غصن زيتون جريح

◆ يوسف أمفزع

‭”‬لن‭ ‬تستطيعي‭ ‬أن‭ ‬تجدي‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬مظلمة‭.” 

‭‬غسان‭ ‬كنفاني

‭************‬

◆ يوسف أمفزع
◆ يوسف أمفزع

مزيد‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬السلام‭.. ‬من‭ ‬حب‭ ‬الأطفال‭..‬من‭ ‬حب‭ ‬الوطن‭.. ‬من‭ ‬كره‭ ‬الاحتلال‭.. ‬

    ‬آخر‭ ‬وصايا‭ ‬أبي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرعد‭ ‬صادحا‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬بني‭ ‬تتار،‭ ‬عندما‭ ‬فارق‭ ‬الدنيا‭ ‬أشلاء‭ ‬تتطاير،‭ ‬كشعاع‭ ‬برق‭. ‬كشتات‭ ‬قطرة‭ ‬ماء‭. ‬كزجاج‭ ‬انشطر‭ ‬أشلاء،‭ ‬أشلاء،‭ ‬أشلاء‭.‬

    ‬الارتعاد‭ ‬والاستعداد‭ ‬للرحيل‭. ‬نحيب‭ ‬وبكاء‭ ‬النساء‭. ‬خوف‭ ‬وترقب‭. ‬صور‭ ‬الحقائب،‭ ‬ولغات‭ ‬متعددة‭ ‬تركلني‭. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أفقه‭ ‬معانيها،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬مغزاها‭ ‬الطرد‭ ‬والتهجير‭. ‬ارتسمت‭ ‬في‭ ‬مخيلتي‭ ‬شجرة‭ ‬زيتون‭ ‬باسقة‭ ‬عليها‭ ‬حبل‭ ‬أرجوحتي‭. ‬

ودعتني‭ ‬عكا،‭ ‬واستقبلني‭ ‬لبنان،‭ ‬ثم‭ ‬بعثني‭ ‬وديعة‭ ‬إلى‭ ‬سوريا،‭ ‬التي‭ ‬لفظتني‭ ‬نحو‭ ‬مصر،‭ ‬التي‭ ‬اعتذرت‭ ‬بضيق‭ ‬ذات‭ ‬اليد،‭ ‬لأجد‭ ‬نفسي‭ ‬سجينا‭ ‬في‭ ‬خرم‭ ‬إبرة‭ ‬بغزة‭. ‬يوم‭ ‬اشتد‭ ‬ساعدي،‭ ‬وجدتني‭ ‬بين‭ ‬رفاق‭ ‬الجبهة‭ ‬الشعبية‭ ‬بالقطاع،‭ ‬نستقبل‭ ‬رياح‭ ‬الرصاص،‭ ‬ونلتحف‭ ‬القنابل،‭ ‬لمجرد‭ ‬تصريح‭ ‬عابر،‭ ‬لمسؤول‭ ‬يحب‭ ‬اعتلاء‭ ‬صهوات‭ ‬القنوات‭ ‬الفضائية‭.‬

لكل‭ ‬فرد‭ ‬في‭ ‬أرضنا‭ ‬ألف‭ ‬قصة‭ ‬وقصة‭. ‬حكايات‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬تختلف‭ ‬لتلتقي،‭ ‬في‭ ‬الألم‭ ‬والأمل‭. ‬سرد‭ ‬عائم‭ ‬فوق‭ ‬بحر‭ ‬دماء‭ ‬هائجة‭.‬

أصبح‭ ‬تساقط‭ ‬الأجساد‭ ‬الصرعى‭ ‬أمرا‭ ‬اعتياديا‭. ‬إنه‭ ‬طقس‭ ‬سرمدي‭. ‬صلاة‭ ‬جنازة‭ ‬صارت‭ ‬فريضة‭. ‬حين‭ ‬تتصاعد‭ ‬الصرخات،‭ ‬وتنطبق‭ ‬السماء‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬تسجد‭ ‬العمارات،‭ ‬تنفجر‭ ‬الجماجم،‭ ‬تسجد‭ ‬العمارات،‭ ‬جوع‭ ‬وحصار‭. ‬خراب،‭ ‬خراب،‭ ‬خراب‭…….‬

أنظر‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬مارية‭- ‬فدائية‭ ‬مهجرة‭ ‬من‭ ‬يافا‭ ‬كحالتي‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬مسلم‭ ‬وأم‭ ‬مسيحية،‭ ‬لكنها‭ ‬تعتنق‭ ‬ديانة‭ ‬البندقية‭ ‬والضماد‭ ‬والحب‭ ‬والحنان‭- ‬أجدها‭ ‬مبتسمة‭ ‬دائما،‭ ‬تحوم‭ ‬بين‭ ‬الجرحى،‭ ‬مثل‭ ‬كلمة‭ ‬المسيح‭ ‬التي‭ ‬تحيي‭ ‬الموتى‭ ‬بإذن‭ ‬الرب‭.‬

سمعت‭ ‬صراخ‭ ‬رضيع‭ ‬في‭ ‬المخيم،‭ ‬أطللت‭ ‬من‭ ‬النافذة‭. ‬وقع‭ ‬ناظري‭ ‬على‭ ‬طفل‭ ‬جريح،‭ ‬مكلوم‭ ‬برصاص‭ ‬المحتل‭ ‬الطائش،‭ ‬الذي‭ ‬اخترق‭ ‬كتفه‭ ‬الصغير‭. ‬لما‭ ‬فرغت‭ ‬مارية‭ ‬من‭ ‬عملها،‭ ‬أقبلت‭ ‬علي‭ ‬جاهشة‭ ‬بالبكاء،‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬عادتها‭! ‬جلست‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الطاولة‭ ‬متجهمة‭. ‬وأخذت‭ ‬تقرأ‭ ‬رواية‭ “‬رجال‭ ‬في‭ ‬الشمس‭” ‬لغسان‭ ‬كنفاني،‭ ‬لأنها‭ ‬لاحظت‭ ‬أني‭ ‬قابع‭ ‬في‭ ‬ظلام‭ ‬صمت‭ ‬مطبق‭. ‬سألتني‭ ‬مستفسرة‭ ‬عن‭ ‬الرواية،‭ ‬قاصدة‭ ‬استثارة‭ ‬الكلام،‭ ‬لطرد‭ ‬الملل‭:‬

‭- ‬كيف‭ ‬وجدت‭ ‬سؤال‭ ‬أبي‭ ‬الخيران؟

‭- ‬فأجبت‭: ‬إنه‭ ‬ذكي‭ ‬فعلا‭.‬

أتحدث‭ ‬وكأسي‭ ‬لا‭ ‬تفارقني،‭ ‬أتأمل‭ ‬عينيها‭ ‬اللوزيتين،‭ ‬وشفتيها‭ ‬الورديتين‭. ‬لحظة‭ ‬لذة‭ ‬فجائية،‭ ‬لم‭ ‬أستسغ‭ ‬ورودها،‭ ‬ولم‭ ‬أستشعرها‭ ‬منذ‭ ‬مدة‭. ‬وللتو‭ ‬اندهشت‭ ‬أمام‭ ‬فيضان‭ ‬الإغراء‭ ‬الذي‭ ‬ينبعث‭ ‬من‭ ‬جسدها‭ ‬الفاتن‭. ‬إنها‭ ‬ثريا‭ ‬كنيسة،‭ ‬شعاع‭ ‬شمس‭ ‬الظهيرة،‭ ‬شجرة‭ ‬رمان‭ ‬مزهوة‭ ‬بثمارها‭ ‬الحمراء‭ ‬اليانعة‭.‬

تقاربت‭ ‬المسافة،‭ ‬واحتدم‭ ‬الشوق،‭ ‬وتماهى‭ ‬الجسدان‭ ‬فرحة‭ ‬واحتفالا‭ ‬بدقيقة‭ ‬إحساس‭ ‬بالوجود‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭.‬

‭- ‬قالت‭: ‬هل‭ ‬تعرف‭ ‬الحب؟

‭- ‬قلت‭: ‬إنه‭ ‬إحساس‭.‬

‭- ‬قالت‭: ‬وما‭ ‬نحن‭ ‬عليه‭ ‬الآن،‭ ‬إنها‭ ‬الشهوة‭ ‬وحسب‭.‬

‭- ‬قلت‭: ‬إن‭ ‬في‭ ‬الشهوة‭ ‬بعض‭ ‬الحب‭ ‬أيضا‭.‬

ارتشف‭ ‬جسدي‭ ‬نبرة‭ ‬لذة‭ ‬تكسرت‭ ‬عند‭ ‬بزوغ‭ ‬الفجر،‭ ‬الذي‭ ‬أعلن‭ ‬انتقالنا‭ ‬من‭ ‬الحصار‭ ‬إلى‭ ‬الحصار‭. ‬تناهى‭ ‬إلى‭ ‬مسامعي‭ ‬دوي‭ ‬رشاش‭ ‬بعيد‭ ‬المدى،‭ ‬انطلق‭ ‬النفير‭ ‬وصفارات‭ ‬الإنذار‭. ‬يقول‭ ‬زياد‭ ‬قائد‭ ‬نسور‭ ‬المخابرات،‭ ‬إن‭ ‬أوامر‭ ‬القيادة‭ ‬العليا‭ ‬تقضي‭ ‬بالتربص‭ ‬على‭ ‬حدود‭ ‬السياج،‭ ‬فالخطر‭ ‬قادم،‭ ‬إنه‭ ‬يعيش‭ ‬فينا‭. ‬

‭- ‬قالت‭ ‬مارية‭: ‬ماذا‭ ‬ستفعلون‭ ‬ببنادقكم،‭ ‬تجاه‭ ‬فوهات‭ ‬الدبابات،‭ ‬وصهيل‭ ‬الصواريخ،‭ ‬والنفاثات‭.‬

‭- ‬قلت‭: ‬سنقرع‭ ‬جدران‭ ‬الخزان‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى