الثقافة في مواجهة المشروع الصهيوني
- جمال بندحمان باحث جامعي، مختص في قضايا الفكر والمواطنة
أي دور للثقافة، اليوم، في مواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني، ودعم القضية الفلسطينية؟ وهل مازال للمثقف دور يلعبه ضمن (رقعة شطرنج) صارت أكثر وضوحا، وانكشافا؟. و هل تساعد أوضاع العالم العربي الداخلية على بلورة مشروع ثقافي لمواجهة مظاهر الاستسلام لما يراد له أن يكون واقعا مفروضا؟ وكيف يمكن للثقافة والمثقف أن يلعبا دورهما التأطيري لقضية الأمة الأولى؟.
أسئلة وأخرى تواجه اليوم وضع المثقف وأدواره، وتتراوح، أجوبتها، بين الشك والطعن والحيرة، فقد أضحى المثقف في وضع مقرون بتهم الاستسلام، والانتهازية، والتواطؤ الضمني بالصمت، أو التطبيع المعلن والمقنع… وهي تهم لا تخلو من صحة في الكثير من جوانبها، لكنها لا ينبغي أن تكون الإطار الناظم للأحكام التي يراد لها أن تبدو عامة؛ إذ لا يخلو قطر عربي من وجود أصوات ثقافية تجعل الموقف من القضية الفلسطينية المعيار الأمثل لصفة مثقف، وأن غير ذلك هم كتبة ومتكلمون سيجعلهم التاريخ جزءا من صدى الثقافة فقط،أو حواشيها غير المجدية.
ورغم هذه المعطيات التشاؤمية، فإننا نؤمن بأن (تشاؤم الواقع يقابله تفاؤل الإرادة). روح هذه الإرادة نتقاسمه مع وثيقة، وكتاب؛ أما الوثيقة فهي مبادرة (مثقفون من أجل التغيير) التي أصدرها مثقفون عرب بمرجعيات مختلفة قاسمها المشترك جعل الثقافة آلية أساسية لمقاومة المشروع الصهيوني. وأما الكتاب فهو (تحرير الشرق- نحو إمبراطورية شرقية ثقافية)، للصديق الدكتور إياد البرغوتي الذي قدم تصورا متكاملا عن كيفية استثمار الثقافة في أبعادها المتعددة لمواجهة المشروع الصهيوني..
صدور المبادرة والكتاب في فترتين متقاربتين يؤكد وجود وعي كبير بأهمية السلاح الثقافي في مواجهة كل أشكال التيئيس، والتبخيس، والدفع إلى القبول بأمر لن يكون أبدا هو الواقع…لكن لماذا المثقف والثقافة؟
إذا تتبعنا ما جرى خلال العقدين الأخيرين سننتهي إلى أن المشروع الصهيوني، ومن يدورون في فلكه وظفوا المعطى الثقافي ضمن استراتيجية تسعى إلى جعل مكونات الأمة الداخلية تصارع نفسها من خلال ترسيخ الانقسام الطائفي، والانتماءات الضيقة، والفكر النكوصي… تارة باسم الهوية، وتارة باسم الحقوق الثقافية واللغوية، وما شابههما من دعاوى توظف شرعيتها لغايات غير نبيلة، ومقاصد مدمرة.
لقد أدى هذا التخطيط الملعون إلى بروز اتجاهين مدمرين:
تمثل الاتجاه الأول في محاولة التعويم والإلغاء، ووضع الأمة في حالة من التيه، وفقدان الوعي والعمل على إضعاف العالم العربي، وتهميش مكوناته بترسيخ مفاهيم مغايرة، تدعي التأسيس لشرق أوسط جديد، أو كبير أو ما شاكل ذلك… وهي المفاهيم المنبثقة عن التصورات التقسيمية ذات الصلة بفوضى أسمونها خلاقة، أو صراع ثقافات نظر له كثيرون انطلاقا مما تمليه عليهم مصالحهم…
وتمثل الاتجاه الثاني في محاولة التشويه، والتخلف، والإخراج من العصر كليا باعتماد مشروع الحركات الأصولية المتطرفة، والدويلات الطائفية، ودولة الخلافة في إطار تصورات وممارسات نكوصية معرفيا وحضاريا وثقافيا.
