الطبقات الشعبية بين مطرقة كورونا وسندان الأزمة الاجتماعية
◆ رشيد الإدريسي
لقد كشفت الأزمة الصحية بسبب وباء كورونا حقيقة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعرت حجم الفقر والهشاشة الاجتماعية بالبلاد، إذ أن 45 بالمائة من المغاربة يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد، أي الحرمان من المعيشة اليومية والتعليم والصحة، وذلك حسب آخر تقرير للأمم المتحدة صدر في الصيف الماضي، والبطالة توسعت قاعدتها بشكل كبير لتمس الشباب والنساء وأصحاب الشهادات العليا، وهي مرشحة للمزيد بسبب تداعيات الأزمة الصحية، كما تعمقت حدة الفوارق الاجتماعية لا من حيث الدخل ولا من حيث القدرة المعيشية، إذ تنفق الطبقات الشعبية 85 في المائة من دخلها على الغذاء.
لقد استفحلت هذه الأوضاع بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة وارتفاع الأسعار، وتصفية صندوق المقاصة وتجميد الأجور، ونهج سياسات اجتماعية واقتصادية ليبرالية متوحشة، محكومة بتنفيذ توصيات وتعليمات المؤسسات المالية الإمبريالية، والتي فرضت على المغرب منذ الثمانينات، في ظل نظام سياسي مخزني عتيق، مع انتهاج سياسة قائمة على تقليص النفقات الاجتماعية وإعطاء الأولوية للتوازنات المالية، على حساب حاجيات ومصالح الأغلبية الشعبية، في المقابل توسعت قاعدة البورجوازية من خلال سياسة الخوصصة واقتصاد الريع والامتيازات والإعفاءات الضريبية، تحت يافطة عدد من الشعارات الديماغوجية، من قبيل تشجيع القطاع الخاص المتحرر من القيود في إطار اقتصاد السوق، وما شجع تغول هذا النهج الرأسمالي الريعي، هو تنامي التوجهات المتطرفة لليبرالية في العالم، وانعكاس ذلك على المغرب الدي سعى للاندماج في بنية الاقتصاد العالمي، من موقع التبعية والخضوع للمراكز الإمبريالية، والتي أصبحت تتحكم في كل مفاصل حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية مما يهدد سيادتنا.
هشاشة الشغل وحرمان العمال من أبسط الحقوق
لقد عرت هذه الأزمة واقع الشغل بالمغرب، والذي كان سائدا حتى قبل كورونا، وكذا الانعكاس السلبي للسياسة الليبرالية المتوحشة على أوضاع الشغل، من حيث تنامي التسريحات وطرد العمال، في عدد من القطاعات تحت مبررات الأزمة والمرونة، وتحميل العمال تبعات الأزمة، إما بالتقليل من ساعات العمل الذي يستتبعه التقليص من الأجور، وكذلك التجاء الباطرونا إلى العقود المؤقتة التي تستمر لسنوات في ضرب سافر لكل القوانين، ،ناهيك عن عدم تمتيع العمال بحقوقهم الاجتماعية، ومصادرة حقهم في العمل النقابي، من خلال طرد النقابيين وترهيب العمال والسعي إلى تصفية العمل النقابي، ضمن استراتيجية الرأسمالية الساعية الى القضاء على أي شكل من المقاومة، لتسهيل تمرير مشاريعها للقضاء على جميع المكتسبات، سواء ما يخص التقاعد والضمانات الاجتماعية، وذاك في ظل تواطئ مكشوف للعديد من المسؤولين، والذين نهجوا سياسة تشجيع الاستثمار بشكل فج، وإطلاق يد الرأسمال المحلي والعالمي لاستغلال اليد العاملة الرخيصة بشكل بشع، وجعل الطبقة العاملة مقيدة بالأغلال والقيود، وهو ما أصبح بارزا في أكثر من مقاولة ومؤسسة إنتاجية.
