الأزمة الأوكرانية وأفق النظام العالمي الجديد
تحولات النظام العالمي
لقد مر النظام الدولي بثلاث مراحل أساسية:
- المرحلة الأولى ما بين 1648 و 1945
وهي مرحلة طويلة متعددة الفترات تؤشر بداياتها الأولى للنشأة التاريخية للنظام الدولي، حيث أنهت معاهدة “وستفاليا سنة 1648” الحروب الدينية في أوروبا، حيث وضعت أسس نظام دولي حديث مؤسس على تعددية قومية مكنت من تأسيس دول حديثة في أوروبا، وهي مرحلة أخدت بمبدأ توازن القوى، كوسيلة لتحقيق السلم، واتسمت بوجود نسق دولي متعدد الأقطاب: هولندا، فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، وكانت أوروبا هي المركز السياسي للنظام الدولي باعتبارها عاشت نهضة فكرية واقتصادية وعلمية.
وإذا كانت هذه المرحلة، قد عاش فيها النظام الدولي فترات متباينة، خضع فيها العالم وأهم مواقعه الاستراتيجية لدورات هيمنة وسيطرة لإمبراطوريات متعددة ومتعاقبة، فإن المحرك الأساسي كان هو التوسع والسيطرة على الأراضي والمواد الأولية والتجارة والثروات.
ولقد شكلت الحرب العالمية الأولى والثانية محطات حاسمة في تطور النظام الدولي من حيث مؤسساته وقواعده، ومن جهة أخرى حصول تحول جدري بخصوص مراكز القوة وهو ما عكسته النتائج الفعلية على أرض الواقع، حيث تراجعت أوروبا كقوى رئيسية في النظام العالمي، لتحل محلها الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد خرجت أمريكا من الحرب العالمية الثانية كقوة اقتصادية وعسكرية وعلمية كبيرة، حيث استفادت من الحرب بإعادة إعمار أوروبا، وحل أزمتها وتطوير اقتصادها، بل يمكن اعتبار الحرب كانت أساس ما حققته من تقدم وسيطرة ونفوذ.
كما برز الاتحاد السوفياتي كنظام اشتراكي وجزء من منظومة واسعة من دول وقوى انحازت لها وهو ما فرض نوعا من التوازن، وإذا كانت مرحلة الحرب العالمية قد أعطت بعدا قويا للتعاون والتضامن، بين الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية، من أجل دحر النازية والفاشية إلا أن التناقضات الإيديولوجية والمصالح والمواقف من عدد من القضايا سيؤدي إلى سيادة الحرب الباردة.
- المرحلة الثانية ما بين 1945 و 1991
من سماتها توزيع القوة إلى قطبين رئيسيين في المجال الدولي، وهي مرحلة تميزت بالصراع الإيديولوجي والسياسي، وبالاستقطاب الحاد بين معسكرين، معسكر رأسمالي بقيادة الولايات المتحدة ومعسكر اشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي.
ولقد عرف مسارات متنوعة من الأزمات والصراعات والتنافس العسكري والعلمي والصراع حول النفوذ واستعمل كل معسكر عدد من الأوراق والقضايا. (1)
ولقد اتخذت الحرب الباردة عددا من الأشكال والمواجهات، وخصوصا في ظل امتلاك القوى العظمى السلاح النووي، الذي حاول كل طرف جعله سلاح ردع وحماية وتأمين، ولقد سعى الغرب الرأسمالي بكل امكانياته ووسائله، في محاولة لإضعاف المعسكر الاشتراكي بوسائل الدعاية والتأثير والتغلغل، هذا الأخير هو الآخر كان يتخبط في أزماته الداخلية وخصوصا في عدم استطاعته إدماج البعد الديمقراطي في بنية نظامه السياسي مما فتح الباب لأزمة مفتوحة أدت لانهياره بالإضافة لأسباب وعوامل أخرى.
- المرحلة الثالثة ما بعد الحرب الباردة
وهي مرحلة لازالت مستمرة إلى يومنا هذا، فقد عرفت انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك جمهورياته وإلى انتصار النموذج الرأسمالي واقتصاد السوق والخيار الليبرالي، وقد أدى ذلك الى اختلال كبير في ميزان القوى، حيث برزت الولايات المتحدة الأمريكية كقوة اقتصادية وعسكرية وعلمية عظمى، أحادية القطب بعد أن تراجع دور الاتحاد السوفياتي سابقا على جميع المستويات وأصبح النموذج الامريكي هو السائد.
لقد قبلت أغلبية الدول اقتصاد السوق الحرة في ظل عولمة شاملة موجهة، وتضاعف عدد ”الديمقراطيات” في أواخر القرن العشرين، وأكد المنتظم الدولي التزاما عالميا بمبادئ الليبرالية. لكن الأمور في العقد الأول من القرن الجديد اتخذت اتجاها معاكسا، حيث اتضح أن الانفتاح الديمقراطي كان هشا ومرتبكا، ولم يكن تحولا في جوهر النظام السياسي للعديد من الدول، وهو ما وصفه الباحث يورغ سورنسن بأن أغلبية الدول هي شبه ديمقراطية وشبه سلطوية، واتضح أن الالتزام بمبادئ الليبيرالية هو أمر سطحي، وهذا ما تفاقم بعد الأزمة الاقتصادية سنة 2008.
هيمنة أمريكية متغطرسة وشرسة
إن قيادة أمريكا للنظام الدولي دفعها على لسان جورج بوش، للحديث عن نظام دولي جديد، حيث سعت الولايات المتحدة الأمريكية لوضع أسسه وقيمه، بما يكرس هيمنتها وأحاديتها واستخدامها لشعارات حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية، وهي شعارات اتخذتها كغطاء للتدخل في سيادة الدول، وفي إدارة العديد من الأزمات، بما يتوافق مع مصالحها في غياب المنافس، وقد أدت نزعة الغطرسة وسياسات التدخل العسكري واستخدام القوة وخرق قواعد القانون الدولي، لانكشاف حقيقة ومعاني النظام العالمي الجديد القائم على السيطرة والتحكم في مصير الدول والشعوب، والضرب عرض الحائط قرارات وتوصيات العديد من المؤسسات الدولية، وتوجيه وممارسة مختلف الضغوط على الدول والمجتمع الدولي لمسايرة وإعطاء المشروعية لعدد من القرارات، بمبرر محاربة الإرهاب أو الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية. وبدا واضحا الطابع الانتقائي وازدواجية المعايير حين يتعلق الأمر بقضايا محددة كمثال القضية الفلسطينية أو حركات سياسية معادية لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
وتحولت الولايات المتحدة الأمريكية إلى امبراطورية غير رسمية تسيطر على مناطق في العالم بطرق ووسائل متعددة، فالعديد من الدول شكليا لها سيادتها لكن في الجوهر هي خاضعة سياسيا واقتصاديا وعسكريا للهيمنة الأمريكية، التي سعت الى إخضاع العالم لمصالحها وطموحاتها على حساب قضايا التنمية والتحرر والاستقلال والتقدم.
لقد دفعت هذه الهيمنة التي اتخذت طابعا شاملا وعنيفا العديد من الشعوب والدول التي أدركت المآل المأساوي الذي انتهى إليه العالم بعد أن اختل التوازن لصالح الامبريالية الغربية وفي مقدمتها الإمبريالية الامريكية، وانتعشت الأفكار التحررية الداعية إلى الاستقلال والتحرر من الوصاية والتحكم، وتأسف العديد لغياب قوى ردع وتوازن كما كان الأمر في الماضي.
نهاية التاريخ أم عودة صاخبة
لابد أن نثير في هذا السياق الذي نناقش فيه تحولات النظام العالمي استحضار النظريات الأساسية التي حاولت تفسير مآلات النظام العالمي بعد نهاية الحرب الباردة، وفي مقدمتها نظرية نهاية التاريخ لفوكو ياما القائلة بنهاية التاريخ، والتي اعتبرت أن انتصار الليبرالية والغرب، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يؤكد أن -الديمقراطية- والليبرالية تشكلان أسس النظام النهائي للمجتمعات.
واعتبرت أن الليبرالية واقتصاد السوق هي منتهى ما وصل إليه التطور التاريخي، ولقد أثارت هذه النظرية العديد من ردود الفعل والانتقادات، على الرغم من أن فوكوياما قد تراجع عن أهم أفكاره فيما بعد، نتيجة للأحداث والصراعات التي اندلعت بعد نهاية الحرب الباردة، واعتبر أن الديمقراطية لا تأتي بسهولة وهي غير ميسرة للجميع، ولا يمكن تصديرها ولا استيرادها. وبدا واضحا أن العالم الذي بشرت به الليبرالية عالم الحرية والديمقراطية والرخاء والتقدم لم يكن سوى وهم سرعان ما تبخر واتضح أن التحولات التي عاشتها العديد من الدول كانت بالأساس في خدمة مصالح الرأسمال والاحتكارات والشركات المتعددة الجنسية وأن الشعوب ظلت تواجه مصيرها في مواجهة مع الفقر والتخلف والتسلط والاستبداد.
أما نظرية صدام الحضارات للمفكر والسياسي صموئيل هنتنغتون والذي ألف كتابا بعنوان صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي، فاعتبر أن النزاع في السابق كان إيديولوجيا بين الرأسمالية والشيوعية، لكن النزاع القادم سيتخذ شكلا مختلفا وسيكون بين الحضارات، ولقد استعرض عددا من الحضارات التي ستجد نفسها في مواجهة وصراع، وهذا الطرح ينحاز للأفكار التي تعتبر أن التاريخ يقوم على المواجهة والصراع على الرغم من تفسيرها لأسس الصراع أي البعد الحضاري، لكن في حقيقته فإنه صراع سياسي واقتصادي واجتماعي وأيديولوجي.
