حوار: ما أنجزته لنا الثورات: الحقوق المكتسبة
◆ لوموند: عدد خاص عن تاريخ الثورات. ◆ ترجمة: عبد الكريم وشاشا
هل يمكن تصنيف ثورات الثامن عشر والتاسع عشر في الغرب ب” مكتسبات دستورية ” ؟؟
Annie Jourdan : فعلا، خلال هذين القرنين، كانت الثورات تحبل كلها بدساتير ومؤسسات جديدة، والمعروفة جدا هي دساتير الولايات المتحدة 1787 وفرنسا 1791، ولكن هناك أيضا هولندا، سويسرا، إيطاليا. كل هذه الدول لديها من قبل دساتير ضمنية غير مكتوبة.. والجديد في الأمر، هو أنها، من الآن فصاعدا هي دساتير مكتوبة ومتاحة للجميع.. وهناك أيضا خاصية معينة في القرن الثامن عشر: الثورات أعلنت نهاية الملكيات لصالح الجمهوريات. مؤقتا. لأنه في القرن التاسع عشر عادت الملكيات مرة أخرى ولكن ك”ملكيات دستورية ” وهي كلها مثل الجمهوريات، تعمل على إدماج جزء من التمثيلية “الشعبية” لكن هذه الأخيرة نخبوية جدا يتم اختيارها بحذر شديد، وهذا ما خيب آمال الشعوب.. ولاسيما الإجهاز على بعض المكاسب واختفاءها مثل المساواة في تكافؤ الفرص،، التعليم العمومي العلماني وأيضا مسألة الطلاق بالتراضي بين الزوجين.. إذن لم يكتمل ذلك الوعد والتبشير بعالم أفضل للجميع الذي أعلنته الثورة الفرنسية..
عدم الاكتمال هذا، هل هو الذي يفسر لنا موجة الثورات بأوروبا في القرن التاسع عشر ؟؟
Annie Jourdan : بعد توقف عن النضال والصراع من أجل الحريات بسبب المحاولة الفاشلة لعودة نابليون سنة 1815، عادت الثورة أفق انتظار لشرائح مهمة من الشعب، ومع سنوات 1822 اندلعت انتفاضات واحتجاجات في مجمل بلدان أوروبا: في إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، وألمانيا، غالبا ما يقودها عسكريون أو منظمات ثورية سرية.. هذه الموجة لم تؤد إلى أي شيء.. ما عدا تحرر اليونان من قبضة الإمبراطورية العثمانية سنة 1822. ثم قامت موجة ثانية سنة 1830 في كل من بلجيكا، بولونيا وفرنسا، حيث أدى ذلك إلى ملكية يوليوز.. هذه الخيبة الجمهورية الجديدة ارتبطت بالمجاعات الأوروبية لسنوات 1840 وازداد الضغط على القارة كلها. وأصبح الشعب في كل مكان يطالب بالحرية، والمساواة والأخوة؛ وبالمناسبة فهذا الشعار الفرنسي الذي نعرفه اليوم ولد سنة 1848 بعد ثورة للإطاحة بملكية من أجل جمهورية، لكنها أخفقت في النهاية وأعطت لنا ميلاد إمبراطورية ثانية.
ما هو الدور الذي لعبته الأنوار في هذه الثورات ؟؟
Annie Jourdan : على غرار جان جاك روسو، جزء كبير من هذا التيار الفكري استاؤوا من الثورات التي لا يمكن التحكم فيها، لقد أخافتهم؛ كانوا يفضلون تغيير المجتمعات عن طريق الإصلاح.. وعلى العكس من ذلك، فأفكار هؤلاء المثقفين والفلاسفة ومثلهم العليا اعتنقها زعماء هذه الثورات وقد لعبت دورا أساسيا في اختياراتهم.. فمناهضة الفيودالية أدت إلى إلغاء الامتيازات ليلة 4 غشت 1789. والتوق إلى الحرية ونشدانها أدى إلى المطالبة بحرية الصحافة، والرأي والتعبير، وأيضا إلى حرية المعتقد. وهناك اختلاف آخر بين هذه الثورات المستلهمة من الأنوار وثورات القرن السادس عشر، يكمن في شكل تعاطي الفاعلين في الثورة وعلاقتهم بالدين. Oliver Cromwell قاد الثورة الانجليزية الأولى باسم الله. بينما في أوروبا خلال القرن الثامن عشر هبت الشعوب باسم العقل والحرية. في هذه الفترة كانت كنيسة البابا بيوس السادس (Pie VI) بابا الكنيسة الكاثوليكية تتصرف كقوة مضادة للثورة، فقد عارض هذا البابا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي إنشاء دستور مدني لرجال الدين (الإكليروس) وفي نزع ممتلكات الكنيسة، لكن تيار العلمانية كان في تصاعد مستمر، وقام الثوار بتطوير أفكار ومفاهيم لا دينية ذات بعد كوني، وللتأكد من ذلك يكفي قراءة المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1789 : ” يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق.” ولكن للأسف فمدبجو هذا ” الإعلان الإنساني العالمي” أغفلوا النساء وتناسوا أن العبد الأسود هو إنسان أيضا، وهذا ما ستقوم بتذكيره انتفاضة العبيد في سانت دومينيك سنة 1790. فكونية وشمولية حقوق الإنسان اختفت حتى من النصوص مع قنصلية بونابرت.. يجب انتظار 1946 حتى يتم إدماجها في ديباجة الدستور الفرنسي وحتى تدرج سنة 1948 في إعلان الأمم المتحدة.
ما هي النماذج التي استندت إليها هذه الثورات ؟؟
Annie Jourdan : هناك أولا العالم القديم فيما يخص الأفكار حول الجمهورية والوطنية، بالإضافة إلى رمزية، الحرية، المساواة، العدالة.. ولتجسيد هذه الشعارات والأفكار، استند الفنانون على كتيب “سيزار ريبا ” Cesare Ripa وهو كتيب صادر في القرن السادس عشر يضم صورا مزخرفة للقديسين وإيقونات.. امتد تأثيره إلى كامل أوروبا، فالنحات الفرنسي Augustin Dupré استلهمه لتلبية طلب بنجامين فرانكلين Benjamin Franklin (من أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية) بنحت نصب ” الحرية الأمريكية ” ذي الوجه الأنثوي. ولإبراز الجمهورية، أخذ الفرنسيون فكرة الوجه الأنثوي، بإضافة اعتمارها قبعة الحرية التي ارتداها العبيد المحررون في روما القديمة. النموذج الأخر هو الثورة الانجليزية الأولى. فالفرنسيون عندما ألغوا الملكية كان في أذهانهم Oliver Cromwell قائد الثورة الانجليزية. لويس السادس عشر نفسه كان خائفا أن يكون مصيره كمصير شارل الأول مقطوع الرأس.. وخلال القرن الثامن عشر، تم إنشاء شبكة من العلاقات تربط بين هذه الثورات، ولإضعاف انجلترا، وقع ملك فرنسا اتفاقيات تحالف مع الثوار، وفي سنة 1778 كان مسموحا لمتطوعين فرنسيين مساندة الوطنيين الأمريكيين؛ الماركيز دو لا فاييت La Fayette نفسه شارك في حرب الاستقلال هذه.. بعدها، في عام 1785، تحالف الملك مع ثوار الأقاليم المتحدة (حاليا الأراضي المنخفضة) ، ومن جانب أخر كان الدبلوماسيون الأمريكان يقومون بزيارات إلى العواصم الأوروبية، بل قاموا بترجمة وتوزيع دستورهم بفرنسا بدون أية رقابة. أما بالنسبة لمسلحي الثورة الفرنسيون، فقد قاموا ببث أفكار 1789 لمساعدة ثوار بلجيكا، ألمانيا، إيطاليا وسويسرا.
ما هي منجزات هذه الثورات وماذا تركت ؟؟
Annie Jourdan : قبل الثورات، كل البلدان الأوروبية، ما عدا إنجلترا، كانت تخضع للقانون الكنسي، وللقانون العرفي وللقانون الروماني.. وقد تم التخلي عن كل هذا تدريجيا. في فرنسا أعطت لنا ميلاد القانون الجنائي (أو قانون العقوبات) والقانون المدني: كل القوانين أصبحت مكتوبة ومتاحة للجميع، وتطبق على قدم المساواة في كل أنحاء البلاد، وهذا ما يسمح بالقضاء على الظلم والتعسف، أما التعذيب فقد تم إلغاؤه. ومن أهم ما تركته لنا الثورات أيضا، أن الناس الذين كانوا رعايا ومجرد ” مواضيع ” للملوك، أصبحوا مواطنين كاملي المواطنة والحقوق.. هذه وغيرها كلها منجزات وثمار الثورات..