أزمة المنطقة المغاربية ومسؤولية قواها التقدمية
◆ د. علي بوطوالة
تذكير بكلفة تجميد الاتحاد المغاربي
إن القراءة الموضوعية لواقع المنطقة المغاربية تبرز معضلة الانحصار الشامل الذي أصبحت تعاني منه الشعوب المغاربية بسبب النماذج التنموية القطرية وإصرار أنظمة فاسدة وشوفينية ارتبطت مصالح نخبها الحاكمة بالتجزئة والتخلف والوساطة مع المراكز الرأسمالية في الغرب هذا الانحصار الذي تبدو تجلياته ومؤشراته بارزة للعيان، ولا يمكن تجاوزه كما تدل على ذلك تجارب الأمم الصاعدة إلا بتكامل المشاريع المهيكلة وتوحيد الأسواق الوطنية الضيقة وتضافر جهود القوى السياسية الوفية لرصيد شهداء حركات التحرير المغاربية والحاملة لمشروع الدمقرطة والتوحيد والتقدم للمنطقة بأسرها.
فمنذ سنوات، والجميع يؤكد أن الوحدة المغاربية ضرورية لرفع وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحل إشكالية البطالة وتلبية انتظارات شعوب المنطقة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وفي مقدمة كل ذلك فتح الحدود أي فتح المجال لحرية تنقل الأشخاص والبضائع ورؤوس الأموال. وقد سبق لصندوق النقد الدولي أن أثار الانتباه إلى ضعف المبادلات التجارية بين الأقطار المغاربية، حيث لا تتعدى %3 من مبادلاتها الخارجية، وقدرت من جهتها الكتابة العامة لاتحاد المغرب العربي أن تعثر سيرورة الاندماج المغاربي يكلف كل دولة من دوله %2 من نسبة النمو السنوية. في نفس السياق أوضح البنك الدولي سنة 2006 أن من شأن اندماج اقتصادات المنطقة المغاربية رفع الناتج الداخلي الخام للفرد بنسبة تتراوح بين %24 كأضعف نسبة و%34 كأعلى نسبة حسب مؤهلات كل بلد. وهكذا إذا انطلقنا من أرقام 1990 واعتمدنا فرضية ارتفاع نسبة النمو السنوية بنقطتين لكل بلد من البلدان الخمسة فهذا يعني أن كل بلد أضاع على الأقل ثلث ناتجه الداخلي الخام الحالي ونصف الناتج الداخلي الخام للفرد.
وبطبيعة الحال لو تم بناء الاتحاد المغاربي كما تقرر سنة 1989 لكان وضع المنطقة المغاربية مشابها لوضع تركيا على الأقل، أي منطقة صاعدة وقوة اقتصادية متوسطة وذات تنافسية قوية ولها وزنها في التفاوض مع شركائها في أوروبا وأمريكا وآسيا، ولتفوقت على جنوب إفريقيا وأصبحت القطب الاقتصادي المهيمن في إفريقيا، فلنفترض أن هناك طريق سيار وخط سككي فائق السرعة يربطان عواصم دول المنطقة بعضها البعض، فضلا عن ارتفاع وتيرة التنقل الجوي داخل المنطقة ووجود مشاريع كبرى مشتركة وعملة مغاربية موحدة، ومنتوجات صناعية مغاربية تصل إلى كل بقاع العالم … الخ. ألن تكون الشعوب المغاربية في وضع أفضل والعيش في بلدانها يغري بالهجرة إليها عوض الهروب منها ؟!
هناك مجال بالخصوص يحز في نفس كل مغاربي هو هدر الفرص التي كانت متاحة من قبل لو تحملت الأنظمة الحاكمة مسؤوليتها وتجاوزت صراعاتها. إنه مجال التكنولوجيات الجديدة. فنحن نتذكر أنه في بداية سبعينات القرن الماضي كانت دول الجنوب التي أطلق عليها الاقتصادي ألفرد سوفي- Alfred Sauvy (بلدان العالم الثالث) وسمتها منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي “بالدول السائرة في طريق النمو” سنة 1957 متشابهة في بنياتها الاقتصادية نظرا لخضوعها للاستعمار لمدة طويلة ومعاناتها من التخلف بكل أشكاله وأبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، لكن منذ منتصف السبعينات استطاعت دول جنوب شرق أسيا (كوريا الجنوبية وماليزيا والتايلاند …) تحقيق إقلاعها الاقتصادي، وارتفعت نسب نموها الاقتصادي بشكل ملحوظ، بينما دخلت الدول المغاربية في صراع عبثي حول الريادة والزعامة بمنطق “أخي يريد بي شرا”، وبدأ هدر الأموال والطاقات على الجيوش وشراء السلاح والحلفاء داخل إفريقيا وخارجها في تعارض تام مع حتميات التاريخ والجغرافيا! وبفعل صدمة التحولات الكبرى في نهاية الثمانينات (انهيار الاتحاد السوفياتي وزحف العولمة)، بدا وكأن دول المنطقة استفاقت من سباتها وكوابيسها، وقررت العزم على تحقيق الوحدة المنشودة التي طالما انتظرتها شعوبها منذ بداية الاستقلال. لكن مرة أخرى سيتغلب شيطان التجزئة على طموح الوحدة بدعوى أولوية الأمن الوطني ومحاربة الإرهاب بعد 1994 مع أن توحيد الجهود بما في ذلك الجانب الأمني هو الجواب الصحيح على الإشكاليات المطروحة لكل بلد. وهكذا بدل انتهاز فرصة الثورة الرقمية وتدارك الفجوة التكنولوجية ظلت البلدان المغاربية من أضعف البلدان استعمالا لتكنولوجية الإعلام والاتصال، والبيوتكنولوجيا والهندسة الوراثية.