ولقد انكشف ذلك مباشرة بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية، حيث قامت عدد من المقاولات بتسريح آلاف العمال، كما كشفت عملية الدعم الاجتماعي الذي باشرها صندوق الدعم الخاص بوباء كورونا، حرمان الآلاف من العمال من الاستفادة من تعويض الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، بسبب عدم تسجيلهم في الصندوق من طرف عدد كبير من المقاولات، فحسب إحصاءات وزارة الشغل فحوالي 700 ألف عامل غير مصرح به، وقد تملصت العديد من المقاولات من تأدية أجور العمال لشهر مارس الماضي، ودفعت بهم للصندوق، ولم تتحمل أي مجهود أو مسؤولية اجتماعية للعمال، وهي التي راكمت الأرباح تِلوَ الأرباح، مع العلم أن دعم الصندوق بمبلغ 2000 درهم غير كاف لمواجهة تكاليف المعيشة المتنوعة، وقد سجلنا تلاعب البعض بأجور المستخدمين، كما هو حال أصحاب مؤسسات التعليم الخاص، ويتضح أن تداعيات الأزمة ما بعد كورونا ستكون كارثية على أوضاع الطبقة العاملة والمأجورين، فبالإضافة إلى فقدان مئات الآلاف من مناصب الشغل، ستحاول الرأسمالية المحلية تحميل تبعات الأزمة للعمال، لا من حيث الأجور أو الحقوق الاجتماعية أو استقرار الشغل، وستجد الليبرالية المتوحشة كما كانت تفعل من قبل، كل الطرق والوسائل للتحايل على القانون ومواصلة سياسة الاستغلال البشع للعمال ومراكمة الأرباح على حساب المأجورين.
كورونا وأزمة القطاع الصحي
أما القطاع الصحي، فبعد أن حلت أزمة كورونا، فقد انكشفت اختلالاته العميقة في البنيات والمؤسسات والإمكانيات المادية والتجهيزات، وتعرى واقع قلة الأطر الصحية، وصعوبة الولوج للخدمات الصحية من طرف أغلبية المواطنين، مما جعل العديد من المستشفيات في أزمة خانقة، رغم النداءات والمطالب التي عبرت عنها شغيلة القطاع والأطباء من أجل إنقاذ الخدمات الصحية العمومية، وهو المطلب الحيوي الذي نادت به القوى الديمقراطية، ونتذكر في هذا السياق أن نائبا فيدرالية اليسار الديمقراطي هما الوحيدان اللذان قادا معركة رفع ميزانية القطاع الصحي، أمام انبطاح بقية الأحزاب، حيث ترك المواطنون في مواجهة واقع مأزوم، و أمام قطاع خاص يتحكم فيه منطق تجاري متحرر من أي قيود أو ضوابط، في ظل فوضى وضعف آليات الرقابة والتتبع. لقد أبانت هذه الأزمة على الأهمية الحاسمة لقطاع الصحة، والذي سعت الدولة والرأسمالية إلى خوصصته وتسليعه، والحاجة إلى النهوض بالمستشفى العمومي وإعطائه الأولوية التي يستحقها.
الدعم الاجتماعي والحجر الصحي
لقد أنشأت الدولة صندوق الدعم، لتدبير تداعيات وباء كورونا، من خلال التبرعات والتضامن، والذي لم يكن في المستوى المطلوب خصوصا من طرف الشركات والمقاولات الكبرى التي ظلت تراكم الأرباح وتحصل على الامتيازات والإعفاءات، بل إن بعضها استفاد من الريع والتسهيلات ومن المالية العمومية لسنوات، إن المسؤولية الوطنية تتطلب أن تتحمل هذه القوى النصيب الأوفر من تداعيات الأزمة، بدل تحميلها كل انهيارات الأزمة للمأجورين والطبقات الشعبية.
وبالرغم من إيجابية عدد من التدابير المتخذة، إلا أنها غير كافية ولاتستجيب للحاجيات المعيشية ولمتطلبات الحياة، من تغذية وسكن وصحة.. فالمبالغ هزيلة، ناهيك على تأخرها وعدم استفادة الآلاف منها، وكذا الارتباك الحاصل في استخلاصها..
أما العالم القروي الذي يواجه محنة مزدوجة، من جهة الجفاف بكل أثاره السلبية وفي مقدمتها فقدان أكثر من 100 ألف منصب شغل، وتعميق حالة الطوارئ الصحية للأزمة، والتي أدت إلى توقيف أغلبية الأسواق، وحصول عدد من الاختلالات في تأمين تصريف المنتوجات، ناهيك على غلاء الأعلاف، في ظل ضعف تدخل وزارة الفلاحة في أطار دعم الفلاحين الصغار والمتوسطين لمواجهة أثار الجفاف.
لقد بات واضحا، أنه من الأهمية بمكان وضع خطة واضحة في الميدان الفلاحي، لتأمين الغداء والاكتفاء الذاتي للمغاربة، ومراجعة السياسة الفلاحية الموجهة بالأساس للتصدير وتلبية حاجيات الغرب الرأسمالي، مع الأخذ بعين الاعتبار ما قامت به عدد من الدول، بوقف أو تقليص استيراد المنتوجات الفلاحية من الخارج، حماية لمنتوجهم الوطني وإعطائه الأسبقية في إطار تدابير دعم الفلاحين لديهم.
كورونا والسكن غير اللائق
لقد فرضت تدابير الحجر الصحي على المغاربة البقاء في المنازل لمدة طويلة، ويعاني الملايين من المغاربة وخصوصا في الأحياء الشعبية من تكدس الأسر في منازل صغيرة جداً أو في غرفة واحدة أحيانا، حيث تنعدم فيها كل شروط السكن اللائق، مفتقدة للتهوية ولبعض المرافق الضرورية، أما في فئة السكن الاقتصادي والاجتماعي فمعاناة المواطنين تفاقمت بشكل أكبر في ظل الحجر الصحي، وهو السكن الذي استغلت فيه البورجوازية العقارية وعدد من الأوساط القريبة من مراكز السلطة، الخصاص المهول وأزمة السكن الحادة الذي تعيشها البلاد، لتنتج شققا تفتقر للجودة وللمعايير الأساسية للسكن اللائق، حيث لا مرافق ولا حدائق ولا مساحات خضراء.. مستفيدة من عدد من التسهيلات والامتيازات، لتتضاعف حجم معاناة الفئات الشعبية من ظروف الحجر الصحي، ليصبح السكن غير اللائق بؤرة لتفاقم الحرمان والظلم والتفاوت، وليشكل بيئة ملائمة لكل الظواهر السلبية وفي مقدمتها تقشي المرض والوباء.
كورونا وأولوية التعليم
من دروس أزمة كورونا انكشاف مخاطر التوجه الذي كان يجري التأسيس إليه انسجاما مع توجيهات المؤسسات المالية الامبريالية والمتمثل في رفع اليد على القطاعات الاجتماعية وتسليع خدماتها.
لقد أعادت الأزمة الصحية للأذهان، عدد من التحديات المرتبطة بالقدرات والامكانيات العلمية والصناعية والتكنولوجية لكل بلد، في مواجهة وباء كورونا، خصوصا ما يتعلق بتوفير وصنع الوسائل والتجهيزات والتحاليل الطبية والمختبرات والأدوية والتلقيح، وقد عشنا لحظات من التسابق والمنافسة بين الدول المتقدمة صناعيا وعلميا في مواجهة الفيروس، الشيء الذي أظهر الأهمية الحاسمة للتعليم والعلم والمعرفة، وأن التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي مدخله العلم والبحث العلمي ومجتمع المعرفة والتكنولوجيا، مما يجعل من قضية التعليم ليس فقط رهانا حاسما لكسب معركة التقدم، بل يشكل أكبر تحدي للتحرر من أشكال التخلف الاجتماعي والاقتصادي والفكري ومدخلا أساسيا للتقدم.
أن تجربة التعليم عن بعد، على الرغم من الانتقادات الموجهة إليها، إلا أنها أظهرت الحاجة الماسة لتحديث وعصرنة التعليم والنهوض بأوضاعه على جميع المستويات.
إن مجمل هذه الأوضاع قد ظلت في صلب اهتمام القوى الديمقراطية واليسارية طيلة السنين الأخيرة، وأفرزت العديد من الحركات الاحتجاجية والانتفاضات في عدد من المناطق، والتي ووجهت دائما بالقمع والمقاربة الأمنية والمتابعات القضائية كوسيلة للردع، لإسكات كل الأصوات الرافضة لاختيارات تخدم بالأساس مصالح أقلية رأسمالية تستحوذ على ثروات البلاد، إن القوى الديمقراطية واليسارية مطروح عليها، وباستعجال، بلورة استراتيجية نضالية وبرنامجا شاملا للتغيير الديمقراطي وبناء مغرب جديد.