لمواجهة هذه التصورات بات من الضروري إنشاء تيار ثقافي يسعى إلى العمل على استنهاض طاقات المثقفين الغيورين على مستقبل الأمة لتحقيق أمرين أساسيين:
- الأمر الأول: إعادة صياغة مفهوم الأمة بتصور جديد يتضمن المجموعات الثقافية الموجودة في هذا الفضاء الجغرافي الممتد من المحيط إلى الخليج… بشكل يجعل هذه الأمة مكونة من مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، ويجعل الهويّات الثقافية مصدر غنى لوحدة تعاقدية وتوافقية تنظر بعين المساواة للجميع، مع وجود سقف جامع هو مصلحة هذا الفضاء الممتد جغرافيا من المحيط إلى الخليج…وتفعيل (الكتلة التاريخية) التي يوحدها هدف مواجهة المشروع الصهيوني بغض النظر عن الاختلافات في الاجتهادات مادام الهدف واحدا.
- الأمر الثاني: تبني المشروع النهضوي الديمقراطي الإنساني الحضاري التنويري القائم على قواعد حقوق الإنسان، وقيم المساواة، والحريات، والشراكة، والعدالة، والتنمية المستدامة للجميع..
إن هذا الإطار العام سيكون الأنسب لمواجهة التحديات الخارجية و الداخلية، إذ لايمكن خلق جبهة فعالة في غياب تناغم بين المطلبين؛إذ الإقرار بالتنوّع الثقافي والتعددية بأشكالها المختلفة، سيسمح بانفتاح مختلف المكونات على بعضها وفقاً لمبادىء المواطنة المتساوية و المتكافئة،و الدفع باتجاه بلورة مشروع تجديد حضاري يستجيب لطموحات الأمة ويرتبط بمستقبلها انطلاقاً من واقعها الحالي، وذلك بتجاوز مظاهر التعصب والتطرف والطائفية،بتعزيز المشترك الإنساني بين مكوّناتها المختلفة وتعدديتها في إطار الوحدة الجامعة والهويّة المركبة...
ومعنى ما سبق أن المثقف مدعو، قطريا، إلى مناصرة قضايا الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية ،والحقوق، وقيم المواطنة والتنوير، لكنه مدعو، في الوقت نفسه، بشكل أكبر إلى جعل القضية الفلسطينية بؤرة انشغاله واهتمامه، وإلا فإن باقي القضايا والطموحات ستكون مجرد سراب، مادام جوهر التحرر يبتدئ،وينتهي بمواجهة مشروع يسعى إلى تكبيل الأمة، والإبقاء عليها ضمن دائرة اللاديمقراطية، واللاحقوق ، واللامواطنة، واللا تنوير… وما لم يفهم هذا التلازم بين الأمرين، فإن الكثيرين سيبقون ضمن دائرة الاعتقاد بأن القطري يتجاوز الاهتمام بالقضية، وأن الحل هو البحث عن تسويات، وتصالح حذر منه أمل دنقل ببلاغة الشعراء، وروح المقتنعين بشرعية القضية.
هذه القواعد المبدئية تدعو إلى التأكيد على أن المثقف ،وهو يتبناها،فإنه يعمل على تقوية حالة الوعي الاستراتيجي بمصالح الأمة ،وطرق تحقيقها؛ إذ تغذو الثقافة أساس معركة مواجهة المشروع الصهيوني بتعريته دون مواربة، أو اتكاء على عكازة المجازات الفارغة، و اختفاء خلف مفاهيم تسعى إلى (التطبيع) مع محيط يرفضها… وبدون هذه الاختيارات فإن المثقف سيبقى في وضع المستسلم الذي يخفت صوته خوفا أو انتهازية أو اتكالا، او بادعاء أن المحلي والقطري أولى…والحال أن القضية الفلسطينية لا تخضع لتراتبية معينة، أو مفاضلة ما؛ لأن الدفاع عنها مبدأ وجودي وحضاري وحقوقي.