يورغن هابرماس: نحو ديمقراطية تشاورية بديلة

أحمد صوفة

تتأسس نظرية الديمقراطية عند هابرماس على معطيات الفلسفة التداولية Pragmatique، يهدف من ورائها هابرماس إلى جماعة تواصلية مبنية على سلطة الحجة لا على حجة السلطة. ويعد مفهوم “التشاور »Délibération مفهوما مركزيا في نظرية الديمقراطية الهابرماسية، إلى جانب العديد من المفاهيم مثل : التحاجج Argumentation، التفاهم Entente، الإجماع Consensus، الخ. تعطي هذه المفاهيم للفرد الحق في النقد داخل فضاء عمومي يسوده جو ديمقراطي يمارس من خلاله الفرد أو المشاركون في عملية التواصل، ويكون فيه تكافؤ الفرص للجميع من أجل المشاركة في تشكيل الرأي العام والإرادة السياسية معا تعبران عن المصلحة العامة، والتي هي في نهاية المطاف – حسب هابرماس – السيادة الشعبية.

إن العملية الديمقراطية في نظرية هابرماس ل “الديمقراطية التشاورية” لا تختزل في الدفاع عن مصالح فئة ضيقة ما أو جماعة ما وإنما هي تعبير عن المصالح العامة للمجتمع ككل. من هنا يقترح هابرماس خلق فضاء عمومي ديمقراطي على كل فرد أن يدافع عن هذه المصالح داخله وفي الوقت نفسه العمل على إقناع الآخر بتبني رأيه استنادا إلى منطق الحجاج والتشاور والمناقشة.

إن الهدف الأسمى لهابرماس ونظريته في الديمقراطية ليس الدفاع عن المصالح الشخصية كما هو الحال عند أصحاب العقد الاجتماعي (روسو) وإنما الدفاع عن المصالح العامة في كليتها.

وبخصوص السياق التاريخي والسياسي الذي دفع هابرماس لهذا البراديغم الجديد “الديمقراطية التشاورية” فقد جاء في مطلع التسعينات، حيث تم تجاوز الصراع التقليدي بعد انهيار جدار برلين سنة 1989 ومن منطلق أن الفلسفة بنت عصرها على حد قول هيجل، فقد كان من الطبيعي أن يلتقط هابرماس الإشارة ليخوض في سبر أغوار هذه التحولات والتقلبات وأن يستحضرها بل ويدمجها في نظريته محاولا بذلك معالجة القضايا والإجابة عن الإشكالات الراهنة على المستوى السياسي والمحلي والإقليمي والدولي وكذلك على مستويات أخرى في نظريته النقدية.

 

وبالفعل هذا ما قام به هابرماس في كتابه “الحق والديمقراطية: بين الوقائع والمعايير” والكتابات التي تلته “الاندماج الجمهوري”، “التداوليات الكلية”، “مجرات ما بعد الدولة – الأمة”؛ إذ تعد هذه الكتابات المتأخرة كامتداد لأبحاثه الفلسفية السابقة حول الفلسفة السياسية، وعلى رأسها نظرية الديمقراطية التشاورية بعد نظرية العدالة لجون راولز John Rawls (…).

لقد بنى هابرماس هذه النظرية على أنقاض نقد الدولة الرأسمالية لكنه هنا لا يرى في الرأسمالية أساسا مرحلة يمكن أن تنحرف فتؤدي إلى كوارث، لكنها عنده ليست شرا مستطيرا، وهنا نقطة خلافه مع الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت، بحيث ركز الجيل الأول للمدرسة على ظاهرة الهيمنة التقنية والعقل الأداتي السائد في هذا النظام. كما بنى أيضا نظريته في الديمقراطية من منطلق أساسه نقد للتصورين أوالنموذجين الليبرالي والجمهوري.

إن الفكرة المحورية لمشروع هابرماس في كتابه “الحق والديمقراطية: بين الوقائع والمعايير” وكذلك في كتابه “الاندماج الجمهوري” هي تأسيس الديمقراطية على أساس جماعة متواصلة خالية من أية هيمنة عدا هيمنة أفضل حجة.

كما أن مفهوم التشاور Délibération المرتبط بأخلاقيات المناقشة يعد مفهوما مركزيا لديه. ففي التشاور يعطى لكل عضو في الجماعة الحق في الكلام والفعل بخصوص القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطروحة في الفضاء العمومي. وفي ذلك النقاش العقلاني المؤسس يتشكل الرأي العام والإرادة السياسية العامة للمواطنين في المجتمع الديمقراطي الذي يلعب فيه التشاور دورا مركزيا.

فاعتمادا على منطلقات أخلاقيات المناقشة سيصبح مفهوم التشاور في نظرية الديمقراطية التشاورية مركزيا، لأن التشاور -كما سبقت الإشارة- يعطي لكل مشارك في العملية التواصلية حق النقد والإدلاء برأيه حول القضايا التي تهمه وتهم الجميع في فضاء عمومي ديمقراطي، والتشاور يتم بواسطة تبادل وجهات النظر شريطة انطلاق المشاركين من حسن نية أثناء عملية التواصل وشريطة أن تكون هذه الصيرورة الخطابية المؤسسة على مناقشة عقلانية وتعددية لتسمح بتكون الرأي العام والإرادة السياسية.

يرى هابرماس أن مسألة الدفاع عن المصالح العامة لن تتم إلا بفعل مشاركة واسعة لأكبر شريحة من المشاركين، وذلك لتجاوز التصور النخبوي للديمقراطية، كما كان متداولا في القرن الثامن عشر، وأيضا لتجاوز فلسفة الوعي/الذات أو النزعة الأداتية.

إن البديل الذي يطرحه هابرماس ينبني على أنقاض تلك التصورات السابقة للديمقراطية خاصة التصور الليبرالي والتصور الجمهوري، حيث سيعمل على المقارنة بين النموذجين المتناقضين فيما بينهما، وذلك في ضوء أعمال الفيلسوف الأمريكي فرانك ميشلمان Frank Meachelman  . يقول: “سأشرع في ضوء أعمال فرانك ميشلمان بوصف هذين النموذجين للديمقراطية المتعارضين فيما بينهما بصفة سجالية، وذلك من خلال وجهات نظرهما  المختلفة حول مفهوم المواطن، الحق وطريقة تصورهما لطبيعة تشكل الإرادة السياسية” . من هنا يمكننا طرح الأسئلة التالية : ما هي مجمل الاختلافات التي توصل إليها هابرماس باعتماده على دراسة ميشلمان للنموذجين الليبرالي والجمهوري؟ وما هي اقتراحات هابرماس على النقد الذي وجهه لكلا النموذجين؟ ما القيمة المضافة التي أضافها هابرماس حول نظرية الديمقراطية داخل حقل الفلسفة السياسية المعاصرة؟

قبل محاولة الإجابة على الأسئلة المطروحة آنفا – في مقال لاحق – وجب التنبيه إلى أن هابرماس يستعمل مفاهيم متداولة لكن بدلالته الفلسفية الخاصة سنحاول هنا أن نوضحها.

يستعمل هابرماس مفهوم “الليبرالي” استعمالا خاصا إلى جانب لفظ “جمهوري” بالإضافة الى مفهوم “مذهب الجماعيين Communautariens”. فالليبرالية لا تعني الليبرالية الاقتصادية والسياسية التي تستند إلى حماية استقلال المجال الخاص للأفراد وشرعية اقتصاد السوق من جهة، والحريات الفردية من جهة أخرى، بل هي تعني عند هابرماس أطروحة فلاسفة القانون والسياسة راولز ودوركين Dorkin اللذين يشددان على ضرورة المساواة، وبالأخص احترام نفس التساوي في سياق مجتمع تعددي أو ما يسميه راولز حجاب الجهل The veil of ignorance في سياق حديثه عن فكرة العدالة. أما مصطلح “الجمهوري” لا يفهمه هابرماس مثلما هو متداول لدى فلاسفة العقد الاجتماعي (روسو) بل يستعمله هنا كمنظور جمهوري تواصلي بديل عن المنظور الجمهوري الكلاسيكي. كما نجده يستعمل مصطلح “الجماعيون” نسبة إلى مذهب الجماعيين، وهو مذهب مضاد للنزعة الفردانية الليبرالية التي يمثلها راولز ودوركين اللذان ينتصران للفرد داخل الجماعة. يتقاسم رواد هذا المذهب هاجس التأكيد على دور أهمية الجماعة في صقل الروح الوطنية كيفما كانت هذه الجماعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى