محمد شكري المبدع الذي عاش في الهامش وكتب في الواجهة

 محمد الموساوي

لم‭ ‬يتردد‭ ‬صديقنا‭ ‬الكاتب‭ ‬والإعلامي‭ ‬محمد‭ ‬الموساوي،‭ ‬في‭ ‬إعطاء‭ ‬مجلة‭ ‬الطريق‭ ‬حقوق‭ ‬نشر‭ ‬البورتريه‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬بمنصة‭ “‬هوامش‭”‬،‭ ‬تخليدا‭ ‬لذكرى‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭.‬

نشكر‭ ‬تعاونه‭.‬

قال الشاعر والكاتب والمُترجم العراقي سعدي يوسف “عش في الهامش واكتب في الواجهة”، وهو ما حدث تماما مع الكاتب الكبير محمد شكري، الذي ترعرع وعاش وكتب عن الهامش، ونجح بعصاميته وعناده أن يتسيد الواجهة، اقتحم الأسوار المنيعة لدار “غاليمار” الفرنسية للنشر، الدار التي لا تنشر إلا للكتاب العالميين الكبار، تُرجم إلى عدة لغات، كما فرض اسمه على الإبداع المغربي والعالمي، توفي في 15 نونبر 2003 تاركا لنا نموذجا ساطعا لمعادلة “الإبداع ابن المعاناة”.

شكري‭.. ‬هروب‭ ‬من‭ ‬المجاعة

في صورة مأخوذة من أحد أشهر مطاعم مدينة طنجة، يظهر شخص يقف وسط المطعم، وعلى كتفيه يقف شخص آخر، رجل خمسيني يميل الى النحافة، بشارب كث قصير، لابسا كنزة صوفية بيضاء.

لا تتعلق الصورة بمشهد من السيرك فصاحب الكنزة البيضاء ليس سوى الكاتب المغربي العالمي محمد شكري، بملامحه الفتيّة الميّالة الى المرح والمغامرة.

وُلد محمد التمسماني (الاسم الأصلي لمحمد شكري) سنة 1935 بقبيلة بني شيكر بالناظور. في سن السابعة ستهاجر أسرته إلى طنجة هروبا من المجاعة التي جثمت على منطقة الريف في سنوات الأربعينات من القرن الماضي، والتي اضطرت الناس إلى أكل جذور بعض النباتات. على غرار آلاف الأسر الريفية التي اضطرت إلى النزوح نحو مناطق طنجة تطوان العرائش بحثا عن كسرة خبز تضمن لهم الاستمرار في الحياة، عاشت أسرة شكري  نفس المحنة.

استقرت أسرة شكري بطنجة في البداية، حيث سيكتشف فيها شكري الطفل عوالم المدينة التي كانت تعيش ترفها الأقصى في ظل صفتها “الدولية” حينئذ، كان يتدفق عليها رجال الأعمال وكبار الفنانين والمسؤولين السياسيين والسماسرة والجواسيس و”القوّادين” و”ممتهنات الجنس” من شتى أنحاء المعمور، حينها كانت طنجة بوتَقة تنصهر فيها تجارب الذين مرّوا منها من أقاصي الأرض إلى أدناها.

عوالم‭ ‬طنجة‭ ‬السفلى

سريعا ما انغمس شكري في عوالم طنجة الساحرة، رغم الحاجز اللغوي الذي كان أول عقبة كان عليه أن يتخطاها سريعا. وصل الطفل الى طنجة وهو بالكاد ابن السبع سنين، لا يتحدث إلا الريفية، فتلقى أول صدمة حين كان أطفال الحي يستفزونه بكونه لا يتحدث الدّارجة. ورغم ذلك صمد شكري، وسرعان ما تغلب على الأمر بتمكنه التحدث بالدارجة، فراح شكري ينغمس في طمي حياة طنجة، حتى أن أسرته لم تلبث طويلا في المدينة. سنوات قليلة بعد وصولهم انتقلوا للعيش في مدينة تطوان. لكن شكري لم يستطع أن يصمد كثيرا رفقة أسرته في تطوان، فعاد إلى طنجة ليواصل مغامرته في الحياة بجسارة وطيش. اشتغل حمّالا وماسحا للأحذية ومهربا للسلع وغيرها من المهن المرتبطة بقاع المجتمع. خبر شكري العالم السفلي لطنجة جيدا، فعايش اللصوص والنشالين وممتهنات الجنس والمهربين. كما عايش العابرين الذين جذبهم سحر طنجة فصاروا مقيمين متيّمين بحواري وليالي وحكايات طنجة، منهم كتّاب وفنانون عالميون من أمثال بول بولز، تينسي وليامز، جان جونيه، وغيرهم كثير.

لقاء‭ ‬بولز،‭ ‬هالة‭ ‬الصباغ‭ ‬وأشياء‭ ‬أخرى

من بوّابة هؤلاء تسلل شكري ليطلّ على العالم بروايته “الخبز الحافي” التي حملته ليرفرف على العالم، ينثر تجربته الحياتية بـ 39 لسانا، يشكلون عدد اللغات التي تّرجمت إليها “الخبز الحافي”.

قبل أن يلتقي شكري ببول بولز وآخرين، كان مفتونا بالكتابة، فقرر بعد تأخر كبير أن يدخل المدرسة وهو ابن العشرين، لكنه سريعا ما تقدم في دراسته، إلى أن تمكن من التخرج معلما ليشتغل في التدريس لسنوات قبل أن يتقدم للتقاعد النسبي ويتفرغ للكتابة، يخبر صديقه محمد برادة حول الموضوع في رسالة له : “العزيز محمد، أكتب إليك بمناسبة تقاعدي النسبي الذي يبدأ فاتح يناير من هذه السنة. إنني الآن “ذمازيغ”. لقد تخلصت من لعنة العمل الذي كان يفجعني في الصباح ويقلقني في المساء”.

بالإضافة إلى رغبته في التعلم، يتحدث شكري عن افتتانه بالهالة التي كان يحظى بها الشاعر المغربي محمد الصباغ، حيث كان وهو مازال طفلا، في فترة انتقال أسرته للعيش في تطوان، يتردد على مقهى بتطوان يجلس فيه الأديب محمد الصباغ، وحكى شكري كيف كان رواد المقهى يقدرون ويحترمون الصباغ، متسائلا “من يكون هذا الرجل”؟ فأبلغه أحد رواد المقهى أنه الكاتب المغربي محمد الصباغ. افتتن شكري بصورة الكاتب وبالهالة التي يحظى بها.

قبل “الخبز الحافي”، كانت لشكري محاولات في الكتابة القصصية، وقد نشرت له مجلة الآداب البيروتية سنة 1966 قصة بعنوان “عنف على الشاطئ”. لكن شكلت لحظة نشر بول بولز لرواية شكري بالإنجليزية نقطة انطلاق شهرته. بعدها جاءت الترجمة الفرنسية للطاهر بنجلون ونشر النسخة العربية التي سرعان ما تعرضت للمنع والحظر في المغرب وفي بعض البلدان العربية.

إلى هنا كان شكري قد استوى على عرش الرواية المغربية يناطح العالمية، وكانت “الخبز الحافي” تجثم بثقلها على جسده النحيل. اعترف شكري بعدها أن رواية “الخبز الحافي” قد سحقته، لكنه لم يستسلم لغواية سطوة “الخبز الحافي”، إذ سرعان ما لملم نفسه ونهض من “سكرة” شهرة الرواية، وعاد ليواصل القراءة والكتابة بشغف، وقدّم برنامجه الإذاعي “شكري يتحدث” لسنوات على أمواج إذاعة البحر الأبيض المتوسط ثم بعد ذلك على أمواج إذاعة طنجة.

انطبعت شخصية محمد شكري بالعناد والتحدي، منذ كان طفلا نشأ في وضع اجتماعي مزري، يرزح تحت نير المجاعة والفقر والقمع وتسلط الأب، ثم شابا ينتشل نفسه من عوالم طنجة السفلى ليلتحق بالمدرسة، ليعود إليها بعد ذلك ليعايش هذه العوالم ليس بوصفه ضحية لها، بل بوصفه الناطق الرسمي باسمها، ينقل تفاصيلها إلى عالم الإبداع.

لا‭ ‬أجري‭ ‬حوارات‭ ‬مجاناً،‭ ‬أنا‭ ‬كاتب‭ ‬تعبت‭ ‬من‭ ‬الشهرة

سنة 1980 استضافته برنار بيفو في البرنامج الشهير Apostrophes على التلفزيون الفرنسي، تحدث شكري خلال البرنامج بلغة فرنسية بسيطة وسلسة وهو الذي لم يدرسها قط في حياته، واجه محاوريه في البرنامج بثقة كبيرة في النفس، عندما سألوه عن كرهه الشديد لوالده، أجابهم قائلا: “ما كتبته في “الخبز الحافي” عن والدي هو حديث عن مشاعري في تلك الفترة وليس ما أقوله الآن، أنا الآن أعرف وأفهم أن والدي نفسه كان ضحية للبؤس والفقر الذي تسبب فيه الاستعمار الاسباني والفرنسي لبلدي…”.

في بداية الألفية، على هامش مهرجان أصيلا، استوقفته إحدى الصحافيات العاملات لحساب قناة الجزيرة، طلبت منه حوارا، سألها عن هوية القناة التي تعمل لحسابها، أخبرته أنها قناة “الجزيرة”، سألها: هل تدفعون مقابلا؟ أجابته  ب “لا” ، فقال لها “لا أجري حوارات مجاناً، أنا كاتب تعبت من الشهرة”. كان شكري لا يحبذ الحوارات الصحافية والظهور الإعلامي، حتى الملتقيات الأدبية لا يحظر إلا القليل منها، كان يرفض أغلب الدعوات التي تأتيه منها، يمنح الحوارات الصحافية لبعض الصحافيين الذين يروق له مجالستهم، وكان كل صحافي يحلم بالظفر بحوار مع شكري عليه أن يكسب ودّه أولا.

ريفي‭ ‬وجدّي‭ ‬عبد‭ ‬الكريم

أوقف التعامل مع إذاعة البحر الأبيض المتوسط (ميدي1) رغم التعويض المادي الجيد الذي كانت تقدمه له. بالنسبة إليه كرامته وعزة النفس أكبر من أي شيء. يكتب في رسالة لمحمد برادة “منذ يومين أرسل لي مدير إذاعة البحر الأبيض المتوسط شخصا يعمل هناك عارضا عليّ إعداد حلقات رمضان التي أعدها كل سنة بمبلغ يتراوح بين 15 و20 ألف درهم بما في ذلك تعويض الشرف لأنهم استغنوا عنّي بتعسف إلى أجل غير مسمى، لا أريد أن أخون عزّي. إذا كان هذا المدير كورسيكي فأنا ريفي. إذا كان جده نابليون فأنا جدّي عبد الكريم الخطابي. هذا ما قلته للشخص الوسيط”.

عندما ذاعت شهرة شكري، كان الإبداع حينها يخضع في أغلبه لمبضع الإيديولوجية، كان الإبداع تابعا للتيارات الإيديولوجية التي صارت تجثم بثقلها على حقل الثقافة والإبداع، لكن شكري ظل خارج هذا الاصطفاف، وكان يلعن الكلّ، ويعود ليلوذ بمدينته طنجة.

السياسية‭ ‬وأحمد‭ ‬بنجلون‭ ‬وشكري

لم يخضع شكري لابتزاز الايدولوجيا قط، لكنه كان متابعا للشأن السياسي في وطنه. لم يكن إيديولوجيا، لكنه أيضا لم يكن في نقطة الصفر من الحياد، يميل إلى البساطة والعفوية، يحب التواصل مع محيطه باللغة التي يفهمها. ذات انتخابات تشريعية، كان نشطاء حزب الطليعة ينظمون حملة لمقاطعة الانتخابات بطنجة، يوزعون المنشورات التي تدعو المواطنين للمقاطعة، وصادف أن التقوا بمحمد شكري ومنحوا له منشور المقاطعة، قرأه شكري بإمعان، فقال لهم ما معنى “الأوليغارشية” التي وردت في المنشور؟ تحرّج الرفاق أمام هيبة محمد شكري ولم يبادلوه الجدال حول الكلمة ودلالاتها، بعد أيام من ذلك سيحل الكاتب الوطني للحزب آنذاك المرحوم أحمد بنجلون بطنجة، واستدعوا المبدع محمد شكري ليحضر اللقاء، على جانب اللقاء التقى أحمد بنجلون بشكري وتجاذب معه أطراف الحديث حول “الأوليغارشية”، فقال له شكري، أنا أيضا لهذه الأسباب وأخرى أقاطع الانتخابات، لكن علاش “الأوليغارشية”؟؟

لم تقتلع شهرة “الخبز الحافي” محمد شكري من عوالم طنجة السفلى، بل ظلّ وفيّا لها، ظل يؤمها ليل نهار، لا يطيق مغادرتها، يعود إليها سريعا مشتاقا متلهفا كلما غادرها لبضعة أيام للضرورة القصوى، وظل يغرف من يومياتها شخوص كتاباته الروائية والقصصية والمسرحية، صارت طنجة هي الفاتنة التي تزوجها شكري، وظل متيما بها، لا يطيق مبارحتها. سئل يوما عن الزواج، فقال “عندما كنت مريضا كنت أريد أن أتزوج ممرضة، وعندما كنت معلما كنت أريد أن أتزوج معلمة، فعدلت عن الموضوع، ويبدو أنني تزوجت طنجة”.

وفي يوم 15 نونبر 2003 توفي محمد شكري بعد صراع مع المرض، “غادرنا أمير الصعاليك بهيبة الملوك” كما كتب عبد الرحمان منيف في رثائه، “غادر هذه الدنيا بعد أن شبع منها وملّها، غادر غير آسف على شيء لم يذقه، وعلى مكان لم يره، فقد احتشدت ذاكرته بكم هائل من الوجوه والأصوات، وأصبحت رؤية وجوه أكثر، أو سماع أصوات أكثر، لا تطاق، ولذلك قرر أن يغادر دون أن يلتفت الى الخلف”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى