الرسالات السماوية.. مَدْخَلٌ للحرية العقائدية

◆ عبد الإله شفيشو

وشعوب العالم – خاصة المعتنقين منهم للرسالة السماوية المسيحية – يستعدون للاحتفال بميلاد يسوع المسيح “عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ”، ومن منطلق أن جوهر الرسالات السماوية الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام) هي في واقع الأمر جوهر واحد و إن اختلفت تجلياته بحسب الزمان و المكان، ارتأيت أن أكتب هذا المقال مراهنا على قراء محتملين سيتجاوبون معه وهذا لا يعني أنني أعتمد الاستفزاز أو الإثارة.

لا‭ ‬جدال‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تواجد‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬الثلاث‭ ‬الكبرى‭ (‬اليهودية،‭ ‬المسيحية‭ ‬و‭ ‬الإسلام‭) ‬قد‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬توطيد‭ ‬التعددية‭ ‬وهي‭ ‬صفة‭ ‬طبيعية‭ ‬للتجمعات‭ ‬البشرية‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬فان‭ ‬التعددية‭ ‬الملتصقة‭ ‬بحرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬بمثابة‭ ‬شرط‭ ‬أولي‭ ‬لكل‭ ‬تعايش‭ ‬بين‭ ‬إثنيات‭ ‬وأجناس‭ ‬متباينة‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬حوربت‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬أصحاب‭ ‬المشاريع‭ ‬الموحدة‭ ‬الرافضة‭ ‬لقبول‭ ‬الغيرية‭ ‬والاعتراف‭ ‬بها،‭ ‬فعندما‭ ‬نستقرئ‭ ‬التاريخ‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بحرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬كلف‭ ‬الإنسانية‭ ‬غاليا‭ ‬فهناك‭ ‬إثنيات‭ ‬عديدة‭ ‬اختفت‭ ‬وتم‭ ‬استئصالها‭ ‬وهذا‭ ‬الثمن‭ ‬الفادح‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬أتاح‭ ‬للتعددية‭ ‬أن‭ ‬تستعيد‭ ‬أنفاسها‭ ‬والحياة‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يوضح‭ ‬استحالة‭ ‬نجاح‭ ‬التوحيد‭ ‬القسري‭ ‬كما‭ ‬يبين‭ ‬الدور‭ ‬الإيجابي‭ ‬لحرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬وللتنوع‭ ‬الثقافي‭.‬

لفهم‭ ‬ظاهرة‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬تحت‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ (‬مــا‭ ‬هــو‭ ‬الديـن؟‭):‬

نشرت‭ ‬إحدى‭ ‬المجلات‭ ‬الفرنسية‭ ‬دراسة‭ ‬شارك‭ ‬فيها‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬والمفكرين‭ ‬أوروبيين‭ ‬وعرب‭ ‬حاولوا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬إعادة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬هذا‭ ‬المنعطف‭ ‬الكبير‭ ‬و‭ ‬الخطير‭ ‬الذي‭ ‬تشهده‭ ‬الإنسانية‭ ‬ولاسيما‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬الفهم‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي،‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬نزعة‭ ‬متمركزة‭ ‬حول‭ ‬ذاته‭ ‬لأنه‭ ‬مس‭ ‬في‭ ‬صميمه‭ ‬و‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬يحاول‭ ‬تغطية‭ ‬ذلك‭ ‬بصيغ‭ ‬خطابية‭ ‬متنوعة‭ ‬تصب‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬الاعتراف‭ ‬بحرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انعدام‭ ‬المعرفة‭ ‬بهذه‭ ‬الحرية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬وظيفة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المجتمع،‭ ‬فبعض‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬أحدثت‭ ‬تغييرات‭ ‬جوهرية‭ ‬مستندة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقادات‭ ‬الدينية‭ ‬و‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تهميشها‭ ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬المجتمعات‭ ‬المحتجة‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬المستبعد‭ ‬لكل‭ ‬اعتبار‭ ‬عقائدي‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬به‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية،‭ ‬فجوهر‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬و‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة‭ ‬بل‭ ‬أساس‭ ‬الثواب‭ ‬و‭ ‬العقاب‭ ‬التي‭ ‬أقرتها‭ ‬تلك‭ ‬الرسائل‭ ‬هي‭ ‬فرصة‭ ‬متكافئة‭ ‬لكل‭ ‬إنسان‭ ‬فهي‭ ‬–‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬–‭ ‬لا‭ ‬ترضى‭ ‬بطبقية‭ ‬تورث‭ ‬عقاب‭ ‬الفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والمرض‭ ‬لغالبية‭ ‬الناس‭ ‬وتحتكر‭ ‬ثواب‭ ‬الخير‭ ‬لقلة‭ ‬منهم‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬يجب‭ ‬الإقرار‭ ‬أن‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬التي‭ ‬منحت‭ ‬للإنسان‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬حوافزه‭ ‬للتقدم‭ ‬والعيش‭ ‬الكريم‭ .‬

إن‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬كانت‭ ‬ثورات‭ ‬إنسانية‭ ‬استهدفت‭ ‬حرية‭ ‬معتقد‭ ‬الإنسان‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يتصادم‭ ‬مع‭ ‬حقائق‭ ‬الحياة‭ ‬وإنما‭ ‬ينتج‭ ‬التصادم‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الظروف‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬تجار‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬استغلالها‭ ‬للدين‭ ‬ضد‭ ‬طبيعته‭ ‬وروحه‭ ‬لعرقلة‭ ‬أي‭ ‬تقدم‭ ‬و‭ ‬تحرر‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬وذلك‭ ‬بافتعال‭ ‬تفسيرات‭ ‬له‭ ‬تتصادم‭ ‬مع‭ ‬حكمته‭ ‬وعلى‭ ‬المفكرين‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬للدين‭ ‬بجوهر‭ ‬رسالته،‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬جميع‭ ‬الأديان‭ ‬ذات‭ ‬رسالة‭ ‬تقدمية‭ ‬ولكن‭ ‬تجار‭ ‬الدين‭ ‬الذين‭ ‬أرادوا‭ ‬استعباد‭ ‬البشر‭ ‬واحتكار‭ ‬الخيرات‭ ‬اقدموا‭ ‬على‭ ‬جريمة‭ ‬ستر‭ ‬أهدافها‭ ‬بالدين‭ ‬وراحوا‭ ‬يلتمسون‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يتعارض‭ ‬وأهدافه‭ ‬فما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬تحولات‭ ‬واهتزازات‭ ‬لا‭ ‬يمس‭ ‬الإختيارات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬أو‭ ‬النماذج‭ ‬الثقافية‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬يهم‭ ‬بالأساس‭ ‬مستويات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭.‬

إن‭ ‬الإقناع‭ ‬الحر‭ ‬هو‭ ‬القاعدة‭ ‬الصلبة‭ ‬للإيمان‭ ‬والإيمان‭ ‬بغير‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬هو‭ ‬التعصب‭ ‬والتعصب‭ ‬هو‭ ‬الحاجز‭ ‬الذي‭ ‬يصد‭ ‬كل‭ ‬فكر‭ ‬جديد‭ ‬ويترك‭ ‬أصحابه‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬تصبو‭ ‬إليه‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬فان‭ ‬العالم‭ ‬و‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬الأكثر‭ ‬سخونة‭ ‬اجتماعيا‭ ‬–‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬خصوصا‭ ‬–‭ ‬يشهد‭ ‬عودة‭ ‬كبيرة‭ ‬للمكبوت،‭ ‬فبعيدا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬فهم‭ ‬فولكلوري‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الاعتقادات‭ ‬فان‭ ‬الدراسة‭ ‬العقلانية‭ ‬والهادئة‭ ‬مطلوبة‭ ‬لفهم‭ ‬الأسباب‭ ‬العميقة‭ ‬والأبعاد‭ ‬الحقيقية‭ ‬لظاهرة‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬فبعض‭ ‬البلدان‭ ‬قد‭ ‬أحدثت‭ ‬تغييرات‭ ‬مستندة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الاعتقادات‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬تهميشها‭ ‬وذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬رد‭ ‬الفعل‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬المجتمع‭ ‬محتجا‭ ‬على‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬المستبعد‭ ‬لكل‭ ‬اعتبار‭ ‬لحرية‭ ‬الاعتقاد،‭ ‬إن‭ ‬حرية‭ ‬الاعتقاد‭ ‬وحدها‭ ‬هي‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬تحريك‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬ملاحقة‭ ‬التقدم‭ ‬فحرية‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬مستقبله‭ ‬وفي‭ ‬تحديد‭ ‬مكانه‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬وفي‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يستقر‭ ‬في‭ ‬ادراكنا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬حرية‭ ‬لاعتقاد‭ ‬الفرد‭ ‬بغير‭ ‬تحريره‭ ‬من‭ ‬براثين‭ ‬الاستغلال‭ ‬وذلك‭ ‬هو‭ ‬الأساس‭ ‬وجوهر‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية،‭ ‬وكل‭ ‬عام‭ ‬وشعوب‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬محبة‭ ‬وسلام‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى