‬لحظة‭ ‬ما‭ ‬ومض‭  ‬وجهه‭ ‬في‭ ‬المرأة،‭ ‬ربما‭  ‬يعاتب‭ ‬نفسه‭ : ‬هذه‭ ‬قلة‭ ‬أدب‭ ‬لا‭ ‬تليق‭ ‬بحلاق‭ ‬مثلي‭ ‬اتجاه‭ ‬زبون‭ ‬وفي؛‭ ‬أما‭ ‬انا‭ ‬فقد‭ ‬سررت‭ ‬لغرقه‭ ‬في‭  ‬هذا‭ ‬اليم‭ ‬من‭ ‬الضحك،‭ ‬وشعرت‭ ‬أني‭ ‬كسرت‭ ‬وقاره‭ ‬وصمته‭ ‬الملغزين،‭ ‬لكن‭ ‬كيف‭ ‬أهدأه،‭ ‬لقد‭ ‬عاودته‭ ‬نوبة‭  ‬الضحك‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وصار‭ ‬كمن‭ ‬تلبسه‭ ‬شيطان‭ ‬الضحك،‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬سبيلا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أنخرط‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬اللعبة،‭ ‬إنه‭  ‬يضحك‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬رأسي‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬مثل‭ ‬بطيخ‭ ‬جاف‭ ‬ومهمل،‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬هكذا‭ ‬خيل‭ ‬إليه،‭ ‬و‭ ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬لكن‭ ‬أن‭ ‬يوحي‭ ‬له‭ ‬رأسي‭ ‬الأصلع‭ ‬بشيء‭ ‬ما‭ ‬أخر،‭ ‬فاني‭ ‬سأملأ‭  ‬فمه‭ ‬بهذه‭ ‬المناديل‭ ‬لإيقاف‭ ‬هزله‭ ‬وسخريته‭ ‬مني،‭ ‬ضحكت‭ ‬من‭ ‬نفسي،‭ ‬شاركني‭ ‬هو‭  ‬الضحك‭  ‬بشكل‭ ‬صاخب،‭ ‬ضحكنا‭ ‬معا‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬يغمى‭ ‬علينا‭ ‬نحن‭ ‬الاثنين‭ ‬وباتت‭ ‬عضلات‭ ‬البطن‭ ‬تؤلمنا،‭ ‬ثم‭  ‬بدأ‭ ‬اهتزاز‭ ‬جسمه‭  ‬يخف‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا،‭ ‬وأيقنت‭ ‬أن‭ ‬مخزونه‭ ‬قد‭ ‬نفذ‭ ‬عندما‭ ‬صاح‭ ‬متنهد‭ ‬ا‭ ‬الله‭ ‬الله،‭ ‬مسح‭ ‬بيديه‭ ‬الباردتين‭ ‬على‭ ‬صلعتي‭ ‬وكانت‭ ‬تتلألأ‭ ‬في‭ ‬المرآة،‭ ‬فك‭ ‬المنديل‭ ‬عن‭ ‬عنقي‭ ‬متمنيا‭ ‬لي‭ ‬الراحة،‭ ‬وفي‭ ‬خجل‭ ‬قدم‭ ‬رجاءه‭ :‬

‭- ‬لا‭ ‬تجعل‭ ‬ما‭ ‬صدر‭ ‬مني‭ ‬قلة‭ ‬أدب‭ ‬أرجوك،‭ ‬أعرت‭ ‬كلامه‭ ‬كل‭ ‬الاهتمام‭ ‬مبديا‭ ‬قبول‭ ‬اعتذاره‭ ‬بحركة‭ ‬سريعة‭ ‬بوجهي،‭ ‬ولكي‭ ‬أرفع‭ ‬عنه‭ ‬الحرج‭ ‬صافحته،‭ ‬لكنه‭ ‬باغتني‭ ‬بسؤال‭ ‬وجدته‭ ‬مجاملة‭ ‬لطيفة‭ ‬منه،‭ ‬بكم‭ ‬تبيعون‭ ‬تذاكر‭ ‬عرضكم‭ ‬المسرحي‭ ‬لهاته‭ ‬الليلة؟‭ ‬20‭ ‬درهما‭ ‬أجبته‭ ‬مساهمة‭ ‬رمزية‭ ‬فقط،‭ ‬مرحبا‭ ‬بك‭ ‬بعد‭ ‬ساعة‭ ‬ونصف‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬سنكون‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح،‭ ‬ولما‭ ‬هممت‭ ‬بوضع‭ ‬ورقة‭ ‬نقدية‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬20‭ ‬درهما‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬ثمن‭ ‬موسه،‭ ‬اعترض‭ ‬متراجعا‭ ‬بيده‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬لا‭ ‬لا‭ ‬لن‭ ‬آخذ‭ ‬منك‭ ‬فلسا‭ ‬واحدا،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬جلد‭ ‬رأسك‭ ‬شفافا‭ ‬جدا،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬دماغك‭ ‬كان‭ ‬مضاء‭ ‬بالكامل،‭ ‬ثم‭ ‬استطرد،‭ ‬لن‭ ‬أخفيك‭ ‬لقد‭ ‬تابعت‭ ‬العرض‭ ‬الساخر‭ ” ‬المغني‭ ‬الأصلع‭” ‬داخل‭ ‬جمجمتك‭ ‬مشهدا‭ ‬تلو‭ ‬مشهد‭ ‬وفصلا‭ ‬تلو‭ ‬فصل‭. ‬لحضتها‭ ‬تجمدت‭ ‬مكاني،‭ ‬وأيقنت‭ ‬أن‭ ‬الوغد‭ ‬تسلى‭ ‬بالعرض‭ ‬قبل‭ ‬موعده‭ ‬وبدون‭ ‬جدار‭ ‬رابع‭ ‬ولا‭ ‬خامس‭ ‬وداخل‭ ‬صالون‭ ‬السعادة‭ ‬للحلاقة‭ ‬رجال‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى