محمد الشركَي: شمعة في عمق المجرى [رسالة إلى إدمون عمران المليح]
محمد الشركَي
أيها العزيز المبارك،
يمكنني، وأنا أسامرك في هذه الليلة، أن أتوجه إليك بضمير المخاطب الماثل أمامي، شأن كل المتسامرين في السقيفة المعترشة لمقهى ازريرق بأصيلة أو بأي مقهى طقوسي آخر بمدينة الصويرة، فكلتاهما، أصيلة والصويرة، ساهرتان الساعة عليك أنت الساهر ما وراء ليل المحكي، في الأراضي الرمزية الأخرى حيث تقيم الآن باستمرار، بعدما عبرت كل المجاري الثابتة والمتحولة لتاريخنا المحتدم والعصيب. ويمكن للكلمات التي أوقدتها كشموع الأولياء وعبرت بها، في هزيع العمر، مفاوز الأنساق المغلقة إلى رحابة الذاكرات الخصبة المتعالقة بالاحتمالات الآتية، أن تهرع في هدأة الليل إلى ذلك المشترك الأرضي والرمزي الذي ظل موثوق الصلة بيننا رغم تباعد اللقاءات. فبعض المواثيق الرمزية تبقى في حرز حريز من متاهات المكان لأنها تُوكَل منذ البدء ونهائيا إلى كنف الزمان. وهذا شأن الميثاق الذي انعقد بيننا بتدبير خفي من الوشائج الرمزية التي هي أساس كل العلائق العميقة في هذا العالم.
أذكر الآن، كما لو كان البارحة فقط، أن أصيلة تحديدا، التي كانت هي المدخل الافتتاحي ل «المجرى الثابت» من خلال فضاء مقبرتها الساحلية كجغرافيا حدودية تتلامس فيها الحياة والموت، كانت هي أيضا العتبة الاستهلالية التي التمعت فيها فكرة ترجمة ‹المجرى» إلى العربية. ففي خريف 1983، فيما أذكر، شاركت في ندوة «الرواية والسيرة الذاتية» التي نظمتها جمعية قدماء ثانوية الإمام الأصيلي، وهي الندوة التي ساهمت فيها أنت أيضا، غيابيا، بنص مرهف عن علاقة الكتابة بالسيرة الذاتية، تولى الصديق الأستاذ محمد برادة ترجمته الفورية ضمن أشغال الندوة. وفي هذا النص العميق والفاخر، شأن كل نصوصك، شدني تأكيدك الحاسم على أنه إذا كان يمكن القول تجاوزا بأنك من مواليد 1917، فإن ميلادك الحقيقي، والميلاد الفعلي لكل كاتب، إنما تم ويتم في ليل المحكي. كان ذلك، بالنسبة إلي، أنا اليافع في أرض الكتابة، بمثابة إضاءة مصباح هادٍ في سرداب الزمن. ليلتئذٍ تأكد لدي أن الميلاد العضوي، إذا لم يتم إسناده وتعميقه بميلاد رمزي حاسم، سيظل مجرد حادث بيولوجي مرقم في سجلات الحالة المدنية، وأن على كل من يرغب في العثور على مكانه في هذا العالم أن يسارع دون إبطاء إلى إبرام علاقة زفافية مع الكلمات باعتبارها، كالحب والذاكرة والموسيقى والتشكيل والفعل السياسي العميق، آخر الجسور المعلقة فوق الهاوية التي يتعين علينا عبورها في كل لحظة نحو ما نستطيعه لبعضنا وما يستطيعه لنا العالم.
هذه هي الرسالة الذهبية التي استلمتها منك في تلك الليلة الخريفية وظللت أحتفظ بها لاحقا وأعمل بمقتضاها. كنت حاضرا رغم غيابك.
وبعدما تعشينا في ذلك المطعم الإسباني المساحل للبحر المعتم، خرجنا نتمشى قليلا أنا والعزيز محمد برادة على طول الإفريز المترع برائحة الأوقيانوس الشهوانية. كانت النوارس الملتاعة قد آوت إلى أعشاشها الليلة، وسيلينا العظيمة، الطالعة من رحم زمن بعيد، تلوح وتختفي بين السحب المتراكضة في الأعالي، وأنا أتطلع إليها كلما أطلت وكأنها تهمس لي ما وراء التواريخ والميثولوجيات: «سأكون القلب»، وصخب الأمواج يعمق رجع الحديث المتعالق بالوضع الثقافي المغربي، ورهانات الكتابة، وعسر الظرفية التاريخية. وبعودتنا إلى نص مداخلتك وترابطها برؤيتك الإبداعية المتأصلة في أرض الذاكرة الخصبة، اقترح علي برادة أن أفكر في ترجمة المجرى الثابت إلى العربية. أذكر أنه قال لي بالحرف، ونحن نقترب من الفندق: «ليتك تخصص بعضا من وقتك لترجمة هذا الكتاب الأساسي..»
تلك كانت الالتماعة الأولى، الآتية من صديق عزيز علينا معا، باتجاه نقل «مجراك» إلى اللغة التي أعرف كم أحببتها. لم أكن قرأت الكتاب بعد، لأنني بحثت عنه قبلئذٍ مرارا بمكتبات فاس ولم أجده، بيد أنني كنت قد قرأت بعض الإشارات المركزة التي نشرتها الصحافة المغربية عنه، واستشعرتُ عياره المتميز ضمن ذخيرة الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. لذلك، عند عودتي إلى فاس في ذلك الخريف البعيد، كانت فكرة ترجمة «المجرى» بدأت تتبلور في ذهني معززة بذلك التواطؤ السري الذي أحسست به قائما بين رؤيتي الشخصية للكتابة ومقاربتك المنجزة لها. ولكي أصارحك القول في هذه الليلة الممدودة كالجسر بين ساحل هذا الزمن ومرتفعات الزمن الآخر حيث تقيم، أردت ترجمة المجرى الثابت لنفسي أولا، كنوع من الهبة الذاتية والتلقين الإعدادي لإضاءة مساري الخاص. أردت أن أعاين مباشرة، من خلال استعادة كلماتك إلى ذاكرتها وأرضها المرجعيتين، كيف تدبرت أمرك مع اللغة تحديدا، أي مع مختلف الحراسات المتحالفة والمتربصة بدلالات الكلمات ومستويات المعنى وعتبات الاستعارات. هكذا بحثت مجددا عن «المجرى» بعدد من المكتبات، ولما لم أجده تفضل الصديق الأستاذ رشيد بنحدو بإعارتي نسخته الشخصية التي بدأت قراءتها فورا بفاس ثم أعدت قراءتها عند رجوعي إلى تازة حيث كنت أقضي فترة الخدمة المدنية. كانت بغيتي من تلك القراءة المزدوجة إبرام علاقة استبطانية بالكتاب والعثور على الممر الأسلوبي الأمثل والمسلك البلاغي الأرهف لنقل شحنته كاملة إلى العربية. فلطالما سنقول لبعضنا لاحقا أن الترجمة التزام عميق بقوانين الضيافة العليا، وأنه لا بد من الإدراك الحاسم لكل المخاطر والرهانات التي يحركها نقل النص – كل نص – من لغته الأصلية وموتاها الساهرين عليها إلى عهدة العربية المحروسة هي الأخرى بعناية الأسلاف الألوفيين الهاجعين في أرحامها.
مضاء بهذا الهاجس الكبير، شرعت في ترجمة «المجرى» في شتاء 1984. أذكر أن ذلك الشتاء كان قاسيا، صقيعيا، وكانت الثلوج المتساقطة على المنحدرات الطباشيرية لجبال الريف والتضاريس الغرانيتية لجبال الأطلس المتوسط تلفح ببردها القطبي أوصال المدينة الواقعة بين المضائق. فكنت عند مبارحتي للجلسات الطقوسية المسائية مع الأعزاء عزوز بوسعيدي والعربي لخصاصي وبوجمعة العوفي آوي إلى غرفتي بشقة ذراع اللوز بعد العشاء مباشرة، وأندس تحت الأغطية الصوفية وأشتغل على ترجمة كتابك حتى ساعة متأخرة من الليل. وكلما أنهيت فصلا أو فصلين، كان يغمرني ذلك الفرح السري الذي ينتاب المبحر الموعود برؤية السواحل عما قريب. ولما حل صيف تلك السنة، وكنت قطعت شوطا هاما في تعريب «المجرى»، اتصلت بي هاتفيا من مدينة الصويرة ودعوتني إلى قضاء بضعة أيام معك خلال إجازتي الصيفية لنتبادل كل الإضاءات والتدقيقات التي يمكن أن تبدو لكلينا بخصوص الترجمة.
وكذلك كان، حيث عدت من تازة إلى فاس، ومنها ركبت ذات فجر إلى مدينة الرياح لتي وصلت إليها مفعما بالنداء العالي لجبال الأطلس الأمومية وبرائحة الغابات والأحراش الساحلية. وقبل موافاتك إلى المقهى الذي اتفقنا على اللقاء فيه، سرت بمحاذاة الشاطئ متطلعا إلى الجزيرة الصغيرة التي يحفها سور عتيق يحرس قلعة قديمة، فأدركت سر اختيارها من طرف أورسون ويلز في خمسينيات القرن الماضي كفضاء لتصوير فيلمه الشكسبيري عطيل. وعند دنوي من المقهى خرج النادل يحييني ويسألني إن كنت الضيف الذي ترتقبه، لأنك مررت عليه في الصباح وأوصيته باستقبالي. ولما لحقت بي شربنا شايا منعنعا ثم توجهنا إلى رياض الفنان التشكيلي حسين الميلودي (بزنقة لخضر غيلان) الذي استضافنا طيلة إقامتنا. أذكر أن أول ما لفت انتباهي فور دخولنا الرياض جرة طينية هائلة الحجم تشبه خابية الأموات التي كان كهنة الفراعنة يستعملونها لتحنيط أحشاء ملوكهم. وقد أخبرني الميلودي لاحقا بأنك وماري سيسيل، رفيقتك التي لحقت بها الآن، اشتريتماها من خميس الزمامرة وتدبرتما أمر نقلها إلى الصويرة لكي توضع خصيصا في قلب الحديقة. اقتربت من الخابية الجاثمة بفخامتها الزمنية فأبرقت في خيالي صورة الفوهة المظلمة التي كانت الكاهنة الإغريقية، وسيطة الوحي، تختبئ فيها لتنبئ زوار معبد «دلف» بمصائرهم الآتية. وقد أخبرت ماري سيسيل بخواطري عن الجرة فراقتها خصوصا صورة خابية الموتى الفرعونية. أتذكر الآن، كما لو تم البارحة فقط، مقامنا الرمزي المترف، وما تخلله من حوارات في ورشة الفنان الميلودي وسهرات تلقينية وجلسات عمل متواطئ. كنت كلما قرأت عليك فصلا أو فصلين تصيخ السمع بهدوء المتصوف، وتطرق قليلا ثم تقول لي: «هذا هو الإيقاع الذي كنت أرجوه. جعلتني أحس بأنني كتبت «المجرى» بالعربية. وأنا في غاية الفرح. تبارك الله عليك…» كم أسعدتني انطباعاتك العفوية تلك، وكم طوقت عنقي بمسؤولية الحفاظ على نفس الأداء الترجمي في ما تبقى من الكتاب. وحين كنا نخرج، أنت وماري سيسيل وأنا لنتمشى قليلا أو لكي نشرب قهوة بأحد مقاهي المدينة، كانت مقاربتنا للمكان، ولأهله الذين كان الكثير منهم ينادونك ب «السي عمران» امتدادا وتجذيرا لذاكرة الكتابة نفسها. ويا للمواقف الطريفة والمرحة التي اقتسمناها هناك! مثل ذلك الشاب الصويري الذي حاذانا ونحن نسير باتجاه فندق الجُزر حيث كانت ماري سيسيل تنتظرنا، والذي التبس عليه الأمر فظنني إيطاليا، ولما استوقفك أحد معارفك لمحادثتك قليلا، استمر الشاب في السير بجانبي وهو يحدثني بفرنسية متعثرة تتخللها بعض المفردات الإيطالية وأنا مطرق أصغي إليه بمكر وأغالب الضحك، إلى أن لحقت بنا وسألته لماذا يحادثني بتلك الطريقة فقال لك: «أحاول أن أعرف ضيفك الإيطالي على بعض معالم الصويرة..» فبادرته مقهقها وحاجباك الكثان يهتزان تحت نظارتك الطبية: «إيطالي؟! إنه مغربي أكثر منك!». أو تلك الفتاة التي وقفت ذات صباح تنظر إلينا بإمعان ونحن نسلك الزقاق التاريخي المفضي إلى أدراج سقالة، فتوقفت أنت أيضا وسألتها ممازحا: «واش شفتي شي عجب؟» فأجابتك فورا: «كتشبه لبابا!!»، ولما سألتها عن والدها قالت إنه يعمل بمراكش. كان معها حق. لكنك لم تكن تشبه أباها هي فقط، بل كنت وتبقى أبا رمزيا لكل الذين ارتبطت أسبابهم بأسبابك من كتاب وتشكيليين وفنانين وقراء من داخل المغرب وخارجه، وكنت وتظل أحد آبائي الرمزيين المباركين.
كنت قد نشرت وقتئذ، بالإضافة إلى «المجرى الثابت»، المتحول في العمق، روايتك الثانية «أيلان أو ليل المحكي (ترجمها لاحقا علي تيزلكاد وصدرت عن دار توبقال) واقترحت مخطوطة رواية ثالثة (ستكون هي ألف عام بيوم واحد) على عدد من الناشرين الفرنسيين دون جدوى. كانوا يؤاخذونك على تكثيفك الأسلوبي الذي يجنح بالكتابة إلى تخوم قصية لا قِبَل لجمهور القراء بها. بغتة، ونحن جالسان ذات ليلة صيفية رائقة في شرفة المقهى الساحلي نرتشف القهوة، سألتني عن رأيي في الأمر، فقلت لك إن الكتابة لا تأخذ أوراق اعتمادها من أية جهة خارجية، وأن لها أن تكون بالشكل الذي يرتضيه لها ليل عزلتها دون محاباة لقارئ أو ناشر أو سلطة ثقافية أو نظام سياسي. ومن باب التداعي التلقائي، تذكرنا وتحدثنا معا عن الروائي الكوبي خوسي ليثاما ليما، الذي لم يتهيب، وهو في قلب نظام اشتراكي في كامل عنفوانه، من أن يكتب وينشر روايته النهرية العميقة فردوس Paradiso، حيث يمضي باللغة وبالروافد الرمزية والأسطورية إلى مناطق لم يخبرها القراء من قبل. وشأني في كل مرة يتعالق فيها الحديث عن الإبداع ومرتكزاته الواقعية بإسناداتهما الأسطورية، جنح بي الخيال لحظتئذٍ بعيدا في الزمن، وألفيتني أرقب مرة أخرى «سيلينا» وهي تلوح بطلعتها البهية فوق أسوار القلعة وتغمر الجزيرة الشكسبيرية المقابلة بنورها الألوفي قبل استكمال رحلتها إلى مغارة «لاتموس» حيث كان أنديميون ينتظرها ويناديها من أعماق العالم.
قضينا أسبوعا كاملا بذلك الرياض المترف بأزمنة المكان والكتابة والتشكيل. كان جواراً فخما للكلمات والألوان والأشكال التي كان الفنان الميلودي ينفذها برهافة وصرامة وسط أحاديثنا اللانهائية. وهنا أيضا، بدت رهافة مقاربتك للفن التشكيلي عموما ودربة نظرتك المتعددة الأبعاد لتدرجات اللون والمادة والظل داخل كل لوحة، ولتوتراتها الخفية المنبئة بعمل الروح وسهرتها خلف الخطوط والمنحنيات والفجوات الصباغية. تلك رهافة وضعتك في قلب المشهد التشكيلي المغربي وأثمرت لاحقا قراءات باذخة لأعمال فنانين تشكيليين متميزين من عيار أحمد الشرقاوي وخليل غريب. مثلما وضعتك رهافة حاسة الذوق لديك في صميم الذواقة الخبيرة بطعوم الأغذية والأشربة، أي بمباهج القوت الأرضي. لذلك لم يفاجئني أن أجدك ذات مساء، بعد عودتنا أنا وماري سيسيل من المقهى، مرتديا مريلة الطهاة ومنهمكا في إعداد «البايلا» بحرفية فائقة أثنى عليها كل من تعشى معنا تلك الليلة.
تلك، إجمالا، لمحات مبرقة لبعض مجاريك الثرية، الصاخبة بهدوء، والمتحولة بعمق، التي أغدقها عليك تخطيك الجريء للقوس التاريخي المغلق الذي تكفل «المجرى الثابت» بتشخيص عوائقه وتشريح نهاياته المفتوحة على ما حدث لاحقا وما يحدث الآن.
أيها العزيز المبارك،
لنا أن نشكر معا في هذه الليلة صديقينا محمد برادة ومحمد الأشعري لوقوفهما، كلّ من موقعه وضمن سياقه الخاص، وراء ترجمة ونشر المجرى الثابت، ولإيمانهما العميق بالقيمة المضافة لصدوره بالعربية.
ولنا أن نشكر أيضا منشورات الفنك في شخص مديرتها النبيهة ليلى الشاوني التي رحبت بمخطوطة الترجمة بعد استعادتها إلى المغرب في أعقاب سنوات طويلة قضتها منتظرة بلبنان، حيث حالت الحرب الأهلية التي لم تكن قد وضعت أوزارها بعد، وما رافقها من حصار لميناء بيروت وندرة للورق وتقليص للموارد، دون صدورها هناك ضمن سلسلة «ذاكرة الشعوب» التي كان يشرف عليها الروائي اللبناني إلياس خوري.
أبلغ سلامي إلى رفيقتك الشفافة ماري سيسيل، واهنآ معا حيث تقيمان الآن.
تمارة، دجنبر 2010