سؤال المرحلة… من جديد: ما معنى الماركسية ؟
مقاربة الموضوع تقتضي منا، منهاجيا، العمل على تسطير مكوناته وفق الخطوط العريضة التالية: طرح الأرضية التي بها يتم فهم راهنية « الماركسية «، فطرح أربعة تصورات لمعنى «الماركسية»، يليها مفهوم «الطبقة» التي بها تتوحد اديالكتيكيا مكونات الماركسية، فالجانب «التنظيمي» الذي نربطه بجماعية امتلاك المكان ، فنكون بذلك قد أدلينا بمقترحنا حول: ما معنى الماركسية؟
لا شك أن التخلص من التسلط والتوحش والمظلومية والفساد وغيره من الممارسات المسيئة لكرامة المجتمع التي هي أهم مميزات النظام الرأسمالي وتوابعه، يقتضي خلق شروط إبداع وضبط أدوات الاشتغال التي تكون لها القدرة دون غيرها على تعرية ونقد المساوئ تلك. وفي هذا أهمية ضبط المفهوم وكذا السياق المنهاجي المنظم له. إنه الأسلوب الذي يمكننا من تعرية فلسفة الدولة من جهة، وكذا ضبط التعاملات المجانبة للصواب، سواء كان ذلك بشكل شعوري أو لاشعوري أو بهما معا، للكثير من التصورات والمفاهيم، فنكون أمام التشويه والتسطيح والمغالطات التي قلنا أنها يمكن أن تكون عن قصد أو غير قصد لعلة أن المكان هو مكان فلسفة الدولة. ومعلوم أن هذه الأخيرة لا تتحمل وجود نقيضها، فتعمد إلى خلق شروط ومؤسسات وثقافة تشويهه وإبرازه بمثابة الشيطان المهدد لوجود الإنسانية أو قل الحضارة. ومن هنا تهجمها على الماركسية تشويها وشيطنة وهو الحاصل والسائد اليوم بقيادة النظام الرأسمالي الذي يتغنى ويتباهى بمشروعية ممارساته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الحامل، في نظره، الفلسفة الماركسية. وهنا نصل إلى بيت القصيد: هل الاتحاد السوفياتي هو الماركسية؟ أليس الوضع الراهن بأزماته وحروبه، وخلق شروط القتال والاقتتال، ودعم وتدعيم الإرهاب، والخرق الماكر لسيادة الدول باسم الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية؛ ناهيك عن انتشار الفقر والأمراض وأشكال العنصرية. أليس هذا الوضع الراهن السئ يستدعي نجاعة وراهنية الفلسفة الماركسية في أشكالها الإبداعية عوض الأشكال الخشبية والدوغمائية والأوحدية كما تم تصويره وممارساته سابقا وما زال اليوم؟.
ما سبق يقودنا بشكل مباشر إلى طرح السؤال الأكبر: ما معنى الماركسية؟.. سؤال طرحه ويطرحه جزء كبير من اليسار العالمي، لكن بأشكال دوغمائية وواحدية، بفعل انغلاق مرجعيتهم وفرضها على مجتمعات تستوجب ماركسية أو ماركسيات مفتوحة على جدلية النهاية واللانهاية، وبالتالي استحضار الشرط التاريخي الذي هو البنية المجتمعية بمكوناتها المادية والسياسية والثقافية. إنها الدائرة المغلقة اللاجدلية واللاتاريخية التي حددت ووجهت الشكل الأوحد للماركسية وما زالت؛ فقانون الوجود الطبيعي منه والمجتمعي والحيواني والنباتي والانساني هو قانون التطور وفق العلاقة الجدلية المعقدة بين تلك المتغيرات وهو ما يعني، وبالكاد، فشل التصور الخشبي والدوغمائي أو قل تقديسه وبالتالي فهو تصور منفصل عن قوانين الواقع المجتمعي الذي يكون دوما محددا في الزمان والمكان.
هذا المدخل يعبد لنا الطريق لمقاربة سؤالنا:» ما معنى الماركسية؟»..
إنه سؤال أحيط بالكثير من الغموض والخلط والتبسيط والتشويه والاستغلال. السؤال الذي تضمنته مختلف الحوارات الماركسية، ومختلف المحاضرات عن الماركسية، وتضمنته مختلف الصراعات بين الماركسيين، بل وفي مجمل الكتب الماركسية. وهذا يعني أنه مفهوم عصي عن التبسيط والخشبية والتشويه لعلة أن الماركسية تعني «الحقيقة «؛ ولكن، ولتلافي الغموض، ماذا تعني» الحقيقة «؟ فلا يعنى بها الأحكام المعيارية والمنطقية وحسب، بل هي أعمق من كل ذلك؛ ف « الحقيقة « تلك كل عمليات إبداع الواقع المفهوم بمعناه الكوني والذي تتحدد مرجعيته في كونه نتاج الممارسة الإنسانية أو قل ربط الحقيقة بفعالية الإنسان باعتباره القوة الفاعلة على مستويي النهاية واللانهاية. ومعلوم أن الإبداع والفعالية تحصل باستثمار العلم والسياسة والتاريخ دون نفي غيرهم وهو ما يعني أن الماركسية علم وتاريخ وسياسة ما دام الإبداع والفعل/الانفعال في وبتغيير الواقع يستحيل حصوله بتغييب المجالات تلك. لذا، فهي جزء لا يتجزأ من «الماركسية» أو قل انها الماركسية – دون نفي غيرها -، لكن من الملاحظ أن هناك خلافات بين الماركسيين في علاقة الماركسية بتلك المجالات: فهناك من يرى أن الماركسية هي علم الاقتصاد، وهناك من يرى أنها علم التاريخ، وهناك من يرى أنها علم السياسة، وهناك من يرى بأنها فلسفة. وهذه الخلافات هي ما سيمكننا من التقرب أكثر لضبط وتحديد صيغة طرحنا: « ما معنى الماركسية «؟
هناك التصور الذي يرى أن الماركسية علم وهو التصور الذي طرحه ألتوسير بكل وضوح، بل وطرحه غيره قبله وبعده. فهذا الطرح اعتمد أساسا مؤلف كارل ماركس الشهير « الرأسمال « على الرغم من تذييل ماركس له بصيغة « مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» وليس بصيغة «علم الاقتصاد السياسي»؛ والنقد ليس هو العلم. والسؤال الذي يفرض علينا نفسه هو: إذا كانت الماركسية علما فهي علم ماذا بالضبط؟ الواضح أن الأفكار الحقيقية التي تشكل بنية الماركسية غير مستنتجة حصريا من الاقتصاد كعلم . وهنا لابد من الاستعانة بماو تسي تونغ لإثبات ذلك حيث نجد طرحه نفس السؤال السابق الذكر: ما مصدر الأفكار « الحقيقية «؟ هل هو الاقتصاد منظورا إليه كعلم؟ وفي هذا الصدد يجيبنا ماو أن هناك ثلاثة مصادر هي ما يمكننا من القول بأن الأفكار «حقيقية»: أولها الإنتاج باعتباره مجال الصراع بين الإنسان والطبيعة، وثانيها الصراع الطبقي في الحقل السياسي، وثالثها العلوم التجريبية باعتبارها الممارسة التجريبية المستقلة نسبيا عن العلاقات المجتمعية. وعليه، يستنتج من هذا استحالة اختزال الماركسية في صيغة: الماركسية هي علم الاقتصاد بشكل حصري خاصة وأن الاقتصاد الانجليزي (ريكاردو وغيره) اهتم بالعلاقات بين الأشياء ملغيا اعتبارها علاقات اجتماعية فانتفت عنه صفة العلمية.
أما التصور الثاني فهو الذي يذهب إلى أن الماركسية هي علم التاريخ الذي يسمى بالمادية التاريخية في الوقت الذي نجد فيه موقف ألتوسير المتمثل في كونها علما وفلسفة. ومن أهم سلبيات هذا التحديد هو إفراغه من فكرة السياسة التي جندت الماركسية نفسها طوال حياتها دفاعا عنها. فالماركسية تتساءل دوما عن موقع الفاعلين في الممارسة السياسية باعتماد عقلنة التاريخ؛ ففي التاريخ يوجد الفاعل السياسي. إنه الطرح الذي يرفضه أنصار هذا التصور الثاني وهو تصور قال بموت الفاعل أو قل إن الماركسية باعتبارها علم التاريخ تنتظم بفعل عواملها الداخلية، وبالتالي رفض فكرة الفاعل كقوة تمارس التغيير في البنية من خارج البنية. وفي هذا الإطار، فعندما يتكلم أنصار هذا التصور عن الفاعلين داخل البنية فيقصدون بذلك صراع الطبقات، لا صراع الأفراد معتمدين الفكرة الواردة في البيان الشيوعي للحزب القائلة بأن التاريخ لم يكن أبدا سوى تاريخ صراع الطبقات؛ وهم في هذا لم ينتبهوا إلى أن الماركسية لها برنامجها الذي ميزت فيه بين الطبقة في ذاتها والطبقة لذاتها وهو التمييز الذي يستلزم، وبالضرورة، البرنامج السياسي. وهذا الوضع للطبقتين يسجل حضوره وكمونه في التاريخ. هذه المشكلة في الخلط بين الفاعل في ذاته والفاعل لذاته وكذا رفض فكرة الفاعل مطلقا، حسم حلها الكثير من الماركسيين بالقول بأن هناك فاعلا أساسيا في الماركسية له القدرة على ممارسة التغيير في التاريخ وبالتاريخ وهو ما يسمى ب» البروليتاريا «. فهل وفق هذه الحركة الماركسية يمكن اعتبار البروليتاريا هي الفاعل في التاريخ والذي سبق أن رفضه أنصار التصور الثاني؛ فكيف حصل هذا التصور بالانتقال من الوجود المنغلق وفق قاعدة الإطلاقية أو القطيعة الذاتية إلى وجود فاعل هو بالكاد الطبقة المنتقلة من ذاتها إلى لذاتها؟.. هنا نكون حتما أمام السياسة؛ هل يمكن فهم ذلك باعتماد أدوات المادية التاريخية بمعناها السائد؟ وفي هذا الإطار نستحضر من جديد ماو تسي تونغ الذي عالج موضوع الفاعل في التاريخ: البروليتاريا في شكلها الكلاسيكي التي تتحدد مكوناتها في ما سماه ب» مجموع أصدقاء الثورة «، وبعدها تكلم عن» الشعب «محتفظا له بنفس الوظيفة، وبعد ذلك، وبنفس التوجه، تكلم عن « الجمهور « الذي اعتبره المركز المحرك للتاريخ؛ فالربط، في نظر ماو، بين الطبقة العمالية والشعب والجمهور هو العملية المرادفة لمفهوم البروليتاريا الذي حدد وظيفتها بتحديدها كفاعل سياسي في التاريخ. هكذا، فالقول بأن الماركسية هي علم التاريخ تحت اسم المادية التاريخية يطرح العديد من التساؤلات والنقاشات.
أما التصور الثالث فهو الذي يعتبر الماركسية بمثابة علم السياسة. ما طرحناه بصدد الاقتصاد والتاريخ نطرحه أيضا بصدد السياسة: ما مكونات السياسة؟ وهنا لا بد من تسجيل الملاحظة التالية: ما يؤكد الغموض هو أننا لا نعتر على صيغة « السياسة الماركسية « عند مراجعتنا تاريخ وتطور الماركسية؛ فما نعتر عليه هو استخدام صيغ «السياسة الشيوعية»، «السياسة الاشتراكية»،»الدولة الاشتراكية»، ولا نعتر على صيغة» الدولة الماركسية «. ولكن، وعلى الرغم من كل هذا، فيوجد وراء مختلف الصيغ مفهوم الماركسية. وتباعا لما سبق، ما هي أهداف هذه السياسة؟ هل هو نفي السياسة أو تحقيق نهاية السياسة؟ إن «حقيقة» حركتها الكامنة هي العمل على تدمير الدولة وفي نفس الآن تدمير السياسة؛ وهذا يعني أن السلطة السياسية لتحقيق ذلك هي السلطة السياسية للبروليتاريا ذات القدرة على إزالة الطبقة المسيطرة وهو في الآن نفسه إزالتها الدولة والسياسة، لأن الدولة تلك هي الممثلة والحامية، في الظاهر والخفاء، للطبقة المسيطرة على باقي الطبقات علما بأن ذلك هو مصيرها بدورها عندما تنضج الشروط. إضافة إلى أن الكثير من الماركسيين ينسون أن للسياسة مكونات أخرى كالممارسة الذاتية التي لا تمارس كسلطة ولكن ك « تغيير ثوري « تحكمه قوانين الصيرورة حيث يتم اختفاء الثورة تلك لتحل محلها ثورة إبداعا وتطورا وهكذا. ومعروف أن جوهر السياسة، كما هي سائدة اليوم، هو ممارسة السلطة وهو ما يعني أنه لا يمكن إزالة السلطة والدولة بالاستحواذ على السلطة؛ لذلك سبق أن قلنا إنه لا يمكن الكلام عن وجود « السياسة الماركسية».
لكن ما معنى «السياسة « التي تقوم باستثمار الدولة وفي الآن نفسه محاولة احتلالها؟.. يمكن تعريف «السياسة» باعتبارها المجال الذي يهدف ممارسة السلطة لإزالة الدولة، بل وإزالة حتى نفسها كدولة انتقالية. بهذا المعنى من التحديد يمكننا تعريف «السياسة» ك «سياسة ماركسية» عوض اعتماد العلاقة بالسلطة. إلا أن معنى الماركسية اليوم – كما بالأمس- يجانب لحد الساعة هذا التحديد حيث يبقى مفهوم الماركسية خلف الواجهة دون نفي أهميته كأداة مؤثرة في الفكر أو قل أن السياسة على مستوى العمليات الفعلية والتنظيمية لا تنجو من تأثير الماركسية حتى وإن كان ضعيفا، إلا أنه موجود في الخفاء. وهذا ما يفسر كوننا لا نتكلم عن « السياسة الماركسية « بقدر ما أننا نتكلم عن « السياسة الثورية «. وفي هذا السياق يرى لينين أن السياسة الثورية لا تتطابق مع وجود الدولة على الرغم من العلاقة الجدلية المكرهة مع الدولة. وهكذا، فالقول بتطابق الماركسية مع السياسة هو عملية تطرح أكثر من إشكال.
وهناك التصور الرابع الذي يرى أن «الماركسية فلسفة «، أو قل إنها العلاقة الجدلية بين المادية التاريخية والمادية الجدلية وبالتالي فالماركسية هي الفلسفة والعلم التي تخلصت من التجريد المثالي الهيجلي. وهذا ما سماه ماركس ب « انقلاب الجدل الهيجلي «. ومعلوم أن الأطروحة الرئيسية لماركس تتمثل في دفاعه عن فكرة انخراط الفلسفة في تغيير الواقع لا الاقتصار على تفسيره فقط. فالفلسفة لا معنى لها ولا يمكن أن تسمى كذلك إذا لم تكن مكونا يستحيل فصله عن الممارسة الثورية. والماركسية كفلسفة تتجسد خاصة في نموذج ستالين الذي حصرها في المادية التاريخية والجدلية وهو النموذج السائد اليوم – كما بالأمس- أكثر من غيره؛ في الوقت الذي نرى فيه أن الماركسية، وفق تصور لينين لا تختصر في مفهومين اثنين هما المادية التاريخية والمادية الجدلية، بل هي فلسفة تشكلها ثلاثة مفاهيم: علم + فلسفة + سياسية؛ وهذا يجعلنا أمام إشكالية التحديد: فالانتقال من القول بمكونين إلى القول بثلاثة، جعل العديد من الماركسيين يطرحون أكثر من سؤال بهذا الصدد.
يتضح من التصورات الأربعة ل» معنى الماركسية «، أن هذه الأخيرة لا تتطابق بشكل حصري مع علم الاقتصاد، ولا مع علم التاريخ، ولا مع السياسة الثورية، ولا مع الفلسفة. فماذا عساه أن يكون معناها إذن؟ لنتابع الرحلة ونواجه السؤال التالي: كيف يمكن لمكونات الماركسية أن تشكل وحدة جدلية في ما بينها تسمى ب « الماركسية «؟ وما الآلية التي تمكن هذه المكونات من التنظيم لتشكل لنا وحدة على مستويي النظرية والممارسة. سنتابع في حلقة تالية أن الآلية التي تتمكن وتمكن من تنظيم المكونات الثلاثة للماركسية :الفلسفة والعلم والسياسة هي مفهوم « الطبقة».