في ذكرى الرحيل لابد أن نتذكره.. شكري.. “من أجل الخبز وحده”

 محمد أحداد

نشكر‭ ‬صديقنا‭ ‬العزيز‭ ‬محمد‭ ‬أحداد‭ ‬على‭ ‬مقاله‭ ‬الممتع‭ ‬حول‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬شكري،‭ ‬وتفاعله‭ ‬الإيجابي‭ ‬بنشر‭ ‬مادته‭ ‬الراقية‭ ‬هاته‭ ‬بمجلة‭ ‬الطريق،‭ ‬بالموازاة‭ ‬مع‭ ‬نشرها‭ ‬بجريدة‭ ‬المساء‭.‬

مرت‭ ‬ذكرى‭ ‬رحيل‭ ‬محمد‭ ‬شكري‭ ‬باردة‭ ‬كما‭ ‬تمر‭ ‬عشرات‭ ‬الذكريات‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتذكره‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬استثمروا‭ ‬اسمه‭ ‬لسنوات‭. ‬تذكره‭ ‬بعض‭ ‬أصدقائه‭ ‬وبعض‭ ‬ممن‭ ‬مازالوا‭ ‬يعشقون‭ ‬تجربة‭ ‬ابن‭ ‬بني‭ ‬شيكر‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬والحياة‭..‬

الاعتراف‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬يحدث‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭: ‬عند‭ ‬الموت،‭ ‬حيث‭ ‬يتحلق‭ ‬رهط‭ ‬من‭ ‬المدعين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات‭ ‬يعدون‭ ‬المناقب‭ ‬ويتحدثون‭ ‬عن‭ ‬التجارب‭ ‬دون‭ ‬حشمة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭.‬

شكري‭.. ‬جاء‭ ‬من‭ ‬الهامش‭ ‬وعاش‭ ‬في‭ ‬الهامش‭ ‬وأسس‭ ‬مدرسة‭ ‬أدبية‭ ‬تنتصر‭ ‬للهوامش،‭ ‬ورفض‭ ‬طيلة‭ ‬حياته،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تحت‭ ‬الأضواء‭.. ‬دافع‭ ‬عن‭ ‬التمرد‭ ‬كحق‭ ‬أصيل‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬عركته‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬شيكر،‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الزاوية‭ ‬القصية‭ ‬من‭ ‬الريف‭. ‬هاجر‭ ‬مترجلا‭ ‬مع‭ ‬أمه‭ ‬وإخوته‭ ‬إلى‭ ‬طنجة‭ ‬الضاجة‭ ‬بالتناقضات‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭.. ‬الغنى‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الصقع‭ ‬الدولي‭ ‬كان‭ ‬عابرا‭ ‬للقارات،‭ ‬أما‭ ‬الفقر‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬عابرا‭ ‬للأجساد‭ ‬المنهكة‭.. ‬في‭ ‬حاويات‭ ‬الأزبال‭ ‬وفي‭ ‬الحواري‭ ‬الفقيرة‭ ‬وفي‭ ‬الأزقة‭ ‬التي‭ ‬فرمها‭ ‬الجوع‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬احتمال‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬الحياة‭..‬

تجرع‭ ‬مرارة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مغربيا‭ ‬تتحدث‭ ‬لغة‭ ‬أخرى‭ ‬غريبة،‭ ‬وكم‭ ‬مرة‭ ‬تعرض‭ ‬للتنمر‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬أقرانه،‭ ‬فقط‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يرطن‭ ‬بعض‭ ‬الجمل‭ ‬بالدارجة‭ ‬بطريقة‭ ‬مضحكة‭.. ‬فهِم‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬منبوذا‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬الركن‭ ‬القصي‭ ‬للنسيان،‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ “‬الخبز‭ ‬الحافي‭”.. ‬هكذا‭ ‬كان‭ ‬حلمه‭ ‬الأول‭ ‬في‭ ‬البدايات‭ ‬على‭ ‬الأقل‭.. ‬جرب‭ ‬الحقد‭ ‬والحسد‭ ‬والفقر‭ ‬والحرمان‭ ‬والبؤس‭ ‬في‭ ‬أبشع‭ ‬تجلياته‭.. ‬

بجسده‭ ‬النحيل‭ ‬ونظراته‭ ‬الحادة،‭ ‬واجه‭ ‬الشحرور‭ ‬الأبيض‭ ‬مرارة‭ ‬الحياة،‭ ‬ثم‭ ‬صار‭ ‬كاتبا‭.. ‬صار‭ ‬كاتبا‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬واحد،‭ ‬صعد‭ ‬درج‭ ‬المقهى،‭ ‬وكتب‭ “‬من‭ ‬أجل‭ ‬الخبز‭ ‬وحده‭” ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يغير‭ ‬الطاهر‭ ‬بنجلون‭ ‬عنوانها‭ ‬وقبل‭ ‬أيضا،‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬القطيعة‭ ‬الكبرى‭ ‬بينهما‭.. ‬

تحولت‭ ‬روايته‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬وثيقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬تعري‭ ‬فداحة‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬فاسدة‭ ‬يتواطأ‭ ‬فيها‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يقذف‭ ‬بالفقير‭ ‬إلى‭ ‬القعر‭ ‬السحيق‭ ‬من‭ ‬السلم‭ ‬الاجتماعي‭ ‬المكسور‭. ‬

قبل‭ ‬ستة‭ ‬عشر‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬اليوم،‭ ‬رحل‭ ‬الكاتب‭ ‬المغربي‭ ‬الكبير‭ ‬محمد‭ ‬شكري،‭ ‬لكنه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرحل‭ ‬شرَّح‭ ‬بمشرط‭ ‬حاد‭ ‬واقع‭ ‬الطبقات‭ ‬المسحوقة‭ ‬بلغة‭ ‬كاتب‭ ‬أدبي‭ ‬عصامي،‭ ‬تعلم‭ ‬الكتابة‭ ‬والقراءة‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر،‭ ‬لكنه‭ ‬تعلم‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬كيف‭ ‬يواجه‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬شهير‭: “‬تعلمت‭ ‬أن‭ ‬أقف‭ ‬أمام‭ ‬غول‭ ‬الحياة،‭ ‬وأقول‭ ‬له‭ ‬ها‭ ‬أنذا،‭ ‬هل‭ ‬تصدق‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجسد‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجابه‭ ‬الغول،‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أمزح‭”. ‬

وحتى‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬روايته‭ ‬الأولى‭ ‬لا‭ ‬تتوفر‭ ‬على‭ ‬الصنعة‭ ‬الفنية‭ ‬والأدبية‭ ‬كما‭ ‬في‭ “‬وجوه‭” ‬و‭”‬السوق‭ ‬الداخلي‭”‬،‭ ‬فإنها‭ ‬أدخلته‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الشهرة‭ ‬كاسرة‭ ‬طابوهات‭ ‬كانت‭ ‬تنتسب‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬الخطوط‭ ‬الحمراء،‭ ‬أصبحت‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬وجيز‭ ‬تباع‭ ‬كما‭ “‬يباع‭ ‬الخبز‭” ‬كما‭ ‬اعترف‭ ‬بذلك‭ ‬اللاذقاني‭ ‬الذي‭ ‬صدر‭ ‬كتابه‭ ‬النقدي‭ “‬غواية‭ ‬الشحرور‭ ‬الأبيض‭”.. ‬

ربما‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬هاته‭ ‬السنوات،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقر‭ ‬بأن‭ ‬شكري‭ ‬كان‭ ‬ضحية‭ ‬لروايته‭ ‬الأولى‭ ‬تماما‭ ‬مثل‭ ‬أدباء‭ ‬عالميين‭ ‬كبار،‭ ‬لكنه‭ ‬أحدث‭ ‬خلخلة‭ ‬حقيقية‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬والسياسي،‭ ‬وأعاد‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬دور‭ ‬الأدب‭ ‬وتجاوز‭ ‬المفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬لأدب‭ ‬الالتزام‭ ‬أو‭ ‬الكتابة‭ ‬الملتزمة‭.. ‬

قد‭ ‬يسعفنا‭ ‬الاقتباس‭ ‬هاهنا‭ -‬مع‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬التحوير‭- “‬في‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الحضارات‭ ‬الضامرة،‭ ‬بقواميسها‭ ‬الهزيلة‭ ‬التي‭ ‬تحفل‭ ‬بالآهات‭ ‬وإيماءات‭ ‬القرود‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الكلمات،‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الصفات‭ ‬لن‭ ‬توجد‭. ‬وتشمل‭ ‬تلك‭: ‬حالم‭ ‬دونكيخوتي،‭ ‬مأساوي‭ ‬كافكاوي،‭ ‬سوداوي‭ ‬أورويلي،‭ ‬ساخر‭ ‬رابيلي،‭ ‬سادي،‭ ‬ماسوشي،‭ ‬تردد‭ ‬هاميلتي،‭ ‬غريب‭ ‬كامو،‭ ‬وثعلب‭ ‬زفزاف،‭ ‬ولعبة‭ ‬برادة،‭.. ‬وكلها‭ ‬ذات‭ ‬أصول‭ ‬أدبية‭. ‬وللتأكد‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬سيبقى‭ ‬لدينا‭ ‬مجانين،‭ ‬وضحايا‭ ‬جنون‭ ‬عظمة‭ ‬واضطهاد،‭ ‬وأشخاص‭ ‬بشهوة‭ ‬عادية‭ ‬وتجاوزات‭ ‬فاحشة،‭ ‬وأناس‭ ‬منحطون‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الحيوانات‭ ‬يستمتعون‭ ‬بتلقي‭ ‬الألم‭ ‬وتسليطه‭. ‬لكننا‭ ‬لن‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬خلف‭ ‬هذه‭ ‬السلوكيات‭ ‬المتطرفة‭ ‬المحظورة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬قواعد‭ ‬المجتمعات،‭ ‬تلك‭ ‬الخصائص‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬الإنسان،‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬لنرى‭ ‬السمات‭ ‬الخاصة‭ ‬بنا،‭ ‬لذلك‭ ‬نحن‭ ‬مدينون‭ ‬لمواهب‭ ‬سيرفانتس،‭ ‬كافكا،‭ ‬أورويل،‭ ‬رايبليه،‭ ‬دو‭ ‬ساد،‭ ‬وماسوش‭ ‬لأنهم‭ ‬استطاعوا‭ ‬كشفها‭ ‬لنا‭”‬،‭ ‬ومدينون‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لمحمد‭ ‬شكري،‭ ‬لأنه‭ ‬عرانا‭ ‬تماما،‭ ‬وجعلنا‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬كل‭ ‬هاته‭ ‬السنين‭ ‬نردد‭ ‬كل‭ ‬صباح‭: ‬ليس‭ ‬بالخبز‭ ‬وحده‭ ‬يحيا‭ ‬الإنسان‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى