الصين.. التنين الاقتصادي القادم
◆ لحسن خطار
إن التحولات التي يعرفها التنين الصيني، ورهانات هذا البلد قبل وأثناء وبعد وباء كورونا؛ وكذا الأسئلة العميقة حول ما إذا كانت الصين فعلا نموذجا للنظام الاقتصادي الاشتراكي؛ تفرض نوعا من الإضاءة وتفكيك الجوانب المحيطة بالموضوع؛ والانتباه إلى أن من ينتظر انهيار الرأسمالية متأثرة فقط بأزماتها الداخلية، بما فيها الأزمة التي اعترضتها مع الاجتياح الكاسح لفيروس كورونا للبلدان الرأسمالية، والضعف الذي أبانت عليه تجاه هذا الوباء؛ فهو واهم؛ فعلا قد تتأزم الأمور أكثر، قد تضعف الآلة الرأسمالية، ولكن الأكيد أنها ستعيد حساباتها وتجدد تطوير أساليبها للاستغلال والفتك بالشعوب..، وهي نفس الخلاصة بالنسبة لمن يعتقد أيضا أن الاشتراكية ستعرف نهوضا كاسحا على أنقاض الرأسمالية ببساطة ميكانيكية، فهو واهم؛ وذلك نظرا لتغييب أهم عنصر في هذه المعادلة، ألا وهو ضرورة تأجيج الصراع الطبقي والعمل على قلب موازين القوى لصالح قوى التحرير والتقدم، في صراع مرير وطويل الأمد، في أفق وضع أسس بناء مجتمعات متحررة ديمقراطية واشتراكية…
إن تركيب هاته المقاربات، سيقودنا إلى إطلالة سريعة على تجربة الصين الشعبية أين هي من كل هذا؟ وهل يمكن اعتبار الصين بلدا اشتراكيا؟
أي وصف يمكن أن نصف به الاقتصاد الصيني؟ هل هو اقتصاد اشتراكي؛ أم اقتصاد رأسمالي تقدمي حسب تعبير جوزيف استيغليتز؛ أم هو اشتراكي ليبرالي، أم اقتصاد متنوع ينهل من هذه الأشكال كلها في تفاعل تناغمي؟
دولة الصين الحالية هي نتاج تحولات وتطورات فرضتها التقلبات التي شهدها العالم خلال النصف الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين؛ وهي بالأساس نتاج ثورة عظيمة قادها أحد كبار القادة السياسيين الذين تشبعوا بالفكر الاشتراكي العلمي، وعملوا على إغنائه خاصة بما جاء في الكتاب الأحمر وهو أشهر كتبه؛ حتى استطاع أن يرسم خطا له في هذا السياق وهو ما بات يعرف بالماوية؛ إنه القائد والمفكر والفيلسوف والشاعر.. ماو تسي تونغ؛ والذي قاد إحدى أكبر الثورات التي عرفها القرن العشرين (أكتوبر 1949)، في بلد متخلف آنذاك يعتمد غالبية سكانه على الزراعات البسيطة؛ بلد يئن تحت وطأة الفقر والجهل والقهر؛ وقد استطاع هذا الزعيم بعبقريته الخارقة أن يصنع من الصين، وبثورة الفلاحين دولة موحدة ومنظمة ومتحررة، متحديا كل العقبات والصعاب، بما فيها حروب شرسة مع العديد من الدول المتربصة بهذا المولود الفتي فخرج منها منتصرا؛ وبهذا يكون قد وضع الأسس الأولى لدولة اشتراكية عظمى، وأصبحت إحدى القوى العالمية المؤثرة في السياسة الدولية ورقما أساسيا في التوازنات العالمية.
ولابد هنا من التذكير بأننا كحركة اتحادية أصيلة، كثيرا ما أشدنا بهذه التجربة الرائدة، واستشهدنا بها في أدبياتنا وخطاباتنا، ولكن دون التماهي التام معها، شأنها شأن باقي التجارب الاشتراكية في دول المعسكر الاشتراكي أو غيرها، فبقدر ما كنا معتزين بها ومدافعين عنها كنا أيضا ننتقدها وتعتبر أنها ليست التطبيق الأمثل للنظرية الاشتراكية العلمية، وهي مسألة صحية خاصة أن هذا الأمر وغيره من الإشكالات كان موضع خلاف ونقاش حاد؛ خاصة حول الثورة البورجوازية، وهل يجب إعطاء هاته الأخيرة الفرصة لجني ثمارها، أم من الضرورة حرق المراحل.. وليس من الضروري انتظار تشكل الطبقة العاملة؛ وأي دور لهذه الأخيرة في النظام الذي تم ارساؤه بعد أكتوبر 1917؛ ومسألة الديمقراطية وقضايا خلافية متعددة كانت موضوع جدل بين أعتى المنظرين الاشتراكيين، وبالأساس بين لينين وروزا لوكسمبورغ من جهة وبين لينين و بليخانوف من جهة أخرى؛ لكننا لا ننكر تأثرنا الكبير على المستوى الفكري والمعنوي بما حصل ويحصل في هذه التجارب.
بعد وفاة ماو استمرت الصين؛ رغم بعض الشنآن الداخلي من حين لآخر؛ في تطوير وتجديد تجربتها تماشيا مع متقلبات العصر، وغير متماهية بشكل كامل مع تجربة المعسكر الاشتراكي، ومقاِومةً لحصار الغرب الإمبريالي عليها ودسائسه، والتي استعمل فيها كل الوسائل الخبيثة، خاصة تركيزه على عدم احترام الصين لحقوق الإنسان، وبالأساس السياسية والمدنية، مستغلا في ذلك آلته الإعلامية الخطيرة والمتخصصة في قلب الحقائق وتأليب الرأي العام الدولي.
