اسبينوزا.. الحرية في الدين والسياسة
◆ محسن الودواري
إن المنطلق الأساسي لاسبينوزا هو إعطاء مكانة هامة للعقل، في تأطير الإيمان أولا، أو ما يمكن أن نسميه بعقلنة الإيمان، وإفراغه من كل النزوعات الخرافية الساذجة، ثانيا جعل العقل أساس كل التشريع السياسي، وبالتالي تبوأه مكانة مهمة في كل التشريعات المتعلقة بالنظام السياسي، وإفساح المجال لحرية الفكر في السياسة والاجتماع، لأن سلامة الدولة مرتبطة أساسا بحرية الفكر، وليس العكس، فغياب العقل في فهم الظواهر، وتغطيتها بالطابع السحري، أو ما يمكن أن نسميه بروحنة الطبيعة يجعل تفكير الأفراد تفكيرا انفعاليا تسود فيه الأهواء على العقل، وبالتالي يدنو مستوى الفرد المعرفي إلى معرفة قائمة على الانفعالات والعواطف، وعلى رأس هذه الانفعالات الخوف والرجاء، بحيث يتذبذب الشعور الديني بينهما و بين الرهبة والرغبة، ويصير الإنسان أسير التفسيرات القائمة على الثنائية الميتافيزيقية، ثنائية الخير والشر، لعجزه عن فهم الطبيعة والتأثير فيها عقليا، ومنه يعمل على استدعاء الأرواح، أو طلب العون المباشر، أو الصلاة لدرء الكوارث كالجفاف، والزلازل والفيضانات والأوبئة. فهذه الأفعال تعبر على أن الإنسان صار عقله غير مستوعبا لقوانين الطبيعة لكي يسيطر عليها ويتوقع مآلاتها من خلال العقل، والخوف أيضا غير مرتبط فقط بالخرافة أو العجز، بل ينشأ عن نقص في الشجاعة، ويكون التأليه نتيجة هذا النقص، بحيث يلجأ المتدين إلى قوة مفارقة خارجة عن الطبيعة لكي تمده بالقوة والشجاعة والعزيمة، لأنه يفتقدها، نظرا لكونه لا يفهم أسباب الظواهر الطبيعية المطبوعة بالنسبة إليه بأرواح خفية، وبالتالي تضعف إرادته أمامها لكي يواجهها.
وبالتالي فالخرافة والعجز والوهم، هي من أسباب الوقوع في التقديس، أي تقديس موجود متعال خارج الطبيعة، يتدخل فيها كما يشاء، أي كما يفعل الحاكم المطلق أو الملك الذي يخضع للأهواء والانفعالات، وهنا نلاحظ كيف ربط اسبينوزا غياب العقل في فهم الطبيعة، وأبعادها الاجتماعية والسياسية والدينية، بحيث أن غياب العقل تجعل الإنسان يقع في الخرافة، ومنه في الاستبداد السياسي، وسوء العدالة الاجتماعية، وغياب الحرية الفكرية، ولذلك فاعتبار المقدس خارج العالم عجز عن إدراكه داخل العالم، خاصة إذا أصبح المقدس أمرا مرادفا للسر، أو هو الوقوع في الوثنية المجردة أو الوثنية الحسية.
وإذا كان الدين كموقف غير طبيعي، أي كموقف غير مبني على فهم أسباب الأشياء، فإن التدين المرتبط به قائم على مجموعة من الخزعبلات التي يظنها المتدينون تعاليم إلهية كما هو الأمر بالنسبة للمتصوفة، وهو على خلاف تدين النور الفطري، الذي يعتبره المتدين مصدرا للإلحاد وللبدع، فإلحاد الفلاسفة الذين يعتمدون على النور الفطري هو الإيمان الصحيح، وإيمان المتدينين القائم على الأوهام والخرافات الوثنية الحسية هو الإلحاد الصحيح.
المنطلق الثاني متعلق بالعلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، إذ يشير مفهوم السلطة هنا إلى القوة التي تمارسها الطبقة الإكليروسية من خلال الوهم الذي تخلقه لدى للجمهور، وما يتبعه من علاقات اجتماعية وسياسية، بحيث تعمل على منع استعمال العقل (حرية الرأي) في المجتمع والدين والسياسة، وبالتالي تكرس للاستبداد السياسي والنزوع نحو النظام السلطوي، في تواطؤها مع الطبقة السياسية. ولهذا يعتبر اسبينوزا حرية الرأي ضرورية للإيمان الصحيح، وضرورية أيضا للسلام الداخلي في الدولة، لأن حرية الرأي هي ركيزة الرأي العمومي، وفي هذا الصدد إذا قضي على حرية الفكر قضي أيضا على الرأي العمومي الذي يعمل على المراقبة والمحاسبة والتوبيخ، لأنه هو الراصد لكل ما يحدث في الدولة خاصة في الأمور الداخلية، وبالتالي تصير الدولة بلا ركيزة داخلية، أي بلا رأي عام، يفعل الحاكم ما يشاء، ومنه ستنشأ الجماعات السرية المناهضة للحكم، فيقضى على أمن الدولة، ولهذا يجب على السلطات السياسية ألا تتدخل في الحريات الفردية لأن هذه الحريات هي حق طبيعي للفرد، وكل فرد حر بطبيعته، وهو ضامن لحريته، لأنه مسؤول عن نفسه. وتنشأ الفتن عندما تتدخل الدولة بقوانينها في الأمور النظرية أي الأمور المرتبطة بحرية الفكر والاعتقاد، ولذلك يجب عليها أن تنأى عن هذه الأمور، وتضع قانونا يستطيع من خلاله كل مواطن أن يعبد الإله الذي يشاء كما يشاء، وأن يتصوره كما يريد، ويعبر عن معتقده كما يريد، ومنه لا يحق للدولة أن تتدخل في حرية الفكر أو في الرقابة عليه، بل يجب أن تكون حرية الفكر والاعتقاد مكفولة للمواطنين جميعا، وتكون الدولة هي الراعية لهذه الحرية، بمعنى آخر أن تحوز الدولة مشروعية حرية الفكر والاعتقاد، ولا تكون في يد أي جماعة مهما كانت، كما لا ينبغي لها أن تكون دولة طائفية تنتسب لدين معين، بل دولة علمانية تكفل حرية الرأي للجميع، لأنها ضرورية للمجتمع والدولة ويعتبر اسبينوزا أن القضاء على حرية الفكر هو قضاء على الدولة، خصوصا وأن القانون الإلهي يمنح الحرية للجميع، ( مثلا من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، لقد تبين الرشد من اللغو).