لقد اتضحت هشاشة التفاؤل الذي حكم الرؤية الليبرالية التي كانت متفائلة بعد نهاية الحرب الباردة واعتبرت أن النسق الدولي سيتجه إلى الاستقرار واعتماد التعاون وانتشار قيم الديمقراطية، وانحسار الحروب التقليدية، حيث انطلقت من كون أن انتصار النموذج الليبرالي، سيفتح الباب أمام اتساع النظام الليبرالي ليشمل بقية العالم، لكن الأمور اتجهت في المنحى المعاكس، فأغلبية الدول شبه ديمقراطية أو شبه سلطوية وشكلت الأزمة المالية لسنة 2008 أخطر كساد منذ ثلاثينيات القرن العشرين وطرحت أسئلة حول مستقبل الرأسمالية المهددة بالأزمات.(2)
النظام الرأسمالي وأزمته الدائمة
أما الرؤية الواقعية فقد اعتبرت النظام العالمي للدول ذات السيادة فوضويا في طبيعته، فهو يفتقد لسلطة واسعة النفوذ ولاوجود لحكومة عالمية، والأكيد أن التنافس والصراع سيعود للواجهة.
أما الرؤية الماركسية وخصوصا الاقتصاد السياسي الدولي فهو يركز على العلاقات بين الدول والأسواق وبين السياسة والاقتصاد، ويعتبر أن جوهر الأزمة يكمن في طبيعة النظام الرأسمالي، حيث الأزمات تتكرر بطرق عديدة، حيث تكون الأزمة التالية أخطر من السابقة، ويرى ديفيد هارفي بأن “مشكلة استيعاب فائض رأس المال هي المشكلة الرئيسية في النظام”، وهو يرى أنه “لا يمكن تحقيق أرباح كافية لرأس المال في حالة التنافس الكامل، وبالتالي لابد على الأقل من شبه احتكار للقوة الاقتصادية العالمية ” وهذا ما يسعى إلى تحقيقه النظام الرأسمالي الغربي بسعيه الى القضاء على كل المنافسين في المدى القريب أو البعيد حيث تحتل الصين الدرجة الأولى وبعدها روسيا وعدد من لدول الصاعدة. فالنظرية الماركسية تعتبر العامل الاقتصادي عاملا أساسيا في تحولات النسق الدولي إلى جانب عوامل أخرى سياسية وعسكرية وعلمية، والأحداث الجارية تؤكد صحة ذلك، فالمواجهة بين روسيا والصين وحلف الناتو وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر هذه القوى الصاعدة بمثابة خطر استراتيجي على مكانة الغرب اقتصاديا وسياسيا واستراتيجيا، وأنها تشكل منافسا قويا لها في تدبير فائضها كأنظمة رأسمالية احتكارية.
لقد قلل البعض حجم التوترات والتناقضات في بنية النظام العالمي وهي توترات عميقة، حيث برهنت الأزمة الأوكرانية الروسية أن النسق الدولي تخترقه تناقضات ما فتئت تتراكم ومرشحة لإحداث تحولات عميقة في أسس النسق الدولي. (4)
إن الصعود القوي والمتنامي لروسيا والصين اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وبروز أحلاف اقتصادية وعسكرية جديدة مستقلة عن نفوذ الولايات المتحدة الامريكية، التي عرفت إخفاقات عسكرية واقتصادية وسياسية قد وضع العالم أمام واقع جديد حافل بعدد من العناصر التي من شأنها تغيير موازين القوى ومراكز القوة وإحداث تغيير جوهري في بنية النظام العالمي، في أفق تجاوز النظام الأحادي الذي عاش معه العالم منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي كل مظاهر العدوان والتسلط والحروب والأزمات وتفكيك الدول وتنامي الإرهاب والتطرف وتهديد الأمن والسلام العالميين، وذلك بسب الحروب المدمرة التي اشعلتها المراكز الإمبريالية في أكثر من منطقة، ولذلك فصعود قوى جديدة مناهضة للهيمنة الغربية هو عنصر حاسم في إعادة تشكيل مستقبل النظام العالمي.
التحولات الاقتصادية الراهنة و تأثيرها على نظام القطب الوحيد
في بداية التسعينات سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات النظام الاقتصادي العالمي من خلال العولمة وتعميم النظام الرأسمالي، لكن هذا لم يمنع حصول عدد من التحولات الاقتصادية على المستوى العالمي في العقدين الأخيرين، وفي مقدمتها بروز قوى اقتصادية صاعدة كالصين والهند ودول شرق أسيا، حيث استطاعت أن تستفيد من العولمة ومن التطور الهائل في تكنولوجيا المعلوميات والتواصل، ومن حرية التجارة والأسواق المفتوحة، رغم وقوع بعض الأزمات الحادة التي شكلت تهديدا حقيقيا للأنظمة الرسمالية ومركزها الاقتصادي.
لقد عاش العالم الغربي أزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة سنة 2008، شبيهة بأزمة 1929 كانت لها تداعيات كبيرة على أوضاع عدد من الدول الرأسمالية وفي مقدمتها أمريكا، التي حاولت من خلال عدد من الإجراءات الاستثنائية التدخل لحل أزمة البنوك وانقاد المؤسسات المالية من الانهيار.
ولقد شكلت تلك الأزمة غير المسبوقة والتي عرفت بأزمة الرهن العقاري منعطفا حاسما هدد وجود الاقتصاد الغربي والأمريكي، وخصوصا أن جل البحوث الاقتصادية التي سعت إلى الكشف عن الأزمة الرأسمالية الأخيرة تؤكد الميل الموضوعي والتاريخي من هيمنة بنية الإنتاج نحو هيمنة بنية المال، وهو الميل الذي يعود لسلوكيات الجشع التي تحكم الرأسمالية المالية في زمن العولمة وهذا مؤشر على أن مثل هذه الأزمة ستتجدد وهو ما يهدد تلك الهيمنة الغربية على المستوى المتوسط والبعيد.