إلا أنه مع فشل سياسة البريسترويكا التي أتى بها غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي (1985_ 1991)، وانهيار المعسكر الشرقي قبل نهاية مرحلة هذه الخطة؛ وتحطيم جدار برلين 1989؛ تسارعت الأحداث واشتد الخناق على الدول الاشتراكية، وبالأساس على الصين وكوبا (بعد تفتيت يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا أيضا). فإن كانت كوبا قد اختارت التحدي والصمود ومقاومة الحصار؛ فإن الصين قد لجأت إلى أسلوب آخر؛ وهو الذي أوصلها إلى ما هي عليه الآن؛ انتقدناها حينها وقد نستمر في انتقادها، ولكن يبقى خيارا يتحمل الحزب الشيوعي الصيني المسؤولية في مدى نجاعته وعدم خروجه على الخط الذي رسمه ماو ورفاقه في البداية.
فقد نهجت أسلوبا مغايرا لم نكن نتوقعه؛ أسلوب الانفتاح على الغرب، حيث فتحت أسواقها على مصراعيها للمنتجات الغربية وللشركات الكبرى للاستثمار داخل الصين، حيث تهافتت هذه الأخيرة على أكبر سوق بتعداد سكاني قارب المليار ونصف نسمة؛ ولكن بطبيعة الحال وفق شروط تجعل الأمور محمية من أي انفلات تتوخاه الرأسمالية الغربية؛ فجل الاستثمارات الكبرى كانت بشراكة مع الدولة أو مع أشخاص وشركات محلية مكلفة بهذه المهمة؛ وفي ظرف قياسي استطاع الاقتصاد الصيني أن يقفز قفزة نوعية ويحقق نجاحات باهرة في مجالات عدة، وغزت السلع الصينية الأسواق العالمية، وأصبحت تنافس الغرب في عقر داره وتشدد عليه الخناق في المناطق التي كان يعتبرها حكرا عليه؛ وبزغ نجم الصين على مستوى التجارة الدولية، وتفوقت على غريمها الغربي في حقول عدة، خاصة مجال التكنولوجيات الحديثة؛ وحصنت وضعها الداخلي بسلطة مركزية بيد الحزب الشيوعي وبتكوين أطر عليا وكفؤة في كل المجالات؛ مما جعل الغرب يتضايق وخاصة أمريكا من هذا المنافس غير المنتظر وغير المرغوب فيه؛ لتبدأ المناوشات ومحاولات كبح جماحه بكل الوسائل الممكنة؛ إلا أن الصين استطاعت بفطنتها ويقظة شعبها وقيادته أن تواجه كل العراقيل وان تتخطى الصعاب، بل وضعت خطة اقتصادية ومالية للهجوم، مكنتها من تأزيم الغرب الإمبريالي، وتتسبب له في أزمة مالية خانقة كادت أن تعصف باقتصاداته (الأزمة المالية ل 2008)؛ وهكذا استمر الجذب والإجراءات والإجراءات المضادة، ودخلت مع أمريكا في متاهات لا حد لها، خصوصا مع مجيء المعتوه ترامب إلى أن جاءت كورونا؛ حيث ساد الاعتقاد أن الصين ستنهار، وبرزت نظرية المؤامرة، وبأن الفيروس من صنع أمريكا لتدمير الصين؛ لكن سرعان ما انقلبت الأمور رأسا على عقب وأصبحت الشكوك معكوسة؛ لنصبح أمام واقع غير متوقع من قبل، وهو وقوف الاقتصاد الغربي على حافة الانهيار مع تضرر اقتصاديات دول الجنوب، وصمود عالٍ إلى حد الآن لاقتصادات الصين وكوبا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها رغم اختلاف مرجعياتها..
خلاصة القول تمثل في مستويين :
1) النظام الاقتصادي الذي نهجته الصين لمواجهة المد الإمبريالي، ليس بالضرورة نظاما اشتراكيا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا رأسمالية دولة كما يقال؛ بل هو خليط يعتمد الشراكة بين القطاع العام والخاص، ولكن دون أي تفريط، لأنه على المستوى السياسي هناك حارس أمين في ضبط كل الإيقاعات الاقتصادية والتجارية والمالية، ألا وهو الحزب الشيوعي الصيني؛ وبالتالي يمكن القول أنه مزيج من الاشتراكية والليبرالية المحدودة، فرضته المرحلة ومتحكَّمٌ فيه، وقد يتم تغييره في أي لحظة.
2) الصين ليس في مصلحتها الاقتصادية حاليا أن ينهار الاقتصاد الغربي بشكل نهائي، بل يهمها أن يصبح أضعف مما هو عليه الآن، لأنه سيكون سوقا واسعة لترويج منتجاتها والتحكم فيها، وتوسيع استثماراتها إلى البلدان التي كان هذا الغرب يتحكم فيها وينهب خيراتها الطبيعية ويستفيد من كفاءاتها البشرية و يستغل يدها العاملة.
نهاية لابد من الإشارة إلى أن الصراع مستقبلا سيحتد بين قوتين كبيرتين الصين وأمريكا في تراجع كبير للاتحاد الأوربي؛ حول الذكاء الاصطناعي L’intelligence artificielle، الأمر الذي سيجلب مآسي بيئية واجتماعية وإنسانية أكثر بشاعة، حيث سيصبح الإنسان مكملا فقط للآلة، مما سيرفع من حدة البطالة وبطالة حاملي الشواهد العليا بشكل أكبر؛ بما فيهم خريجو أروبا لأن التكوينات الحالية لا تتناسب مع ما يشتغل عليه هذان البلدان من جنون تكنولوجي.