فلسطين أكبر من وطن، هي خيمتنا الرمزية الكبرى
- عبد العزيز كوكاس
الجغرافيا قدر ثابت في التاريخ، وبرغم كل أشكال الإبادة الجماعية، وعبر عقود طويلة من محاولات مسخ هوية شعب وذاكرة أمة من طرف الإسرائيليين الذين كانوا يتسكعون في قبور الموتى وخططوا لوطن لأحلامهم مستخلص من بطون الكتب القديمة، ظلت فلسطين قائمة كوجود وكشعب تحول نضاله إلى أسطورة، لم يستطع أقوى كيان في الشرق الأوسط المدعوم من طرف أكبر قوة دولية، أن يمحو فلسطين من خريطة الوجود ومن وجدان أمة.. تحولت فلسطين إلى أسطورة العصر الحديث وعقدة ذنب حتى من خططوا لإنشاء دولة إسرائيل.. منذ وعينا وجودنا كانت فلسطين بالنسبة لنا تمثلا أدبيا، حالة ثقافية ذات بعد إنساني، جمعت الوطني والقومي والشيوعي والإسلامي.. كانت فلسطين لدينا أكبر من أرض أو وطن، كانت حلما، امرأة جميلة كما تغنى بها محمود درويش، توفيق زياد وسميح القاسم وقبلهما إبراهيم وفدوى طوقان وروايات غسان كنفاني وإميل حبيبي.. أو كما نقلتها أغاني مرسيل خليفة وصوت أميمة الخليل ومجموعة العاشقين، أو رسومات ناجي العلي وشاهده الأبدي حنظلة..
تحولت فلسطين لدينا برغم بعد المسافة إلى قضية، نرفع رايتها إلى جانب العلم الوطني في المظاهرات والمواسم والأسابيع الثقافية وفي المسيرات العمالية لفاتح ماي.. أضحت فلسطين حالة ثقافية محملة بالرمزيات، تشكل من خلال الأثر الذي أنتج حولها مخيالنا الجماعي، حتى خطونا الأول على طريق الإبداع كان عبر جسر فلسطين، حتى ونحن نحاكي محفوظنا وما تراكم في لاوعينا من أثر نصوص خالدة لكبار رموز الشعر أو السرد الفلسطيني، من هنا ارتبطت كما جل أبناء جيلي من الأدباء والكتاب المغاربة بالقضية الفلسطينية في أبعادها الوطنية والقومية والإنسانية، لأنها تحولت إلى أفق إبداعي وثقافي يثير أحاسيسنا ويستفز لغتنا ونحن نبحث عن صوتنا الإبداعي الخاص.. تجلى هذا البعد أكثر عند مبدعي الستينيات والسبعينيات والثمانينيات مع فورة الالتزام في الأدب.
علاقتي بفلسطين ثقافيا وإبداعيا لا تخرج عن سياق جيلي، الانخراط في مكتبة السفارة الفلسطينية بالرباط التي قرأت جل كتبها، حضور كل اللقاءات التي كانت تستضيف رموز الشعر الفلسطيني من محمود درويش إلى أحمد دحبور، فيما كانت الأغاني الفلسطينية تؤثت ليالينا وتؤنس طريقنا ونحن نتجه إلى الكلية البعيدة مشيا على الأقدام، كانت الراية الفلسطينية تزين مكتبتي لسنين طويلة ،وكانت جذران منزلي كما لو أنها تؤرخ للجرح الفلسطيني، صور لأطفال الحجارة، وأخرى تفضح الوجه الإجرامي للجنود الإسرائيليين، وصور لدرويش وحنظله وأميل حبيبي وغسان كنفاني وقصاصات مجلات تضم قولة للزعيم خليل الوزير (أبو جهاد) أو ياسر عرفات.. كنت أحس أن فلسطين حقا منفى المظلومين والمقهورين والحالمين.. لم يكن لشعار “لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين” محل من الإعراب، ففلسطين كانت خيمتنا الرمزية، أفقنا الثقافي الرحب الذي ترتسم فيه كل أوجه المقاومة، والانتصار للحرية وروح الكفاح الذي تتوارثه الأجيال..
حضرت فلسطين في كتاباتي الصحفية كموقف من قضية أكثر مما حضرت في إبداعي، إلا إذا كنا نعتبر الدفاع عن الوطن هنا خطوة نحو الذهاب إلى الوطن هناك، أقصد فلسطين، أرض الزيتون والبرتقال الحزين.. بهذا المعنى تحولت فلسطين إلى أفق ثقافي يحمل كل معاني التجديد والرؤية النقدية والانتماء إلى الأفق الإنساني الكوني في مواجهة الظلم والاستبداد والعنصرية وأشكال التطهير العرقي والاحتلال الغاشم، ولعل هذا ما منحها بعد الحفاظ على توهجها عبر عقود طويلة، رغم الخيانات والمؤامرات والانهيارات وتبدل السياقات وتغير المواقف والمواقع وتوالي الخيبات والانكسارات والهزائم، ظلت فلسطين خيمتنا ومسكننا الرمزي… من هنا أسدى المثقفون المغاربة خدمة كبرى للقضية الفلسطينية.. يكفي أن نذكر أن أول من ترجم محمود درويش إلى الفرنسية ترجماته هو الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، كما ترجم إلى الفرنسية أنطولوجيا من شعر النضال الفلسطيني عام 1970، وأنطولوجيا أخرى للشعر الفلسطيني المعاصر عام 1990، كما نقل أعمالاً للعديد من الكتّاب والشعراء الفلسطينيين، مثل غسّان كنفاني وسميح القاسم وغيرهما.. وسمعت مؤخرا تقديم محمد بنيس أكبر أنطولوجيا للشعر الفلسطيني، كما يمكن العودة إلى الأبحاث الأكاديمية في جامعاتنا، للاطلاع على حجم الرسائل والأطروحات الجامعية التي كانت تتناول ثقافيا وإبداعيا فلسطين وكتابها..
لكن منذ اتفاقيات أوسلو وقع انقلاب كبير في التصورات والتمثلات، وأصبنا بدوخة كبرى، دفع الفلسطينيون بالأرض ولم يحصلوا مقابلها على السلام، وانقسم الفلسطينيون ذاتهم خاصة بعد رحيل الزعيم ياسر عرفات، لقد أضحت فلسطين قضية سياسية، كما لو أنها صراع حدود لا صراع وجود، وكانت الانتفاضات الفلسطينية وحدها التي توحدنا وتعيد للقضية وهجها وألقها، اليوم تحتاج فلسطين إلى مبدعين ومثقفين من حجم محمود درويش وإدوارد سعيد، من يؤطر ثقافيا البعد النضالي العميق للشعب الفلسطيني ويؤرخ الرمزيات الكبرى للتحول في أكبر صراع عرفته البشرية، بعد مأساة الهنود الحمر وطرد المسلمين من الأندلس، مع مأساة المورسكيين ومحاكم التفتيش..