قوى اقتصادية دولية منافسة صاعدة
يشهد النظام الدولي الحالي تحولات كثيرة بعد تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، بخاصةٍ التحولات التي ظهرت على الصعيد الاقتصادي والسياسي، إذ بات من الصعب نوعاً ما، تحديد ما إذا كان النظام الدولي الحالي أحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أم أن هناك دول أخرى ماضية في تجديد النظام الدولي، وتتقاسم معها النفوذ، لتنضم إلى قمة النظام الدولي، وإنهاء الهيمنة الأمريكية على العالم، التي أنشأت المؤسسات الاقتصادية الدولية، والمنظمات الإقليمية التي عملت تحت رعايتها، وبالانسجام مع مصالحها، وبالتالي ضمنت أمريكا في ظل هذا المناخ حماية مصالحها في العالم، لتتفرد على قمة النظام الدولي.
لكن في السنين الأخيرة، برزت إرهاصات تهدد النظام الدولي من خلال ظهور قوى صاعدة تحاول كسر الهيمنة الغربية.
صعود المارد الصيني ومبادرة حزام الطريق
تتقدم الصين اقتصاديا بشكل متنامي محققة نسبة نمو جد متقدمة، وهذا يمكن تسجيله سواء على مستوى الناتج الإجمالي الذي وصل سنة 2021 إلى 17734 مليار دولار بشكل يقترب للناتج الإجمالي لأمريكا، كما أن الصادرات السلعية للصين وصلت الى 3363 مليار دولار متفوقة على أمريكا ،التي لم تتعدى 1754 مليار دولار سنة 2021 حسب إحصاءات البنك العالمي،(3) وهذا ما جعل البنتاغون يحذر الولايات المتحدة من كونها، أصبحت تعتمد على موردي شرق أسيا بنسبة 98 في المائة من الرقائق الالكترونية الدقيقة التي تستخدمها. الجميع يعتبر أن الصين تتجه إلى إزاحة أمريكا من قمة الاقتصاد العالمي وأن ذلك أمر شبه محسوم بل إن التوقعات كانت تشير إلى سنة 2014 كسنة لإعلان تفوق الصين على أمريكا، لقد أصبح مؤكدا أن أمريكا غير قادرة على مجاراة الصين في التطور الاقتصادي ولذلك انتقلت إلى جرها للميدان السياسي والعسكري من خلال قضية تايوان من أجل إشعال حرب في المنطقة بهدف استنزاف وعرقلة تقدم الصين، إلى جانب الحرب الأوكرانية الروسية التي هي الأخرى موجهة بشكل أو بآخر ضد الصين، لأن الصراع الاستراتيجي ضد الصين يمر عبر إزاحة روسيا وإضعافها، لأنها تشكل إلى جانب تجمع دول البريكس قوة استراتيجية وأساسية من شأنها تغيير معادلة النظام العالمي.
وفي هذا السياق نفهم انزعاج أمريكا والغرب ليس فقط مما يجري حاليا من تنافس اقتصادي وتكنولوجي وتجاري بل من التحديات القادمة وخصوصا حين أعلنت الصين مبادرة الحزام والطريق.
وهي المبادرة التي أعلن عنها الرئيس الصيني شي جين لأول مرة في 2013، وأوضح عن رؤيته أهدافها وبرامجها، لقد قارن شي بينغ الحزام بـطريق الحرير التاريخي، أي الطريق التجاري الذي كان قد عزز قبل أكثر من 2000 عام العلاقات الاقتصادية والسياسية التي غطت مسافات طويلة بين الحضارات الشرقية والوسطى والغربية. وللطريق سلَف سابق في الطرق البحرية إلى المحيط الهندي خلال الفترة من العام 618 إلى العام 907م، والتي كانت تربط إمبراطورية تانغ الصينية مع جنوب شرق أوروبا وجنوب غرب آسيا وشرق إفريقيا وشبه القارة الهندية. وتهدف الخطة المعاصرة إلى إنشاء كل من (حزام طريق الحرير الاقتصادي). المكون من سكك حديدية، وطرق تمر عبر آسيا الوسطى وإلى أوروبا، والتي يكملها (طريق الحرير البحري)، المكون من موانئ وخطوط شحن تربط بين دول جنوب شرق آسيا والبلدان التي تجاور المحيط الهندي الأوسع. ويشكل كلا القسمين معا (مبادرة الحزام والطريق) وهو مشروع تجارة عالمي واسع النطاق، والذي يحتمل أن يشمل منطقة تضم أكثر من 65 دولة ويبلغ عدد سكانها مجتمعة 4.4 مليار نسمة، وتعتبر الصين هذا المشروع كرافعة تسعى إلى تحقيق نماء جماعي للعديد من الدول، وأنه محكوم بمبدأ رابح رابح، وأنه سيعزز التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي وسيساهم في إزالة العديد من العوائق، ناهيك عن كونه سيساهم في تطوير البنيات التحتية والمنشئات الأساسية للعديد من الدول مما سيعزز قدرتها الاقتصادية والتنموية والتجارية.
روسيا.. نهضة شاملة لإعادة التوازن المفقود
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفكك جمهورياته، دخلت روسيا في أزمة سياسية واقتصادية أدت إلى تراجع مكانتها الاستراتيجية والسياسية، مما أدى الى إعادة ترتيب الأوضاع في اتجاه تجاوز الأزمة في مختلف مجالاتها، وهذا ما دفع الكرملين إلى إطلاق ورشة كبرى لإعادة البناء الشامل، حيث ضعت حجر الأساس للعديد من الإصلاحات ذات الطابع المؤسساتي، وتشجيع الاستثمار والمبادرة الحرة، وكلها إنجازات اقتصادية مكنت روسيا من تسديد ديونها كافة، ونقلها من البؤس إلى الرفاه، وتحديث الجيش والبنية التحتية وإنهاء العزلة المفروضة عليها، والتصدي لمؤامرات تقسيمها، والخروج بقوة للعالم خلال سنوات قليلة. ومنذ تولي بوتين مقاليد السلطة في الكرملين عام 2000 سعى مباشرة إلى بناء “حلفاء استراتيجيين” في مواقع مختلفة من العالم، بدءاً من الصين القطبية الناهضة والهند الصاعدة وصولاً إلى أميركا اللاتينية، وسوريا وإيران وجنوب إفريقيا، وبذلك تكون الهيمنة الغربية على روسيا قد فشلت في تسعينات القرن الماضي، وعادت روسيا القومية بزعامة فلاديمير بوتين إلى الاضطلاع بدورها كدولة شرقية عظمى.
وبذلك أصبحت الطريق مقطوعة على الحلم الأمريكي لقيادة العالم، رغم نجاح الدبلوماسية الأميركية في دفع عدد كبير من دول أوروبا الشرقية للانضمام إلى حلف الناتو، تحت آلية تحويل “العداء للسوفيات” سابقا، الى “عداء لروسيا” راهنا. وتصعيد سياساتها العدوانية وفرض العقوبات السياسية والمالية والاقتصادية والجمركية ضد روسيا والصين، ووضع العالم كله على شفير الحرب الشاملة، باستخدام الإدارة الأميركية الحالية كل وسائل الضغط لديها، وعلى رأسها آلية “حلف الناتو”، لإجبار مختلف الدول، بما فيها الدول الأوروبية، للتقيد بسياسة العقوبات والمواقف الأميركية المعادية لروسيا والصين.
كما بدأت تظهر في السنوات الأخيرة بوادر واضحة لخط السياسة الأوروبية المخالف للخط الأميركي، كنموذج ألمانيا والصراع الأخير بين فرنسا وأمريكا حول الصفقة التجارية الأسترالية. ولكن، إذا كانت روسيا والصين، المستندة إلى إرادة شعوبها، قد وقفت بصلابة ضد الاستراتيجية العدوانية لأميركا، فإن أوروبا المكبلة بقيود “السياسة الاحتلالية” لأميركا، التي تعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، تواجه صعوبات كبيرة في التخلص من رقبة الوصاية الاميركية.
تجمع البريكس.. تكتل سياسي واقتصادي في مواجهة الهيمنة الغربية
أنشئ تجمع البريكس سنة 2011 ويضم في عضويته دول البرازيل والصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا، وهي منظمة تعمل على تشجيع التعاون التجاري والسياسي والاقتصادي، ويعيش بالدول الخمس نصف سكان العالم، ويصل الناتج الإجمالي لدول البريكس حسب إحصاءات سنة 2021 إلى 24290 مليار دولار تحرز الصين على نسبة 70 في المائة منه، في الوقت الذي يمثل الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة السبع الصناعية 42368 مليار دولار.
وتجدر الإشارة الى أهمية البريكس حيث يبلغ نصيبها من احتياطات العملة الأجنبية 40 في المائة من مجموع احتياطات العالم، وهو ما يفسر قدرتها على عدم تأثرها بالأزمة المالية التي عصفت بالعالم في سنة 2008، ومن جملة التحديات التي تسعى دول البريكس إلى ربح رهانها هو تدويل عملاتها المحلية، حيث لاحظنا خوض روسيا حربا ضروساً لكسر هيمنة الدولار على التسويات المالية الدولية وسيطرة أمريكا والغرب على النظام المالي العالمي. ولقد سجلنا مؤخرا كيف جعلت روسيا تجارتها للنفط بالروبل وكذلك تسوية تجارتها مع بعض الدول بالعملات المحلية.
إن تطوير أنظمة مالية بديلة، من شأنه أن يزعج النظام المالي الغربي، وسيعمل على تأسيس نظام مالي عالمي مواز، لأن مثل هذا النظام قد يوفر حلولاً بديلة للعقوبات الدولية على المدى الطويل. وقد يشجع دولا أخرى على السير على نفس المنوال وبالتالي إضعاف الدولار والأورو كعملات السيادة العالمية. كلها مؤشرات لولادة أنظمة مالية جديدة تفقد الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها القطبية على العالم.
إن من بين التمظهرات الأساسية للنظام الدولي الجديد مدى انعكاس القوانين والقواعد التي وضعها الغرب على المحافظة على تفوقه الاقتصادي والمالي وتفوق الدولار والأورو على الساحة الدولية. وهل نجحت العقوبات الاقتصادية في إرضاخ كل من الصين وروسيا وإيران وإضعافهم؟
تنافس وصراع استراتيجي في الواجهة التكنولوجية والعلمية
لقد دفع النمو الاقتصادي السريع الذي حدث في بداية القرن 21 وبالضبط بين سنتي 2000 و 2008 إلى التفكير في تطوير العلوم والتكنولوجيا والابتكار فحسب تقرير صادر عن اليونسكو فإن الحكومة الروسية عملت على تشجيع الشركات والمعاهد البحثية والجامعات على الابتكار، ونتيجة لذلك تضاعفت استثماراتهم في مجال البحث العلمي والتطوير بين 2010 و 2014. كما ألزمت الدولة نحو 60 شركة مملوكة للدولة بتنفيذ برامج خاصة لتعزيز الابتكار. وتطور الإنفاق الإجمالي على البحث العلمي والتطوير، حيث ارتفع من 1.12٪ من الناتج الاجمالي إلى 1.77٪ مما جعلها تقترب من متوسط إنفاق الاتحاد الأوروبي على البحث العلمي أي 1.92٪.
كما رفعت مرتبات الباحثين 200٪ وقد اتخذ ذلك طابعا رسميا وتشجيعا من مختلف مؤسسات الدولة، حيث جاء في كلمة بوتين التي ألقاها في منتدى بطرسبورج الاقتصادي الدولي في ماي 2014 “روسيا في حاجة إلى ثورة تكنولوجية حقيقية”. وحسب اليونسكو يعمل حوالي 700 ألف فرد في مجال البحث العلمي أي أن الاتحاد الروسي يأتي عقب الولايات المتحدة واليابان والصين.
إن هذا الاهتمام بتطوير البحث العلمي والابتكار من طرف روسيا هو تأكيد لرغبة جامحة وطموح كبير لاسترجاع مكانة روسيا كقوة عظمى لها مكانة ودور متميز على الصعيد الدولي سواء من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية ، كما يندرج ذلك الطموح في سياق تغير خارطة التوازنات الدولية وزعزعة الهيمنة والسيطرة الأمريكية على العالم، والجدير بالذكر أن الصين هي الأخرى أصبحت تشكل بمشاريعها التكنولوجية والعلمية تحديا كبير، حيث خلص تقرير صادر عن جامعة هارفارد الأمريكية إلى أن الصين ستتخطى ريادة الولايات المتحدة في مجالات حيوية وأن واشنطن تعتبر الصين “أهم تهديد جيو-سياسي تواجهه الولايات المتحدة في القرن 21”.
ويشمل مجال التنافس الذكاء الصناعي وأشباه الموصلات وعلوم المعلوميات اللاسلكية والكمية والتكنولوجيا الحيوية والطاقة الخضراء، وبالفعل تقدمت الصين في بعض هذه المجالات وتخطت الولايات المتحدة، بل إنها تسعى للريادة والتفوق وهو ما يشكل تحولا كبيرا في أحد الأسس الرئيسية التي تتأسس عليها سيطرة وتفوق الولايات المتحدة وقيادتها للنظام العالمي الجديد.
الحرب الأوكرانية ومستقبل النظام العالمي
لقد كان للحرب الأوكرانية الروسية تداعيات كثيرة على العالم وفي مقدمتها الغرب، حيث أثرت هذه الحرب على الاقتصاد العالمي، وهو ما شكل منعطفا خطيرا من الركود والتضخم والأزمة، حيث تفاقم مشكل الطاقة والغداء، ولقد تزامنت الحرب مع شروع العالم في معالجة الآثار السلبية للأزمة الصحية لكورونا، وإذا كانت تداعيات الحرب قد أثرت على الدول الفقيرة والنامية فإن الغرب هو الآخر أصبح يعاني اقتصاديا، وما لبت العالم يتحدث عن أزمة غذائية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وقد لوحظ تهافت المواطنين على الأسواق في بعض الدول الأوروبية والنقص الحاد في المواد الأساسية: الزيوت والخبز..، والتي كنا نعتقد وإلى وقت قريب بأن الدول الغنية لن تمسها ندرة هاته المواد. إنها حقيقة تعكس ضعف الموارد الأولية الغذائية والطاقية للغرب وتمركزها في شرق أوروبا وتحديدا في روسيا. ونلمس بذلك تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية. وفي تقرير نشرته مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية، يقول الكاتب ديزموند لاكمان فيه (إنه لم يسبق أن عانت الولايات المتحدة أوقات السلم من عجز في الميزانية أو ارتفاع مستوى الدين العام أعلى مما تشهده اليوم)، ويضيف أن أوروبا تعاني حاليا مشاكل خطيرة، وربما يكون الأورو في وضع أسوأ من الدولار، حسب قول الكاتب، إذ يعيش الأورو (المنافس الرئيسي للدولار) أزمة حقيقية بسبب حالة الركود الاقتصادي التي تعيشها أوروبا، ويبدو الاتحاد الأوروبي على أعتاب أزمة ديون جديدة قد تشكل تهديدا وجوديا لعملته.
بالإضافة إلى كون الحرب الأوكرانية ساهمت في تدفق حوالي 5 ملايين لاجئ، مما شكّل تحديا للدول الأوروبية التي تعاني من الضغط على ميزانياتها في وقت تتعامل مع تدفق اللاجئين. وتفيد تقديرات صندوق النقد بأن إجمالي الخسائر للغاز الروسي وإمدادات النفط قد تكلف الاتحاد الأوروبي 3% من إجمالي الناتج الداخلي. أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فتجد ضالتها في الحروب وفي الهدم، كما وقع في الحرب العالمية الثانية، حتى تتمكن من تنشيط اقتصادها العسكري والطاقي، بقطع الطريق على روسيا في تعاملاتها التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي.
نحو عالم متعدد الأقطاب
إن مجمل هذه التطورات والتحولات، أفرزت واقعا دوليا جديدا يحفل بقوى عظمى لها مكانة اقتصادية وعسكرية وعلمية بارزة كما رأينا، ولها طموحات تتقاطع مع طموحات عدد من الدول التي ترفض الهيمنة الأمريكية على العالم وتتطلع إلى عالم متعدد الأقطاب، يتيح لجميع الدول تحقيق استقلالها والتقرير في مصيرها بدون تدخل أو توجيه أو هيمنة. إن الدرس الأساسي الذي تقدمه الحرب الأوكرانية هو أن العالم بعد هذه الحرب سيكون مختلفا، وأن تداعيات هذه الحرب تتعدى البعد الإقليمي أو الأوروبي ليمتد للعالم على جميع المستويات وخصوصا على مستوى النسق الدولي الذي سيتم إعادة تشكيله في اتجاه وضع حد للنظام الأحادي القطب. كما أن هذه الأزمة أظهرت أن العالم أصبح مترابطا ومتداخلا، وهذا ما لمسناه في مشكل الطاقة والغداء والعديد من المواد التي ارتفعت أثمنتها مباشرة بعد العملية الحرب الروسية الأوكرانية، كما أن العقوبات الاقتصادية التي وجهت لروسيا لم تتأثر بها روسيا لوحدها بل لمسنا ارتداداتها حتى على أوروبا وأمريكا، هذه الأخيرة التي دخلت في أزمة تضخم كبيرة وهو ما أصبح يثير العديد من الانتقادات الداخلية من طرف أوساط سياسية، خصوصا الجمهوريين حيث صوت في الشهور الماضية أكثر من خمسين نائبا من الحزب الجمهوري ضد المساعدات الاقتصادية والمالية والعسكرية لأوكرانيا، كما أن التصدع بدأت تعيشه أوروبا حيث بدأت تتحرك بعض الدول لإيجاد حل سلمي متفاوض عليه، وتقود كل من إيطاليا وفرنسا وألمانيا هذا الخيار، رغم الضغوطات التي تتعرض لها من طرف أمريكا، وما كان ليحدث ذلك لولا انحسار استراتيجية العقوبات والتضييق على روسيا، هاته الأخيرة التي أنجزت تقدما عسكريا كبيرا في الميدان وتحقق عدد من أهدافها التي أعلنها بوتين يوم 24 فبراير 2022، رغم منحنيات الكر والفر ميدانيا، وهو ما جعل أوكرانيا حقلا للصراع الدولي، و قد كان عمق التدخل الروسي هو حماية المناطق التي تعيش فيها الأقلية الروسية التي انظمت الى روسيا بعد اجراء استفتاء عام وكذا تحقيق الأمن الحدودي لروسيا، لقد أصبحت كلمة السر في الأوساط القيادية الروسية أن هدف الحرب هو وضع حد للهيمنة الامريكية على العالم وتغيير النسق الدولي في اتجاه عالم متعدد الاقطاب.
إن التداعيات الاستراتيجية والعسكرية والسياسية للأزمة الأوكرانية، تبرز حجم التحولات الكبيرة التي تنتظر العالم وفي مقدمتها أن النظام العالمي سيشهد تغيرا جذريا في نسقه، لقد أظهرت هذه العملية العسكرية ترهل النظام الغربي وعجز الولايات المتحدة وأوروبا على وقف اندفاع روسيا ورفضها للتدخل العسكري في أوكرانيا، وهو ما دفع الناتو إلى الاكتفاء بالدعم المالي والسياسي والعسكري لأوكرانيا دون التدخل المباشر، وهو ما فسره العديد من المتتبعين بنهاية الهيمنة الأمريكية وانحسارها وخوف العالم الغربي من اندلاع حرب مفتوحة ممكن أن تستعمل فيها الأسلحة النووية، ما سيفضي إلى نتائج كارثية على جميع المستويات.
فرغم حجم التهديدات والعقوبات الاقتصادية ضد روسيا، استطاعت هذه الأخيرة امتصاص ضرباتها بسبب وجود حلفاء لها ودول أخرى تريد أيضا إزاحة الولايات المتحدة من قمة النظام العالمي سواء على المستوى الاقتصادي أو الاستراتيجي أو السياسي.
إن ما يجري من تقدم عسكري ومن سيطرة روسية على مناطق أوكرانيا، ومن تدمير لبنيتها العسكرية ولترسانة الأسلحة التي تقدمها أمريكا والغرب لها، يؤكد أن روسيا ذاهبة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية والاستراتيجية من هذه الحرب، والمتمثلة في جعل أوكرانيا دولة محايدة وغير منضوية تحت لواء الحلف الأطلسي، وعبر ذلك تأمين حزام جغرافي ممتد على الحدود الإدارية لجمهوريتي لوغانسك ودونيسك، وخلق حزام أمني يحمي حدود روسيا. إن عددا من المهتمين يتحدثون عن السيناريو الأقرب للتحقق وهو بروز عالم متعدد الأقطاب، يضع حدا للهيمنة الأمريكية التي عانى الجميع منها وخصوصا بعد نهاية الحرب الباردة وشروع أمريكا في إرساء نظام عالمي أطلقت عليه في بدايته “الجديد”، وغطت بشاعته ووحشيته بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، لكن في العمق كانت ترسي عالما من الفوضى ونهب الثروات والتحكم في مصير الدول وتدمير عدد من الدول: سوريا والعراق وأفغانستان.. والتدخل العسكري في العديد من المناطق في تحد للقانون الدولي وللمؤسسات الدولية، حيث لمسنا الازدواجية في المعايير والأحكام في التعاطي مع عدد من القضايا، وكذلك استغلال أحداث الإرهاب كغطاء لممارسة أفظع الانتهاكات للمواثيق الدولية. ولقد بدا واضحا أن النظريات التي ظهرت بعد نهاية الحرب الباردة والمتمثلة في نظرية نهاية التاريخ و نظرية صدام الحضارات، قد فشلت في تفسير عالم ما بعد الحرب الباردة، فالصراعات والحروب لم تتوقف، كما أن الرؤية الليبرالية في مجال الدراسات الخاصة بالعلاقات الدولية هي الأخرى ظهرت عاجزة بل ومتهافتة في تحليل الأوضاع الدولية، فرؤيتها الرأسمالية المتفائلة بانتصار النموذج الليبرالي باعتباره سيفتح أفقا جديدا للبشرية من الرخاء والتقدم والتعاون والرفاهية، لم يتحقق أي شيء منه، بل إن الرؤية الليبرالية ذهبت إلى اعتبار أن الحرب التقليدية بين الدول أضحت مستبعدة، فشهدنا عودة الحروب التقليدية بين الدول والحروب المتعددة الأشكال والوسائل وحصار ومعاقبة العديد من الدول وتمدد حلف الناتو في اتجاه محاصرة والضغط على روسيا والصين، واستخدام عدد من الدول التي كانت تنتمي للمعسكر الشرقي كقواعد عسكرية واستراتيجية لتطويق روسيا ووقف أي إمكانية لتحقيق التعاون بين روسيا وأوروبا، هذا التقارب الذي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية إجهاضه، حيث أن هذا التقارب الروسي الأوروبي يشكل تهديدا استراتيجيا لمصالح الولايات المتحدة الامريكية على المدى المتوسط والبعيد.
لقد أكدت الأحداث الأخيرة بروز قوى جديدة تتمتع بالعديد من الأفضليات الاقتصادية والعسكرية والتقنية، هذا ما دفع ماكرون ليصرح بنبرة من التشاؤم لمجلة لوبوان “إن العالم يمر بفترة تحول عالمي ولم يعد عالما ثنائي القطب، بل عالما متعدد الأقطاب” ، وهذا ما يفسر التحرك الفرنسي والألماني والإيطالي للبحث عن إمكانية إيجاد حل سلمي، ليس فقط لأن تداعيات الحرب لها تأثير سلبي وقوي على اقتصاد الدول الغربية، بل لأن هدف إضعاف روسيا وإخراجها منهزمة عسكريا واقتصاديا واستراتيجيا من الحرب الأوكرانية هدف غير واقعي وغير ممكن، بل إن تكتيك إطالة الحرب لم يعد أمريكيا بل أصبح روسيا بعد أن تم الالتفاف على العقوبات وامتلاك روسيا لأوراق النفط والطاقة والغداء، وبروز اصطفاف جديد لمراكز القوى وللتحالفات العالمية وخصوصا من طرف كل الدول الأطراف التي تضررت من النظام الأحادي القطبية، هذه الدول تتطلع إلى عودة التوازن الدولي وتغيير النظام الدولي، بل أصبحت تتطلع إلى تغيير عدد من قواعده ومؤسساته لتكون في خدمة السلم والاستقرار والتقدم وليس في خدمة الغرب فقط.
الهوامش
1. يورغ سوسن. إعادة النظر في النظام الدولي الجديد، ترجمة عماد عواد، منشورات عالم المعرفة عدد 480. الكويت يناير 2020.
2. دانييل بيل. نموذج الصين الجدارة السياسية وحدود الديمقراطية، ترجمة عماد عواد، منشورات عالم المعرفة عدد 485. الكويت 2021.
3. مايكل جيه مازارو أندرو رادين، ” فهم النظام الدولي الحالي ” مؤسسة RAND للنشر، كاليفورنيا. 2016 ص. 7.
4. يورغ سوسن مرجع سابق