فلسطين التي في القلب…

◆ ذ. عبد الغني عارف

‭” ‬سأدخل وغصن الزيتون مشدودٌ إلى سيفي.. أود أن تفضي الحرب إلى السلام الدائم، وأن يُلجِم الأمان فظائع الحرب، على أن يكون الأول علاجًا شافيًا من ويلات الثانية‭.‬‭.”‬

شكسبير‭ ‬–‭ ‬مسرحية‭ ” ‬تيمون‭ ‬الأثيني‭ “‬

‭******‬

لا‭ ‬أحد‭ ‬منا‭ ‬يعرف،‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬والتدقيق،‭ ‬كيف‭ ‬نبتت‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭ ‬ذات‭ ‬لحظة‭ ‬منفلتة‭ ‬من‭ ‬عقال‭ ‬الزمن‭ ‬وردة‭ ‬اسمها‭ ‬فلسطين‭.. ‬كأنها‭ ‬غيمة‭ ‬شاردة‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬أمطرت‭ ‬فجأة‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬وجدان‭ ‬خلاء‭ ‬فأزهرت‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭ ‬أحلاما‭ ‬وأشعارا‭ ‬وأغاني‭ ‬وأناشيد‭ ‬ومواقف‭ ‬ونضالات‭… ‬إنها‭ ‬فلسطين‭ ‬التي‭ ‬اختزلت‭ ‬معادلة‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬في‭ ‬تركيبة‭ ‬مثيرة‭ ‬يحدها‭ ‬الوطن‭ ‬والشهادة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات‭.‬

قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬تفتح‭ ‬أمامنا‭ ‬اليوم‭ ‬نوافذ‭ ‬شتى‭ ‬للسؤال‭ ‬والتساؤل‭ ‬حول‭ ‬المصير‭ ‬والمآل‭. ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬تتعدد‭ ‬منطلقات‭ ‬قراءة‭ ‬وتحليل‭ ‬التطورات‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬وتعرفها‭ ‬هذا‭ ‬القضية‭ ‬طوال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تتداخل‭ ‬وتتنافر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الخلاصات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬الخروج‭ ‬بها‭. ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تغييبها‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬العربي،‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬أو‭ ‬بدونه،‭ ‬بشكل‭ ‬صارخ‭ ‬أو‭ ‬بصمت‭ ‬هامس،‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬ضحية‭ ‬وعي‭ ‬شقي‭ ‬ومؤلم‭ ‬تجاه‭ ‬هذه‭ ‬القضية،‭ ‬وعي‭ ‬يعتصر‭ ‬عبره‭ ‬أزمنة‭ ‬النكبة‭ ‬والنكسة‭ ‬بوجدان‭ ‬قلق‭ ‬ونازف‭ ‬يفجر‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬الآلام‭ ‬كما‭ ‬الكلمات‭ ‬والألوان‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬والأعمال‭ ‬الإبداعية‭.‬

وإننا‭ ‬إذ‭ ‬نستحضر‭ ‬اليوم،‭ ‬ومرة‭ ‬أخرى،‭ ‬فلسطين‭ ‬باعتبارها‭ ‬هاجسا‭ ‬ثقافيا،‭ ‬فذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التوكيد‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬القضايا‭ ‬الكبرى‭ ‬والعادلة‭ ‬لا‭ ‬تموت‭ ‬مهما‭ ‬تكالبت‭ ‬عليها‭ ‬دوائر‭ ‬الزمن‭ ‬وكواليس‭ ‬المؤامرات‭ ‬والخيانات‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬آن‭ ‬الأوان‭ ‬لعودة‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬لدائرة‭ ‬الانشغال‭ ‬بفلسطين‭ ‬والكتابة‭ ‬لها‭ ‬وعنها،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بأسلوب‭ ‬التبشير‭ ‬والتحريض‭ ‬المباشرين‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الماضية‭ ‬ولكن‭ ‬برؤية‭ ‬تفتح‭ ‬ممرات‭ ‬فعلية‭ ‬ورمزية‭ ‬جديدة‭ ‬للنضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فلسطين،‭ ‬وتستشرف،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬أفقا‭ ‬استراتيجيا‭ ‬مغايرا‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مركز‭ ‬حِجَاجٍ‭ ‬ثقافي‭ ‬ذي‭ ‬أبعاد‭ ‬إنسانية‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬استنهاض‭ ‬ضمير‭ ‬عالمي‭ ‬متجدد،‭ ‬يقظ‭ ‬وقادر‭ ‬على‭ ‬الإقناع‭ ‬بمحورية‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬في‭ ‬معادلة‭ ‬الفوضى‭ ‬والاستقرار‭ ‬العالميين،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭  ‬نتصور‭ ‬مستقبل‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬دون‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬التفاتا‭ ‬يستحضر‭ ‬معه‭ ‬كل‭ ‬معطيات‭ ‬التاريخ‭ ‬وإكراهاته،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬بوابة‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬والتعايش‭ ‬الممكن‭ ‬بين‭ ‬الشعوب،‭ ‬شريطة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬التعايش‭ ‬متوازنا‭ ‬في‭ ‬منطلقاته‭ ‬وأهدافه،‭ ‬ومبنيا‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬الحرية‭ ‬والإنصاف،‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬تمظهرات‭ ‬الحوار‭ ‬والتسامح‭ ‬المزيفين‭. ‬

