هل يمكن للمغرب أن يصبح بلدا صناعيا، من موقعه ضمن نفوذ الاتحاد الأوروبي الاقتصادي ؟
◆ عبد الرحيم جدي
أثير انتباه القارئ إلى أن السؤال المضمن بالعنوان ليس من الصنف الذي يرتبه النحاة ضمن الصيغة الاستنكارية، التي تروم التأكيد أو النفي المسبق، لما ضمن به ذلك.
إن موقف البرلمان الأوروبي الأخير الذي اصطف، بلغة تنكرية استعاضت عن المشكلة الحقيقية بين المغرب واسبانيا – الإقرار باستكمال وحدته الترابية وتبعاتها الدبلوماسية – وتحيز ظاهري كذريعة لتثبيت موقفه الموحد المساند للجارة اسبانيا في خصومتها الدبلوماسية مع المغرب، مدشنا بذلك تزحزحا ملحوظا عن موقف المؤسسة القضائية الأوروبية السابق الذي كان سوغ بمنهجية “عدم قبول الطعن ” حق المغرب في استغلال ترواث أقاليمه الجنوبية … هذه الالتباسات في مواقف الاتحاد الأوروبي المعبر عنها من خلال مؤسساته الرسمية إزاء المغرب ” الشريك بوضعية متقدمة “، من شأنها أن توقظ الحس النقدي بخصوص ما نسج من تطلعات وأوهام حول مستقبل الشراكة المغربية الأوروبية …
ثمة لبس ثان لا بد من استجلائه قبل محاولة التماس بعض عناصر الجواب عن سؤال المقالة المركزي. فخلافا لما كرسته أدبيات مدرسة التبعية الاقتصادية ، بتعبيراتها المختلفة ، من أن علاقة المركز الرأسمالي (=الاتحاد الأوروبي مثلا) بدول الأطراف (كالمغرب) لا يمكن أن تنتج إلى مزيدا من “نمو التخلف ” بسبب علاقة التبعية الاقتصادية التي تقوم على آلية تحويل فائض التراكم الرأسمالي الناتج عن استغلال اقتصاديات المجتمعات الطرفية إلى المركز وبالتالي المزيد من تفقير الاقتصادات الأخيرة … تفقير يؤكده حجم مديونية دول العالم الثالث – من أجل تغطية حاجاتها الاستهلاكية – فضلا عن تحجيم دوراتها الاقتصادية التي تغطي وتفيد قسما محدودا من الساكنة المحظوظة وترمي بالأغلبية إلى فتات الاقتصاد غير المهيكل...
نظرية هذه المدرسة تقف عاجزة عن تفسير الإقلاع الصناعي بدول النمور الأسيوية (جنوب شرق أسيا )والذي عدته سابقا مجرد واجهة vitrine –
أو “غواية اقتصادية ” ضد المد الشيوعي بالمنطقة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي … على أن تكرار تجربة التصنيع بالصين تحت إشراف الحزب الشيوعي وقبلها بإسبانيا والبرتغال واليونان نعى أراء المدرسة إلى متحف تاريخ الفكر الاقتصادي.
تحولات الامبريالية الاقتصادية
أتبثث تجربة المجتمعات المذكورة أن الامبريالية الاقتصادية لم تعد تقتصر على تصدير الرساميل النقدية، شأن المراحل السابقة من تاريخ النظام الرأسمالي، بل انتقلت إلى تصدير الخبرة، وتوطين التصنيع بهذه المجتمعات كحاجة تاريخية لتجديد النظام الرأسمالي، في مواجهة قانون ميل معدل الربح إلى الانخفاض.
لعل أهم ما يترتب عن الاستطراد السابق، هو أن التموقع ضد نفوذ رأسمالية مركزية أو مصنعة، لم يعد كما كان في المراحل السابقة من تاريخ النظام الرأسمالي شرطا أو مقدمة “لنمو التخلف”، بل أضحى إطارا أو ظرفا تاريخيا لإمكان تصنيع المجتمع ” المتخلف “.
ودرءا لأي سوء تفاهم أشير إلى أن مفهوم ” النفوذ الاقتصادي” طبعته مرونة جوهرية بعد الحرب العالمية الثانية وموجة حركات التحرر الوطني… لقد أصبح يتسع لاستيعاب حقيقة الاستقلال السياسي الوطني بل وحتى التمايز الإيديولوجي كما هو شأن خطاب دولة السلفية الوهابية وغيرها من النماذج الثقافية الهوياتية… طبعا شريطة عدم المساس بقواعد اشتغال النظام الرأسمالي وبما يسمح بتوسيع قاعدته الاجتماعية – الثقافية على مستوى العالم.
هل يمكن للمغرب ان يتقدم اقتصاديا ؟
بعد هذه التوضيحات النظرية أعود إلى سؤال المقالة المركزي : هل يمكن للمغرب أن يتقدم اقتصاديا ( =يتصنع) من موقعه ضمن نفوذ الاتحاد الأوروبي ؟.
يكفي الإطلاع على بيانات التصدير والاستيراد للتأكد من أن الاقتصاد المغربي مندمج في قسمه الغالب ضمن اقتصاد الاتحاد الأوروبي… خاصة اسبانيا وفرنسا، وبدرجة أقل ألمانيا وباقي الاقتصادات الأوروبية. ولعله من الضروري التنويه هنا إلى أن رأس المال الصناعي الفرنسي ساهم بقوة في توطين صناعة السيارات بالمغرب، تليه ألمانيا، في توطين صناعة الطاقات المتجددة، رغم محدودية نجاحها إلى الآن، وبعض الصناعات التحويلية الخفيفة من الجانب الاسباني (الحديث لا يشمل توطينات دول من خارج الاتحاد الأوروبي) .
هل يمكن لهذه الدينامية التصنيعية أن تتوسع لتغطي مجالات أخرى كالصناعات التحويلية الغذائية والتجميلية والدوائية والنسيج وصناعة السفن وغيرها من المشاريع المتاحة بما يسمح بتوفير القاعدة الاقتصادية لاستقرار سياسي هش ؟ وهل من المتوقع أن تقبل أعضاء فاعلة بالاتحاد الأوروبي تصنيع الاقتصاد المغربي ؟ وما هي العوائق الموضوعية التي من شأنها لجم سيرورة التصنيع المتاحة ؟
بمراجعة سجل تاريخ العلاقات الاقتصادية بين أعضاء الاتحاد الأوروبي الأساسيين، والاتحاد الأوروبي نفسه، مع مستعمراته السابقة أو الواقعة ضمن نفوذه الاقتصادي يتأكد أنه باستثناء الدول الواقعة ضمن مجاله الأوروبي وتركيا – مع تحفظ بشان هذه الأخيرة – لم يسبق للاتحاد الأوروبي أن ساهم في تصنيع أي اقتصاد من اقتصادات العالم الثالث وأن مساهماته لا تعدو دور الرديف والمساعد للفاعل الأمريكي، كما هو الشأن بالصين وغيرها. بل يمكن ملاحظة أن سلسلة الدول الفاشلة بالعالم الثالث والتي تنوء تحت وباء المجاعات وعدم الاستقرار والتفكك تقع في مجملها ضمن نفوذ الاتحاد الأوروبي… أما تركيا ، التي يئست من حلم انضمامها إلى أوروبا، فتستند في مجمل ديناميتها الاقتصادية إلى ما وفره لها انضمامها إلى الحلف الأطلسي مع ما تكابده من “غبن” فقط لانتمائها إلى الفضاء الحضاري الإسلامي.
إن اختيارات دول معاهدة روما القائمة على شعار استيعاب أوروبا أولا تفسر مساهمة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا الحاسمة في تصنيع كل من اسبانيا والبرتغال واليونان وباقي الرقع التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي… وأن توزيعها بطائق الشراكة المتقدمة على بعض دول الضفة الجنوبية للمتوسط هي مجرد تغطية على انحيازها الاستراتيجي لإقليمها الأوروبي، وتجميد شراكتها إلى أجل غير منظور في باقي مناطق نفوذها الاقتصادي .
تصنيع المغرب التهديد الاستراتيجي
وعليه ، إذا كانت اختيارات الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية نفسها ،تؤكد أن مساهماته المحتملة في تصنيع بعض الاقتصادات الواقعة ضمن نفوذه مؤجلة إلى زمن غير منظور، فإن الرهان على مساهمته في تصنيع الاقتصاد المغربي الآن وراهنا هو مجرد وهم، تصدمه حقائق التناقضات بين بعض أعضائه في مواجهة المغرب. ولعله من الحقائق السياسية الأساسية، داخل الاتحاد الأوروبي، أن مفاعيل الدولة – الأمة لازالت حاسمة في رسم ملامح سياسته الخارجية رغم مظاهر الوحدة المؤسساتية التي تقتصر على التوليف بين تناقضات أعضائه.
لا تستطع إسبانيا ولا ألمانيا وبدرجة مختلفة فرنسا رؤية المغرب مستكملا اندماجه الترابي ومخففا من أعباء تكاليف الدفاع عن وحدة أراضيه سياسيا واقتصاديا… هكذا وضع استراتيجي تعده بدرجات متفاوتة، تهديدا لمصالحها الآنية والمستقبلية ولعل هذا ما يفسر ردود الفعل العنيفة لإسبانيا ضد تحركات المغرب، وتكشف عن تشخيصها لها “كتهديد استراتيجي” يقتضي ردا قويا يشمل كل الاتحاد الأوروبي ! فلا حراسة الحدود ولا الخدمات الأمنية المتنوعة، ولا حتى المصالح الاقتصادية الوازنة بين الطرفين شفعت في حصر الأزمة في حدودها الثنائية والعمل على تحويلها إلى فرصة للحوار الجاد بينهما… لم تستعد الخارجية الاسبانية بعض هدوئها وهي تحاول ضمان الورقة الأوروبية إلى جانبها.
من هنا يتضح جليا أن إمكان تصنيع الاقتصاد المغربي يقرأ كتهديد استراتيجي، في الأقل للوضع الاسباني ومعه الألماني بالنظر إلى حجم استثماراته بالسوق الاسبانية في مجالات صناعية متعددة، وهما صوتان يسعيان لمحاصرة جهود أطراف أوروبية أخرى ساعية إلى الاستثمار الصناعي بالمغرب.
إنها نفس العقيدة الاستراتيجية التي تحكم رؤية القيادة الجزائرية للمغرب ولذلك من الطبيعي التنسيق بينهما ليس في القضايا الكبرى الأمنية والعسكرية والاقتصادية بل شمل التنسيق قضايا تفصيلية كتدبير استشفاء زعيم حركة تحمل السلاح ضد المغرب…
ليس للمغرب المحاصر من الشرق والشمال والذي يصارع لمنع محاصرته من الجنوب إلا الاعتماد أولا وأساسا على قدراته الذاتية وما تقتضيه من سياسات داخلية، مع تنويع شركائه لخلق أمر واقع صناعي /اقتصادي جديد لن يكون أمام الاتحاد الأوروبي إلا مسايرته بالمشاركة فيه ولجم تناقضاته الداخلية… أو توفير فرصة تاريخية للاقتصاد المغربي لإعادة التموقع ضمن عالم متعدد الأقطاب في طريقه إلى الاستواء.