العقل العربي في ضوء اجتهادات المثقفين العرب: الماهية والمعيقات
ذ. حميد المصباحي
لا يمكن تحديد معيقات العقل العربي بدون تحديد ماهيته التي تعتريها صعوبات، والتي من أهمها التساؤل: هل العقل كوني في آليات اشتغاله، أم أنه مختلف باختلاف الفاعلية الخاصة بكل حضارة أو ثقافة؟
لقد تم التركيز على صفات محددة له، بعد أن اعتقد المثقف العربي بخصوصية العقل أو على الأقل تميز فعله، فما هي هذه الصفات التي اتخذ؟ وكيف تعوقه عن ممارسة فعله العقلاني التنويري والنهضوي بشكل واضح؟
1 – العقل المتعدد:
انتقل المفكر عابد الجابري، من الخطاب إلى نقد العقل العربي، مميزا داخله بين مكونات ثلاث، البرهاني، البياني ثم العرفاني، لينتصر لضرورة البرهان كآلية منتجة للفكر وعاملة على تحقيق استمراريته من خلال مشروع ابن رشد، الذي تعثر بفعل عوامل ثقافية وحتى سياسية، بالعوائق نفسها التي اعترضت مساره من خلال النهضة العربية، التي لم يكن توقفها، إلا إعاقة ثانية لمشروع العقل البرهاني الذي صارع على واجهتين، منذ بدايته، واجهة التصدي لما هو عرفاني، لينضاف الفقه المدجج بالبيان اللغوي كما هي عادته، وهناك عوامل أخرى تاريخية، فيها السياسي والاجتماعي.
2 – العقل الإسلامي:
نبه محمد أركون لصعوبة العرقي في توصيف العقل، لذلك اعتبر أن العقل المقصود، هو عقل إسلامي، بالمعنى الثقافي والحضاري، وليس العقدي، وبذلك فهو بمنطق الديني فيه، يرث آليات اشتغال ثقافية، محروسة بأرتوذكسية اكتسبت مشروعيتها من خلال عمقها الوجداني التراثي، مما دفعه لمحاولة تحليل النص القرآني بطريقة تحرره من سلطة البيان اللغوي النحوي والاشتقاقي، فأنتج ما يشبه الورش الجماعي المتابع لطبيعة النص ومرفقاته المفسرة، بغية استحضار التجربة التاريخية للفهم وصولا إلى الفيلولوجيا التي كشفت عن الأبعاد الثقافية في صلب المقدس، مميزا بين القرآن وتفسيره البشري، وبذلك فقد رسم أركون صعوبة تحرير العقل الإسلامي، المثقل بما تم إنتاجه تراثيا حول اكتفائه بذاته واعتبار ذلك حفظا لهوية شكلت لنفسها روادع ضد التجديد والتطوير، مما نستنتج معه أن عوائق العقل وأعطابه في الثقافة العربية، مصدرها ليس الماضي وحده، بل الحاضر المفكر من خلاله.
3 – العقل النصي:
أما حامد نصر أبو زيد، فقد وصف العقل بالنصي، بناء على منطق المنصة الخطابية، فهو يشتغل متعاليا بالنص المقدس، لتمتد القداسة للتفسير حاجبة ما عداها ومتمثلة للواقع عبر نصوص مغلقة لا تنفتح عن الحاضر، إلا بتحنيطه ليصير أقصى ما يحلم به، هو تحقيق النموذج الخالص المكرر لما سبق أن كانته هذه الهوية الثقافية، في تعاليها وتشييدها لماض يأبى أن يمضي حفظا لوجوده المقدس بالنص، نابذا كل ما اختلف عنه حتى لو كان من داخله، برهانا وتصوفا وتمذهبا، فكيف يقبل بما خالفه حتى لو نجح واقعيا في التنمية والتطور؟
4 – وحدة العقل:
نستحضر هنا جورج طرابيشي في نقده لمشروع محمد عابد الجابري، مؤكدا على وحدة العقل العربي، وتداخل مكوناته الثلاث، فابن رشد رغم انتصاره لأرسطو البرهاني، استشهد بالنص القرآني، وابن سينا رغم صوفية مشروعه، كان ساعيا لتجاوز أرسطو الذي صارت مقولاته هو نفسه نصية بعجز قرائه على تجاوزه، بل إن الكنيسة تبنت رؤيته كمرجعية واجهت بها التطور العلمي في الفلك والطبيعة، تأويلا أو تكرارا، فالعقل ليس مبدأ خالصا يقصي غيره كما حدث سياسيا مع المعتزلة، بل هو دافع للتفكير وحصيلة لهذا التفكير نفسه، بما يراكم من مكتسبات يتأثر بها مؤثرا فيها، لكن الحقيقة التي تأجل التفكير فيها، هي كونه عزل عن العلم وتم ربطه بالمجال العملي الأخلاقي، لأن الحضارة العربية الإسلامية، ارتكزت على أخلاقيته ومحاولة تقريبه من الهم التشريعي الإسلامي، ليمارس قياسه اليقيني ويكتسب مشروعية تبيح له ربط نفسه بالديني ليقبل به ويعتمده متجاوزا حدوده القياسية العقلية التي حولها الفقه إلى قياسات شرعية إسلامية.
خلاصات:
لقد وجد العقل العربي نفسه في مواجهة نموذج هوياتي مزدوج، إسلامي ناهض، قنن اللغة بالبيان ودشن بدايته بالتطلع لمشروع سياسي حصن نفسه بثقافة إسلامية موروثة، تقوت بالمقدس بل تماهت معه، وفي الجهة الأخرى، أراد استنبات عقلانية يونانية اتهمت سلفيا بالوثنية، وكان عليه تبرئة عقلها من ذلك، فخاض معتركا أضعف فعاليته النظرية، ولأن العلوم لم تكن بعد قد تطورت، لتنصفه كما حدث في الغرب، فتراجع مدافعا عن حقه في الاعتقاد كما يراه هو، مبعدا نفسه عن السائد في الثقافة، مما سمح لخصومه بعزله في حدود الآلة المنطقية والقياسية، ولم يحذ عن هذه القاعدة إلا الفارابي وابن ميمون، في محاولة فهمهما الفلسفي للوحي، بالحديث والكتابة عن الخيال النبوي، الذي لم يصلنا منه إلا القليل، ولم يجرؤ على تطوير ذلك أحد بعدهما، لكن حاليا، أدرك بعض الباحثين والمثقفين، أهمية العودة للنص المقدس، بغية إعادة فهمه بما تسمح به المناهج الحديثة، لتحرير العقل من النصية السلفية وحتى الحداثية نفسها، بأن تعكف على توضيح تناقضات التفسير للمقدس واستغلاله له لمحاصرة انطلاقة العقل، المدجج بأدوات جريئة تسائل المسلمات وتعري زيف أسسها تاريخيا وثقافيا.