إن‭ ‬دور‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬هذه‭ ‬المعادلة‭ ‬الصعبة‭ ‬أساس‭ ‬ومركزي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستوجب‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬نطرح‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬علاقة‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬‭ ‬والكوني‭ ‬عامة‭ – ‬بالقضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬أصبحت‭ ‬فيه‭ ‬أصابع‭ ‬الاتهام‭ ‬موجهة‭ ‬لهذا‭ ‬المثقف‭ ‬بكونه‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬تبني‭ ‬هذه‭ ‬القضية،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال‭ ‬كونه‭ ‬أصبح‭ ‬يقف‭ ‬موقف‭ ‬الحياد‭ ‬البارد‭ ‬تجاه‭ ‬تطوراتها‭.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬نجدنا‭ ‬مطالبين‭ ‬بطرح‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لتفكيك‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬الطارئة‭ ‬والملتبسة،‭ ‬فنتساءل‭ ‬مثلا‭: ‬كيف‭ ‬تتمثل‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬في‭ ‬مرآة‭ ‬الإبداع‭ ‬والثقافة؟،‭ ‬ماذا‭ ‬تعني‭ ‬فلسطين‭ ‬للوجدان‭ ‬الجماعي‭ ‬للمثقفين؟،‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬يزال‭ ‬هناك‭ ‬دور‭ ‬للمثقف‭ ‬في‭ ‬حركية‭ ‬دعم‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية؟،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للفعل‭ ‬الثقافي‭ ‬توليد‭ ‬دينامية‭ ‬وعي‭ ‬جديد‭ ‬يحتضن‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬بقوة‭ ‬ويعيد‭ ‬إليها‭ ‬حضورها‭ ‬الخلاق‭ ‬ضمن‭ ‬اهتمامات‭ ‬الرأي‭ ‬العام؟،‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لهذه‭ ‬القضية‭ ‬أفق‭ ‬ثقافي‭ ‬مؤثر‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭!‬،‭ ‬وهل‭ ‬بمُكنة‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬اليوم‭ ‬اختراق‭ ” ‬ثكنات‭ ” ‬المؤسسات‭ ‬الإعلامية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إسماع‭ ‬صوت‭ ‬فلسطين‭ ‬باعتباره‭ ‬صوتا‭ ‬للحرية‭ ‬والتحرر،‭ ‬وإخراجه‭ ‬من‭ ‬عباءات‭ ‬الاحتواءات‭ ‬والوساطات‭ ‬غير‭ ‬البريئة‭…‬؟

نطرح‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬من‭ ‬مدخل‭ ‬ثقافي‭ ‬إيمانا‭ ‬منا‭ ‬بان‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬يهدد‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬تمدد‭ ‬الأخطبوط‭ ‬الاستيطاني،‭ ‬ولا‭ ‬ضبابية‭ ‬فعل‭ ‬المقاومة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬بدورها‭ ‬‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬‭ ‬رهينة‭ ‬استقطابات‭ ‬وحسابات‭ ‬قطرية‭ ‬وإقليمية‭ ‬ودولية‭ ‬ضيقة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الخطر‭ ‬الأكبر‭ ‬هو‭ “‬موت‭ ‬فكرة‭ ‬فلسطين‭” ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الجمعي‭ ‬للشعوب،‭ ‬وهو‭ ‬الخطر‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يسهل‭ ‬على‭ ‬المحتل‭ ‬عمليات‭ ‬الاستئصال‭ ‬الممنهج‭ ‬للكينونة‭ ‬الفلسطينية‭: ‬ذاكرة‭ ‬ووجودا‭.   

إن‭ ‬الأسئلة‭ ‬المطروحة‭ ‬أعلاه‭ ‬لا‭ ‬تستهدف‭ ‬صوغ‭ ‬أجوبة‭ ‬قارة‭ ‬وجاهزة‭ ‬ونهائية،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أنها‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬إنضاج‭ ‬مقومات‭ ‬فكرية‭ ‬وثقافية‭ ‬مؤهلة‭ ‬للإسهام‭ ‬في‭ ‬اجتراح‭ ‬الحلول‭ ‬الممكنة‭ ‬والضامنة‭ ‬لفرص‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬نفق‭ ‬الخطابات‭ ‬المزدوجة‭ ‬والمتحايلة‭ ‬السائدة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بشأن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬مع‭ ‬استحضار‭ ‬كون‭ ‬الثورة‭ ‬المعلوماتية‭ ‬والرقمية‭ ‬المتحكمة‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬والتفكير‭ ‬البشريين‭ ‬راهنا‭ ‬تشكل‭ ‬قوى‭ ‬ناعمة‭ ‬تغير‭ ‬القناعات‭ ‬وتؤثر‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬القرارات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفصح‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬مُفادها‭ ‬أن‭ ‬تحرير‭ ‬الشعوب‭ ‬والإرادات‭ ‬والأوطان‭ ‬اليوم،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬فقط‭ ‬بالوسائل‭ ‬المادية‭ ‬والتقليدية‭ ‬والتي‭ ‬أصبحت‭ ‬في‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬منها،‭ ‬مستهلكة‭ ‬ومتجاوزة،‭ ‬بل‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬اعتماد‭ ‬قوة‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلم‭ ‬كأدوات‭ ‬للمواجهة‭ ‬والمقاومة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتطلب‭ ‬فرشا‭ ‬ثقافيا‭ ‬يسمح‭ ‬باستنبات‭ ‬عقلية‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬معركة‭ ‬التحرير‭ ‬وتدبير‭ ‬فعل‭ ‬المقاومة‭..‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى