المغرب و”إسرائيل” تحالف مزعزع للاستقرار في المنطقة
غريب محمد
على الرغم من كون العلاقات المغربية الإسرائيلية لم تكن سرا على أحد، لأن المغرب حافظ منذ فترة طويلة على علاقات سرية مع الكيان الصهيوني. إلا أن الرأي العام المغربي لم يتوقع أن تعلن الدولة المغربية في وضح النهار عن تطبيع علاقتها والتحالف مع دولة تعتبر رأس حربة القوى الإمبريالية في العالم العربي والإسلامي، والمرفوضة شعبيا بسبب احتلالها للأراضي الفلسطينية، والتي تواصل انتهاك القانون الدولي وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
الخطاب الرسمي للسلطات المغربية يبرر هذا التقارب بضرورة قيام الدولة المغربية بتعزيز سياستها الخارجية من خلال بناء تحالفات تخدم مصالحها الاستراتيجية وأمنها، وقبل كل شيء الحفاظ على وحدة أراضيها المهددة بالسياسة العدائية للجارة الجزائر. لقد حدث هذا التطبيع بعد اعتراف الإدارة الأمريكية بمغربية الصحراء، وفي سياق تميزّ بتوقيع اتفاقات أبراهام بين إسرائيل وبعض الدول العربية مما شجع المغرب على الإقدام على هذه الخطوة والتوقيع على شراكة استراتيجية مع إسرائيل.
وهكذا فإن الدبلوماسية المغربية القوية بالدعم الأمريكي بدأت في دفع بيادقها على رقعة الشطرنج على الساحة الإقليمية والدولية، ولا سيما في مواجهة إسبانيا وألمانيا. وقد انحاز هذان البلدان مؤخرًا إلى موقف الرباط من قضية الصحراء لذلك فإن التحالف مع إسرائيل من وجهة النظر الرسمية يهدف إلى خدمة المصالح الاستراتيجية للمملكة. وعلاوة على ذلك، فالمغرب لا يشكل استثناء في هذا المجال لأن التحالفات في العلاقات الدولية لا تخضع لاعتبارات مبدئية وأخلاقية، أو بناء على حساسيات ايديولوجية، بل بالأحرى لاعتبارات المصلحة.
إن الحقائق التاريخية تؤكد ذلك، وهناك العديد من الأمثلة عن تحالفات دولية غير طبيعية.. ويمكن اعتبار الاتفاق الألماني السوفيتي أبرز مثال يمكن الاستشهاد به في هذا المجال.
” في عام 1939، وفي بداية الحرب العالمية الثانية، توقع الجميع مواجهة مسلحة بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي الشيوعي، لكن المفاجأة حدثت في ليلة 23 أغسطس 1939 في الكرملين، حيث وقع مفوض الشعب للشؤون الخارجية فياتشيسلاف مولوتوف ووزير الخارجية الألماني واكيم فون ريبنتروب ميثاق عدم اعتداء” 1 إضافة الى “البروتوكولات السرية التي تم تبنيها خلال زيارة واكيم فون ريبنتروب الثانية لموسكو في 28 سبتمبر والتي نصت على تقسيم أوروبا الشرقية إلى مناطق نفوذ” 2 . لقد كان لكلا الجانبين وعلى الرغم من التصريحات الودية، نوايا ومصالح غير معلنة سعيا إلى تحقيقها، بما في ذلك احتلال بولندا وكسب الوقت لمواجهة بعضهما البعض لاحقاً. وهذا بالضبط ما حدث في 22 يونيو 1941 مع اندلاع عملية “بارباروسا” التي غزا خلالها الألمان الاتحاد السوفيتي.
إن هذا الانقلاب في الوضع جعل ونستون تشرشل، الذي كان مناهضًا بشدة للشيوعية، يقول إنه “إذا غزت ألمانيا الجحيم، فسوف أجد بالتأكيد ظروفاً مخففة للشيطان”، وهو بذلك يظهر أنه يمكن أن يتحالف مع عدوه المعلن ستالين لمواجهة هتلر.
إذن وفقاً لهذا المنطق، وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين السياقات التاريخية وطبيعة الفاعلين، فإن استراتيجية المغرب تبدو عقلانية وتحظى بدعم مكيافيلي لأنها تستهدف الدفاع عن المصالح الاستراتيجية للمملكة.
لكن إذا نظرنا إلى الجانب الإسرائيلي، نجد أن الغايات والمصالح الاستراتيجية التي تحفز الكيان الصهيوني تتعارض تمامًا مع تلك الخاصة بالمغرب.. والحقيقة أن استراتيجية “إسرائيل” الهادفة إلى ترسيخ نفسها في إفريقيا والعالم العربي قديمة جدا وتجد ترجمتها في” عقيدة الأطراف التي تصورها رؤوفين شيلوح، مؤسس الموساد، ونفذها في الخمسينيات من القرن الماضي رئيس وزراء إسرائيل ديفيد بن غوريون”3. هذه العقيدة، التي تسعى من خلالها “إسرائيل” إلى كسر عزلتها الإقليمية، وإقامة تحالفات مع دول تمثل في نظرها ”وجهاً أقل تطرفاً بين أعضاء جامعة الدول العربية.” 4 لكن الجزء الثاني من هذه الاستراتيجية هو زعزعة استقرار العالم العربي ما سيؤدي في النهاية إلى تفككه، لأن فكرة تجزئة جميع الدول العربية إلى وحدات صغيرة بالنسبة لإسرائيل هي فكرة راسخة في تفكيرها الاستراتيجي، ويتأكد الارتباط الوثيق بين هذه الاستراتيجية وفكر المحافظين الجدد الأمريكي من خلال تفكيك السودان والعراق وكذلك التوترات الطائفية في معظم الدول العربية.
من هنا تأتي مخاوف الجزائر من التقارب المغربي الإسرائيلي، لا سيما عندما يتخذ هذا التقارب أبعاداً خطيرة، خاصة وأن الاتفاق الإطار الذي وقعه الوزير الإسرائيلي بيني غانتس ونظيره عبد اللطيف لوديي، ”يشمل ، تبادل الخبرات الاستخباراتية ، ونقل التكنولوجيا، وبيع الأسلحة، وتعزيز العلاقات الأمنية، فضلاً عن التعاون العسكري وفي مجال التجسس خاصة في ما يتعلق باستعمال معدات المراقبة السيبرانية مثل .” 5Pegasus”
من الواضح إذن أن الجزائر وتونس قلقتان من التقارب بين المغرب وإسرائيل، لأنه تحالف لا يهدف الى تحقيق الاستقرار في العلاقات بين دول المغرب العربي، بل يأتي قبل كل شيء لمواجهة بعض الدول التي تعتبر خارج مجال هذا الحلف، وبالتالي زعزعة استقرار منطقة متأثرة بصراع القوى العظمى من أجل السيطرة على منطقة البحر الأبيض المتوسط الذي يعتبر منطقة تنافس لأهميتها الجيو-استراتيجية.
لذلك ليس من المستبعد أن تلجأ الجزائر إلى تحالفات مضادة وحتى إلى إنشاء قواعد عسكرية روسية أو صينية على حدودها مع المغرب، والتي هي أصلا مصدر كل التوترات. وبناءً على ذلك، يمكننا أن نستنتج أن القوى العالمية الكبرى تقوم في إطار الصراع الدائر بينها على مناطق النفود بتوظيف واستعمال الدول المغاربية في لعبة القوة هذه، والتي تحاول إسرائيل من خلالها تعزيز مكانتها خاصة في مواجهة عدوها المعلن، إيران التي يشكل تقدمها في برنامجها النووي وتطور ترسانتها الصاروخية الهاجس الكبير للكيان الصهيوني، وفي ظل هذا الاستقطاب في المنطقة المغاربية، يأتي إعلان رئيس الدبلوماسية الإسرائيلية يائير لبيد، الذي أعرب في آب / أغسطس 2021 خلال زيارته للمغرب عن ”مخاوفه من الدور الذي تلعبه الجزائر في المنطقة، والتقارب مع إيران.” 6 وقد اعتبرت الجزائر هذا الإعلان بمثابة تهديد إسرائيلي ينطلق من أراضي دولة مجاورة.
بالإضافة إلى هذه المعطيات، تؤكد الحقائق التاريخية سجل إسرائيل في زعزعة استقرار العالم العربي. وتعتبر اتفاقيات كامب ديفيد الموقعة في 17 سبتمبر1978 من قبل الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، نموذجا لذلك لأنها بدلاً من إقامة سلام دائم في منطقة الشرق الأوسط، فقد فتحت الباب أمام سلسلة من الحروب. وهكذا وبعد تأمين الجبهة الجنوبية، قامت “إسرائيل” بغزو جنوب لبنان في يونيو 1982 لتدمير منظمة التحرير الفلسطينية، وفي عام 2006 شنت حرباً ثانية في جنوب لبنان بهدف إخراج حزب الله من الصراع. وعلى الجبهة الشمالية شكل الجولان المحتل من قبل الجيش الإسرائيلي منذ حزيران / يونيو 1967 منطقة أخرى من التوتر الشديد، ويمثل مستقبلها ومستقبل القضية الفلسطينية حجر عثرة يعيق كل محاولات تحقيق الاستقرار في المنطقة.
اليوم لم تغير “إسرائيل” شيئاً في سياستها العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني من جهة، وتجاه الدول العربية من جهة أخرى، بل إن الأخيرة هي التي تخلت عن مواقفها في سياق يتسم بخلل في ميزان القوى لصالح الأمريكيين والإسرائيليين.
ومن المسلم به أن مصلحة المغرب هي الحفاظ على وحدة أراضيه، واعتراف الإدارة الأمريكية بمغربية للصحراء، وهي خطوة للأمام بالنسبة للدبلوماسية المغربية، لكن هذه الخطوة لا ينبغي أن تخفي حقيقة أن “إسرائيل” حصلت على كل شيء مقابل هذا الاعتراف، وأن المغرب فقد استقلاله الدبلوماسي، في منطقة متعددة المخاطر، حيث تكمن مصالحه في الحفاظ على الأمن ، والعمل على تخفيف التوترات مع جيرانه، والسعي إلى ترتيبات تسمح لدول المغرب العربي بالتعاون على جميع المستويات من أجل التعامل مع العديد من المخاطر التي تلقي بثقلها على مستقبلها، لا سيما التهديدات التي تتمثل في الفوضى القائمة في ليبيا بسبب انهيار الدولة في هذا البلد العربي، وكذا التوترات في الشريط الصحراوي والساحل الذي تنشط فيه مجموعات مسلحة مختلفة.
لذلك وبمنطق المصالح فليس من مصلحة المغرب زعزعة استقرار منطقة أضعفتها الصراعات الداخلية والتنافس والتوترات بين الدول. أما بالنسبة لحل مشكلة الصحراء، فمن الواضح أنه ممكن فقط في إطار وحدة بلدان المغرب الكبير، وليس بالاعتماد على قوى خارجية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المغرب، الذي يطمح إلى لعب دور قوة إقليمية، لديه مصلحة في السعي إلى تحالفات قوية مع جيرانه وأكثر شمولاً، والجمع بين عناصر قوته، لا سيما من خلال تعزيز جبهته الداخلية. وفي هذا الصدد، فقد سبق للجنرال ديغول أن قال إنه “من غير المقبول أن تترك دولة عظمى مصيرها لقرارات وأعمال دولة أخرى، مهما كانت العلاقة بينهما ودية”. هذا المنطق هو الذي دفع رجل الدولة العظيم هذا إلى القول عن إنزال الحلفاء في نورماندي 6 يونيو 1944 “إنها معركة فرنسا، وهي معركة فرنسية”.
لقد أراد أن يتذكر الناس أن فرنسا قد حررها الفرنسيون.
إن دول جنوب البحر الأبيض المتوسط بعيدة كل البعد عن هذا المنطق، بل هي عالقة بمنطق الخصومات ولعبة التوترات التي تخدم مصالح القوى الأجنبية، وعلى عكس إسرائيل، ليس لهذه الدول سياسة أمن قومي جديرة بهذا الاسم، ونتيجة لذلك فقد تحولت كلها الى أدوات في يد القوى العظمى تستعملها في صراعها من أجل خدمة مصالحها الاستراتيجية.
في هذا الصدد، يمكن اعتبار تحالف المغرب مع “إسرائيل” دليلا على تبعيته وعدم كفاءة سياسته الخارجية، ويلقي بظلال من الشك على قدرة دبلوماسيته على الدفاع عن أمنه ووحدته الترابية.. ولقد بدأت فعلا تظهر النتائج الكارثية لسياسة التطبيع هذه وذلك في العلاقة مع تونس التي استقبل رئيسها زعيم “البوليزاريو” استقبال رؤساء الدول وذلك خلال مؤتمر طوكيو للتنمية في افريقيا الذي انعقد في تونس خلال شهر غشت من هذه السنة.
إن الدبلوماسية المغربية كان من المفترض أن تتنبأ وتنتظر هذا الموقف السلبي من تونس لأنها عندما أدخلت ” الكيان الصهيوني” كفاعل في المنطقة فهي بذلك خلقت واقعا جديدا ترفضه الشعوب العربية أولا وترفضه الدول المجاورة أيضا، ليس لأنها أكثر ارتباطا بالقضية الفلسطينية من المغرب، ولكن خوفا على استقرارها وأمنها الوطني. وهي لهذه الاعتبارات الاستراتيجية ستعمل على بناء تحالفات مضادة ستزيد حتما في زعزعة استقرار المنطقة المغاربية، وهذا بالضبط ما يخدم مصالح القوى الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفها الكيان الصهيوني.
أمام هذا الواقع يتأكد مرة أخرى بعد النظر الذي كان يتمتع به القائد الأممي الشهيد المهدي بنبركة عندما كشف عن الطابع الاستعماري للكيان الصهيوني وأعتبر أنه يشكل خطرا ليس فقط على الشعب الفلسطيني ولكن على كل الشعوب العربية.. وكذلك عندما وصف نضال الشعب الفلسطيني بالثورة العربية ضد كل المخططات الاستعمارية بدون أي تعصب ديني أو عرقي.
اليوم المثال المغربي يؤكد أن التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني يشكل ليس فقط تهديدا للثورة الفلسطينية وللمصالح الاستراتيجية للأمة العربية والإسلامية كلها ولكن أيضا تهديدا للأمن القومي للمغرب ولوحدته الترابية.
الهوامش
1. Gabriel Gorodetsky, « les dessous du pacte germano-sovietique », le monde diplomatique, juillet 1997
2-3-4-5-6. Olivier Pirouet, « Israel source de déstabilisation régionale »,Manière de voir fevrier-mars 2022