إن كل تأخر في تحقيق المشروع المغاربي يصاحبه تدهور في الأوضاع المعيشية لشعوبه وانسداد آفاق العمل أمام شبابه، وهدر الطاقات في تنافس عقيم بين حكومات بلدانه، بدل تكوين قطب اقتصادي جهوي يتوفر على كل مقومات النهوض الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والتطور الحضاري. إن المقاربة القطرية المستندة إلى وطنية ضيقة قد وصلت إلى حدودها القصوى. ولم يعد بإمكانها إخراج البلدان المغاربية من الوضع الذي توجد فيه! وتبقى الشراكة الاستراتيجية وحدها المدخل الضروري للازدهار الاقتصادي والتنمية البشرية. للأسف نلاحظ الآن سعي الجزائر لتكوين محور مع تونس وموريتانيا لعزل المغرب بمبرر تطبيعه مع الكيان الصهيوني وإبرام اتفاق عسكري معه.
أي دور للقوى الديمقراطية المغاربية في تحقيق الوحدة المغاربية وفي إخراج المنطقة من أزمتها :
لم يتحقق أي مشروع كبير في التاريخ دون رؤية استراتيجية وعمل متواصل للقوى المؤمنة به ! ونظرا لأن مشاريع التوحيد الفوقية أدت إلى ما أدت إليه من فشل وإخفاق رغم الطموح المشروع والإرادة الصادقة لأصحابها من قادة وحركات قومية في الغالب، فان طبيعة المرحلة الراهنة وسياق العولمة المأزومة، وتداعيات الثورات المضادة في المنطقة العربية. كل هذه العوامل تفرض على القوى الديمقراطية والتقدمية بالمنطقة المغاربية الانطلاق من تشخيص استراتيجي يستحضر الإمكانيات المتاحة والمنهجية العقلانية والديمقراطية لبناء اتحاد مغاربي يتيح لجميع شعوب المنطقة فرصة حقيقية للإقلاع الاقتصادي والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، وطبعا لابد من الوقوف على أوهام وأخطاء الماضي أينما كان مصدرها، والتقدير السليم للصعوبات والعراقيل التي تقف في وجه مشروع من هذا الحجم، إذ لا يمكن الاستهانة بمناورات وخطط أعداء الشعوب المغاربية المستفيدين من الوضع الحالي بما فيهم بعض أبناء المنطقة التابعين لمشغليهم الأجانب والساهرين على تنفيذ وتمرير خططهم.
كثيرا ما يتم القفز عن الأسباب التي أدت إلى توقف المشروع المغاربي والتركيز على الصراع المغربي الجزائري وكأن باقي الأنظمة ومعها الشعوب لا دور لها إلا الانتظار! في الحقيقة هناك غياب ملحوظ لما يمكن أن نسميه الوعي المغاربي لدى النخب والجماهير لأن الوعي بالمصالح المشتركة والسعي لتحقيقها يتجسد في الضغط الجماهيري على الأنظمة للاستجابة لمطلب حيوي كمطلب فتح الحدود مثلا، بل الغريب أن القوى السياسية نفسها المفروض فيها توعية الجماهير لا تخرج عن التوجيهات العامة للأنظمة ! فباستثناء بعض التظاهرات الأكاديمية نكاد لا نسمع أي حديث عن الوحدة المغاربية، ووسائل الإعلام بدورها تعزف على نفس ألحان حكومات بلدانها.
إن مسؤولية القوى الديمقراطية والتقدمية في البلدان المغاربية بحكم وعيها بأهمية الوحدة ورصيدها النضالي من أجل تحقيقها مطالبة أولا وقبل كل شيء بتعميق الحوار فيما بينها وتأسيس إطار للتشاور والتنسيق المنتظم لاتخاذ مواقف مشتركة من القضايا المطروحة على الصعيدين العربي والمغاربي، والمبادرة بعقد لقاءات وندوات حول موضوع الاتحاد المغاربي داخل كل بلد متى سمحت الظروف بذلك، والقيام بأبحاث ودراسات لإبراز وتأكيد أهمية المشروع المغاربي لدى الرأي العام، ولما لا، تأسيس وتطوير إعلام مغاربي. فلا يعقل أن يتتبع سكان المنطقة المغاربية أخبار وتحاليل عما يجري في بلدانهم في قنوات فضائية أجنبية. طبعا كل هذا يتطلب فرض وترسيخ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في كل بلدان المنطقة وتعميق النضال الديمقراطي ببعديه المؤسساتي والجماهيري، وحيث لا ينبغي أن ينفصل عن تعميق النضال الوحدوي الذي لازال غائبا عن اهتمامات القوى الديمقراطية والتقدمية في البلدان الخمس.
في الحاجة إلى إطار سياسي مغاربي
من كل ما تقدم يمكننا الاستنتاج أن الأولويات الاستراتيجية في المرحلة الراهنة في رأينا لا تخرج عن المحاور التالية:
• تحقيق وترسيخ الديمقراطية داخل البلدان المغاربية في ارتباط بالأمن بمعناه الشامل.
• بناء شراكة استراتيجية بين أقطار المنطقة في أفق اندماج اقتصادي بواقعية وتدرج.
• التوظيف الخلاق لعلاقات دول المنطقة بإفريقيا كمجال حيوي للتجارة والاستثمار والتعاون وكبديل مستقبلي عن التبعية العمياء للاتحاد الأوروبي.
في هذا الأفق كان حزب التيار الشعبي بتونس قد بادر مشكورا إلى تنظيم ندوة مغاربية يومي 21 و22 يوليوز 2017 بالعاصمة تونس شاركت فيها أحزاب وشخصيات من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وصدر عنها بيان ختامي أكد على أن ” اتحاد أقطار المغرب العربي هو القادر وحده على تحقيق طموحات شعوب المنطقة، والاستجابة للمتغيرات الكبيرة التي يشهدها العالم حيث لا مكان إلا للتكتلات الجهوية السياسية والاقتصادية والعسكرية الكبرى “. وبعد التذكير بأهداف وآليات إنجاز الوحدة المغاربية، خلص البيان إلى “الدعوة لتشكيل هيئة مغاربية للتنسيق والمتابعة تتخذ المواقف المشتركة من مختلف القضايا المطروحة، تجتمع دوريا وتنظم الأنشطة والندوات المختلفة لتوعية الرأي العام بأهمية وضرورة الوحدة المغاربية وانعكاساتها الإيجابية في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية”. إلا أن هذا الهدف رغم تواضعه لم يتحقق بدوره مع الأسف.
والجدير بالذكر أن محاولات إحياء العمل المغاربي المشترك لم تنقطع رغم توتر العلاقات الدبلوماسية وجمود الاتحاد المغاربي، حيث تم تنظيم تظاهرات ثقافية وفنية ورياضية متعددة في هذا القطر أو ذاك، ولازالت الأمانة العامة لاتحاد المغرب العربي تعمل على استكمال البناء المؤسساتي المغاربي، غير أن غياب إطار سياسي شعبي يجمع وينسق نضالات وجهود القوى الديمقراطية والتقدمية المؤمنة بالوحدة المغاربية وبضرورتها الاستراتيجية، ساهم في تعثر بروز وعي جماهيري ورأي عام شعبي ضاغط من أجل تحقيق الوحدة في سياق عالمي أصبحت فيه الاتحادات الجهوية المجال الحيوي الأمثل لمواجهة المخاطر الأمنية ومواكبة الإيقاع السريع للتحولات التكنولوجية.
إن القوى الوطنية والديمقراطية في المنطقة المغاربية قد أصبحت مطالبة بتحمل مسؤولياتها التاريخية وإطلاق سيرورة العمل المشترك لتوعية وتأطير النخب والجماهير بالمشروع المغاربي كمشروع حيوي واستراتيجي لا بديل عنه، وإيقاف الصراع العبثي بين الأقطار العربية، للتغلب على حالة الانحصار والتجزئة، خاصة وأن المنطقة مقارنة مع عدة مناطق في العالم تتوفر على كافة عوامل التوحيد من لغة وثقافة ورصيد حضاري مشترك، وتكامل في الموارد الاقتصادية وطاقة بشرية وسوق واعدة قادرة على المناخ الإيجابي للإنتاج والاستثمار وخلق الثروة وتلبية الحاجات الأساسية لما يفوق مائة مليون نسمة إذا توفرت الإرادة السياسية والتأطير القانوني، والتدبير العقلاني. “فلا يمكن رهن مستقبل 100 مليون مغاربي بإيجاد حل لمأزق حركة انفصالية تم إنشاؤها في زمن الحرب الباردة”، كما صرح بذلك الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي.