الملف

التعليم كحاضنة لثقافة التنوير

◆ عبداللطيف قيلش

عبداللطيف قيلش

شكلت قضية التعليم تاريخيا مجالا للصراع السياسي والإيديولوجي بين القوى المجتمعية والدولة، ولم يكن هناك تطابق في وجهات النظر حتى بين القوى المجتمعية. ويعكس هذا الأمر التناقضات المجتمعية والاجتماعية، يتعلق الأمر بشكل دقيق بالصراع الطبقي، ومن ثمة فإن التصورات المتضاربة في موضوع التعليم مثلت ومازالت تمثل تجسيدا للمشاريع المجتمعية المتعارضة، ولمشروع الإنسان المنشود. وقد ظل التعليم وسيظل حاضنا لرؤية كل طرف لطبيعة المجتمع المأمول، ولطبيعة الدولة، ولطبيعة المؤسسات. بهذا المعنى فسؤال التعليم في عمقه يتعلق بسؤال الديموقراطية.

التعليم‭ ‬والمواطنة‭:‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬جدال‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬التعليم‭ ‬مدخل‭ ‬للتقدم‭ ‬والتنمية،‭ ‬وأنه‭ ‬في‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬استثمرت‭ ‬في‭ ‬الرأسمال‭ ‬البشري‭ ‬عبر‭ ‬نظم‭ ‬تعليمية‭ ‬تتميز‭ ‬بالجودة‭ ‬العالية،‭ ‬كان‭ ‬لذلك‭ ‬الأثر‭ ‬الإيجابي‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭… ‬إن‭ ‬الأمم‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬هذا‭ ‬الرهان،‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬الإقرار‭ ‬بأهميةالإنسان‭ ‬ومكانته‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬العمومية،‭ ‬وبدوره‭ ‬الريادي‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬التاريخ‭. ‬وطبيعي‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬بهذا‭ ‬المعنى‭ ‬لايختزل‭ ‬في‭ ‬كونه‭ ‬كائنا‭ ‬بيولوجيا،‭ ‬إن‭ ‬الإنسان‭ ‬كائن‭ ‬ثقافي‭ ‬وفيزيائي‭ ‬وتاريخي‭ ‬واجتماعي‭ ‬ونفسي‭. ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬للإنسان‭ ‬إنسانيته‭ ‬هو‭ ‬المواطنة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬ربطا‭ ‬عضويا‭ ‬بين‭ ‬الواجب‭ ‬والحق،‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬شموليته‭. ‬فالإنسان‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬يتمتع‭ ‬بحقوقه‭ ‬السياسية‭ ‬والمدنية،‭ ‬والحقوق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬يفقد‭ ‬معناه‭ ‬الوجودي‭. ‬فلاتلتقي‭ ‬المواطنة‭ ‬مع‭ ‬الدولة‭ ‬السلطوية،‭ ‬لأن‭ ‬فهم‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬للإنسان‭ ‬مبني‭ ‬على‭ ‬الاستعباد‭ ‬وعلى‭ ‬الطاعة‭ ‬والخضوع،‭ ‬وعلى‭ ‬التعسف‭ ‬والبطش،‭ ‬فالسلطوية‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬اغتصاب‭ ‬الإرادة‭ ‬الشعبية‭ ‬وانتهاك‭ ‬سيادتها،‭ ‬وعلى‭ ‬تعطيل‭ ‬القوانين،‭ ‬وعلى‭ ‬تهميش‭ ‬المؤسسات‭. ‬إن‭ ‬السلطوية‭ ‬تعادي‭ ‬الإنسان‭ ‬وتناهض‭ ‬الديموقراطية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬مساحات‭ ‬واسعة‭ ‬لتعلم‭ ‬المواطنة‭ ‬وتمثل‭ ‬قيمها‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الحرية،‭ ‬فهي‭ ‬تحرص‭ ‬على‭  ‬أن‭ ‬تخضعه‭ ‬للسلطة‭ ‬الضبطية‭ ‬والأمنية،‭ ‬حتى‭ ‬لاينفلت‭ ‬من‭ ‬رقابتها‭ ‬وتفقد‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬أسلحتها‭.‬

التعليم‭ ‬والثقافة‭:‬

الثقافة‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬التعدد‭ ‬والتنوع‭ ‬في‭ ‬الآراء،‭ ‬والتفكير‭ ‬الحر،‭ ‬والتحليل‭ ‬والنقد،‭ ‬والإبداع‭ ‬والسؤال‭ ‬الدائم،‭ ‬والديموقراطية‭ ‬كمنظومة‭ ‬تتضمن‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬المفاهيمي‭ ‬بحمولته‭ ‬الفكرية‭ ‬والقيمية‭. ‬إن‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬الديموقراطية،‭ ‬حاضن‭ ‬لثقافة‭ ‬التنوير،والثقافة‭ ‬العقلانية،‭ ‬والثقافة‭ ‬الحقوقية‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬التسامح،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬القبول‭ ‬بالرأي‭ ‬الآخر‭ ‬والحق‭ ‬في‭ ‬الاختلاف،‭ ‬لأن‭ ‬الرأي‭ ‬الأحادي‭ ‬جزء‭ ‬لايتجزأ‭ ‬من‭ ‬المنظومة‭ ‬السلطوية‭. ‬فالرأي‭ ‬النقدي‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬ثقافة‭ ‬التمجيد‭ ‬والولاء،‭ ‬ومن‭ ‬ثمة‭ ‬تحرص‭ ‬السلطوية‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬الرداءة‭ ‬والتفاهة‭ ‬لتعطيل‭ ‬الفكر‭ ‬والعقل،‭ ‬وتعطيل‭ ‬السؤال‭ ‬والنقد،‭ ‬لتكريس‭ ‬الاستهلاك‭ ‬والتبعية‭ ‬والاتكالية،‭ ‬ومن‭ ‬ثمة‭ ‬علاقة‭ ‬التلازم‭ ‬بين‭ ‬السلطوية‭ ‬والتقليد،‭ ‬وتشجيع‭ ‬إيجاد‭ ‬الحلول‭ ‬في‭ ‬الخرافة‭ ‬ومختلف‭ ‬البنيات‭ ‬اللاعقلانية‭. ‬فلا‭ ‬غرابة‭ ‬أن‭ ‬يهمش‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬،وأن‭ ‬تهمش‭ ‬القراءة،‭ ‬وتهمش‭ ‬الفنون‭ ‬من‭ ‬سينيما‭ ‬ومسرح‭ ‬وفن‭ ‬تشكلي‭ ‬وموسيقى‭ ‬ورقص،‭ ‬لأنها‭ ‬تساهم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬الفرد‭ ‬وتحرير‭ ‬فكره‭ ‬وجسده،‭ ‬وتفجير‭ ‬طاقاته،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬تهديد‭ ‬للسلطوية‭ ‬التي‭ ‬تتقوى‭ ‬بالطابوهات‭ ‬والمحرمات‭. ‬لذلك‭ ‬يفصل‭ ‬التعليم‭ ‬عن‭ ‬الثقافة،‭ ‬ويتم‭ ‬إغراقه‭ ‬بمحتويات‭ ‬تكرس‭ ‬الفجوة‭ ‬مع‭ ‬الثقافة‭ ‬التنويرية‭.‬

التعليم‭ ‬والإعلام‭:‬

المتابع‭ ‬للقنوات‭ ‬الاعلامية‭ ‬الرسمية،‭ ‬سيقف‭ ‬بالملموس‭ ‬على‭ ‬وظيفة‭ ‬التدجين‭ ‬والتضبيع،‭ ‬فما‭ ‬يقدم‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬سوى‭ ‬اغتيال‭ ‬الفكر‭ ‬والعقل،‭ ‬وإفساد‭ ‬الذوق‭. ‬هناك‭ ‬تغييب‭ ‬للمثقفين‭ ‬والمفكرين‭ ‬والبرامج‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬الرفع‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬الوعي،‭ ‬فالإبداعات‭ ‬الجادة‭ ‬لاتجد‭ ‬لها‭ ‬مكانا‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬المقدم‭. ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬السلطوية‭ ‬يشكل‭ ‬الإعلام‭ ‬أحد‭ ‬الأجهزة‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬للتحكم‭  ‬بالطريقة‭ ‬الناعمة‭ ‬في‭ ‬العقول،‭ ‬وبلورة‭ ‬موقف‭ ‬سلبي‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬والثقافة‭ ‬بذل‭ ‬العلاقة‭ ‬الوطيدة‭ ‬بينهم،وعلاقة‭ ‬التكامل‭ ‬بينهم‭.‬

اليسار‭ ‬والتعليم‭: ‬

إن‭ ‬اليسار‭ ‬كحامل‭ ‬لمشروع‭ ‬مجتمعي‭ ‬ديموقراطي‭ ‬حداثي‭ ‬معني‭ ‬بالمسألة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬عموما،‭ ‬ومسألة‭ ‬التعليم‭ ‬خصوصا‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬قضية‭ ‬مركزية‭ ‬ضمن‭ ‬انشغالاته‭. ‬فعلى‭ ‬اليسار‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬قضية‭ ‬التعليم‭ ‬أولوية‭ ‬لتعبئة‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تعليم‭ ‬عمومي‭ ‬مجاني‭ ‬ديموقراطي‭ ‬وحداثي‭ ‬وشعبي‭. ‬فالتعليم‭ ‬أحد‭  ‬مداخل‭ ‬الإصلاح‭ ‬الشامل،‭ ‬ولايمكن‭ ‬فصل‭ ‬مطلب‭ ‬الديموقراطية‭ ‬عن‭ ‬مطلب‭ ‬إصلاح‭ ‬التعليم‭. ‬إن‭ ‬القضايا‭ ‬الجوهرية‭ ‬المطروحة‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬اليوم‭ ‬تتعلق‭ ‬بمحاولات‭ ‬ضرب‭ ‬المجانية‭ ‬وخوصصة‭ ‬المدرسة‭ ‬والجامعة‭ ‬العموميتين‭ ‬وتسليعهما،‭ ‬وجعل‭ ‬آلية‭ ‬التعاقد‭ ‬كقاعدة‭ ‬للتوظيف‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬إعادة‭ ‬صياغة‭ ‬مفهوم‭ ‬جديد‭ ‬للمدرسة‭ ‬وللمدرس،‭ ‬وإخضاع‭ ‬التربية‭ ‬لتوحش‭ ‬السوق‭ ‬وسلطة‭ ‬المال،‭ ‬ومواصلة‭ ‬ضرب‭ ‬مكتسبات‭ ‬وحقوق‭ ‬الشغيلة‭ ‬التعليمية،‭ ‬وخنق‭ ‬الحريات‭ ‬النقابية‭. ‬فيبدو‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬مصرة‭ ‬على‭ ‬تنزيل‭ ‬مخططاتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشرط‭ ‬المتسم‭ ‬باختلالات‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬لصالحها،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬مرشحا‭ ‬لاحتضان‭ ‬صراع‭ ‬قوي‭ ‬بين‭ ‬التوجه‭ ‬النيوليبرالي‭ ‬والتوجه‭ ‬الديموقراطي‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬الدقيق‭ ‬ينبغي‭ ‬على‭ ‬اليسار‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬سياسيا‭ ‬وفكريا‭ ‬ونضاليا،‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬التعليم‭ ‬العمومي‭ ‬الذي‭ ‬أظهرت‭ ‬الجائحة‭ ‬أنه‭ ‬رهان‭ ‬التقدم‭ ‬والتنمية‭. ‬مهمة‭ ‬اليسار‭ ‬إذن‭ ‬أن‭ ‬يعبئ‭ ‬المجتمع‭ ‬لمواجهة‭ ‬مخطط‭ ‬تفكيك‭ ‬المدرسة‭ ‬والجامعة‭ ‬العموميتين،‭ ‬وهي‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التغيير‭ ‬الديموقراطي‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى