سيدة البلطيق
محمد حمدان
لم يسعفني الحظ لأرى أفق البلطيق كما أريد. كأي بحر ممتد لا تحده سوى السماء ومدى النظر. فقد وجدت الضباب ينتظرني بحدة جعلت الأفق صغيرا واللون الرمادي مهيمنا على البحر والسماء.
لكني هنا، أستنشق هواء البلطيق وأسمع حركة موجه. فللبحر هواء خاص يميزه ولغة، هي الموج، تكلم العابرين والتائهين مثلي، الجالسين القرفصاء، محاولين مشاركة شرودهم مع الموج، عسى أن يجدوا لأسئلتهم إلهاما يأتي للبال مع صوت وصول الموج، أو في حركته البعيدة في مدى النظر.
في المدى القريب موج قادم بهدوء، يرسم تلالا متحركة، تأتي وتتموج كما ثوب حرير رفيع بلون أحادي على جسد امرأة. يتغير اللون بتغير مكان النظر على الجسد، ليزداد حدة في كل حركة وكل خطوة وكل شهيق، ولو كان خفيفا. وكأن الثوب يشارك الناظر في الإعجاب وينتشي بقربه اللصيق للجسد. لكنه يترك مكانه في لحظة حب عابرة مع الناظر المعجب، فيسقط بمهل، ليعيد رسم أمواجه بشدة أكبر. كعاصفة شهوة تهب على بحر الجمال، تسير كالموج نحو بر الحب، لتعلن الوصول بقبلة وتمضي إلى مطلق العمق والمدى.
على يميني سيدة تختزل في جلستها وشرودها تاريخا طويلا. بين الممالك الاسكندنافية ومقاومة البروس الكاثوليك، ثم السقوط الحر في تدينهم لمقاومة جديدة للروس الأرثدوكس. التاريخ كما البحر، بين ظاهره وعمقه.
وجدتها جالسة حين أتيت، فلم تتحرك ولم تحرك ساكنا. لم تغير زاوية نظرها، فتحس وأنت تراها بزفير خفيف يكلم البحر والضباب. شعرها الأبيض وملامحها توحي بكبر سنها، لكن هيئتها لا توحي بشيخوخة كبيرة.
معطفها الطويل، ثوب ثقيل على رقبتها، حذائها الشتوي، كلها تفاصيل تذكر البال بشخصيات دستويفسكي الكبيرة في السن. كتلك السيدة العجوز التي قتلها راسكولنيكوف في الجريمة والعقاب، حين زارها أول مرة ووجدها شاردة الذهن أمام نافذتها.
لشرود هذه السيدة طبع خاص، فقد كانت شبه مبتسمة طول الوقت وكأنها وجدت في البحر غايتها، أو أنها تكلمه ويجيبها. أو لأنها فقط، كما أنا، سعيدة وهي ترى البحر أمامها.
سرت بالشرود أمام البحر، أحسست باقتراب لحظة الغروب وحلول الليل. لسوء حظي أني لن أرى الغروب من على البلطيق. استدرت يمينا، لأرى مكان السيدة خالٍ، والشاطئ شبه فارغ، فقد غبت في الشرود طويلا ولم أحس بمرور الوقت.
وقفت، وسرت بأول خطوة للذهاب مع آخر زفير طويل، وكلمت البحر في داخلي: “عمت مساءا، وإلى لقاء آخر، من مكان آخر!”