التعليم عن بعد واللامساواة
◆ محمد تيكونسى
واجه المغرب، ومعه العالم، وضعا استثنائيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، في سياق مواجهة الانتشار السريع لجائحة فيروس كورونا المستجد كوفيد 2019، وفرض على البلاد حالة الطوارئ الصحية، وتوقفت مجمل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها منذ 20 مارس 2020، وقبل ذلك توقفت الدراسة في مختلف المؤسسات التعليمية والتكوينية والجامعية العمومية والخصوصية بكل التراب الوطني منذ 16 مارس2020. وبسبب ذلك، اعتبرت وزارة التربية الوطنية أن توقيف الدراسة الحضورية لا يعني بأي شكل من الأشكال إقرار “عطلة استثنائية” ودعت المتعلمات والمتعلمين إلى ملازمة بيوتهم والاستمرار في الدراسة عبر ما سمي بخطة “الاستمرارية البيداغوجية” و” التعليم عن بعد”.
يشير مفهوم الاستمرارية البيداغوجية إلى إبقاء نوع من الاتصال المستمر ما بين المتعلمين والمؤسسة التعليمية، خلال فترات تعذر قيام هذا الاتصال بشكل يومي ومباشر، بما يهدف إليه هذا الاتصال من خلق حالة من التركيز الذهني والتحفيز الوجداني لإبقاء المتعلمين في حالة ارتباط مع المعارف والمهارات المرتبطة بالمنهاج الدراسي، عبر إنجاز أنشطة مرتبطة بالتعلمات السابقة، وأنشطة للدعم و”المراجعة ” وغيرها. في حين يشير مفهوم التعليم عن بعد إلى ذلك النوع من التعليم القائم على فكرة عدم تواجد المتعلم والأستاذ في نفس المكان. وهو ما يفصل عمليا بين لحظتي التعليم والتعلم التي طالما اقترنتا في سياق التعليم الحضوري. فضلا عن ذلك يفترض التعليم عن بعد نزع الطابع الاجتماعي عن فعل التعلم، طالما أن المتعلمين المستهدفين به لا يتواجدون في نفس المكان لحظة التعلم.
اعتمدت وزارة التربية الوطنية، أسلوب التعليم عن بعد ليس فقط ل”مراجعة” ما تم تقديمه سابقا، وإنما لإنهاء البرنامج الدراسي عبر تقديم دروس جديدة، وهو ما يقتضي بناء معارف ومفاهيم جديدة باعتماد عدة وسائط، منها القنوات التلفزية، والبرامج الرقمية، وتطبيقات التواصل الاجتماعي.. وهو ما شكل تهديدا حقيقيا لمفاهيم المساواة والإنصاف والجودة في التعليم. فالكثير من المتعلمين يشعرون بالعزلة وعدم الرغبة وضعف الدافعية لتتبع “حصص دراسية” لا تختلف في بنائها الديداكتيكي وفي أساليبها تنشيطها عن حصص مصورة للتعليم الحضوري، منزوع عنها الطابع الاجتماعي للتعلم، والتفاعل بين المتعلمين فيما بينهم، وبينهم وبين أستاذهم من جهة ثانية. وبصرف النظر عن الاجتهادات الكثيرة لنساء ورجال التعليم وانخراطهم الإيجابي في كل المبادرات الرامية إلى تخفيف وطأة توقف الدراسة الحضورية، فإنه يمكن القول إن النظام التعليمي لم يكن مستعدا كفاية لمواجهة هذا النوع من الوضعيات التي اقتضت التوقف النهائي للدروس الحضورية، سواء من حيث بناء المناهج والبرامج، ومن حيث تأهيل المؤسسات التعليمية وتكوين الأطر التربوية على بناء وتنفيذ وضعيات تعليمية للتعليم عن بعد، ومن حيث استئناس الأساتذة والتلاميذ بالأدوات التكنولوجية الرقمية.
لذلك يمكن القول إن تجربة التعليم عن بعد قد أظهرت وأبرزت العديد من مظاهر اللامساواة الكامنة في التعليم “الحضوري”. فإذا كانت العديد من الأصوات تعتبر الواجبات المنزلية مدعاة للامساواة بين المتعلمين في الظروف العادية، نظرا للفوارق الاجتماعية والثقافية بين الأسر( المستوى الاجتماعي والتعليمي للأمهات والآباء، والإمكانيات الاقتصادية للأسر..)، فإنها برزت بشكل أوضح خلال فترة الحجر الصحي بين متعلمين يجدون الدعم والمساندة “وربما التدريس نفسه” من طرف ابائهم، وآخرين لا يمكنهم الاستفادة من ذلك. كما أن الأوضاع الاقتصادية للأسر أثرت بشكل مباشر على تفاقم مظاهر اللامساواة بين المتعلمين، فليس لكل طفل غرفة خاصة أو تلفاز أو حاسوب او هاتف شخصي بالنظر لمساحات أغلب البيوت المغربية والإمكانيات المادية للأسر، كما أن التكلفة المادية للارتباط بالانترنت ليست متاحة للجميع. هذا فضلا عن تعقد الولوج للتكنولوجيا الرقمية لغالبية الأطفال الفقراء في مقابل استئناس القليل من أبناء الأغنياء بهذه التقنيات قبل زمن كورونا. كما يشكل المستوى الجغرافي مجالا آخر لتفاقم اللامساواة، فجل تلاميذ القرى لم يستفيدوا من الإمكانيات المتاحة على ضعفها وقلتها.. ويمكن الاستمرار في تعداد أوجه اللامساواة التي فاقمها التعليم عن بعد، خاصة بعد القيام بتقديم ما تبقى من المقرر الدراسي لهذه السنة، ولذلك فإن مظاهر اللامساواة واللاعدالة في التعليم، ومظاهر إعادة الإنتاج، قد ظهرت بشكل أوضح خلال فترة الحجر الصحي هذه..
واعتبارا لما سبق، لم يكن ممكنا الاعتداد بما تم تقديمه من دروس خلال فترة التعليم عن بعد، في تقييم مستوى المتعلمين، نظرا للوعي الذي تشكل لدى الجميع بمحدودية أثر هذا النوع من التعليم، خاصة في ظل الشروط الراهنة، وعدم تأهيل المنظومة التعليمية لمثل هذه التحديات. ولذلك اعتمدت الوزارة في تقييمات نهاية السنة بالنسبة للمستويات المعنية بها، على ما تم تقديمه إلى غاية 14 مارس2020.. ورغم ذلك فإن آثار هذه السنة لن تنمحي بسهولة خلال بداية الموسم المقبل من خلال عمليات الدعم، بل يقتضي الأمر إعادة بناء المفاهيم والمعارف التي لم يتم تقديمها خلال هذه الفترة، خاصة وأن منطق بناء البرنامج الدراسي يعتمد على التعلمات السابقة لبناء معارف جديدة أو تعميق تلك التي تم تقديمها.