التعليم: ذراع الدولة الإيديولوجي

◆ عبدالعاطي اربيعة

كثيرا‭ ‬ما‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬التعليم‭ ‬كقطاع‭ ‬اجتماعي‭ ‬حيوي،‭ ‬يلعب‭ ‬دورا‭ ‬أساسيا‭ ‬في‭ ‬تأهيل‭ ‬المواطنين‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬الشغل،‭ ‬ويعهد‭ ‬إليه‭ ‬برفع‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي،‭ ‬ومحاربة‭ ‬الجهل‭ ‬والأمية،‭ ‬ونعتبره‭ ‬مدخلا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تنوير‭ ‬المجتمع‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إصلاحه،‭ ‬ولا‭ ‬سبر‭ ‬أغوار‭ ‬التقدم‭ ‬إلا‭ ‬بركوب‭ ‬سفينته،‭ ‬لكن‭ ‬قليلا‭ ‬ما‭ ‬أصبحنا‭ ‬نعود‭ ‬لوظيفته‭ ‬الأساسية‭ ‬بالنسبة‭ ‬للدولة‭ ‬كأداة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الطبقة‭ ‬المسيطرة،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬وظيفته‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬كسلاح‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الدولة،‭ ‬تضاف‭ ‬إلى‭ ‬أجهزتها‭ ‬القمعية،‭ ‬والتي‭ ‬تنبني‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬المادية،‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬الظروف‭ ‬السياسية‭ ‬لاستدامة‭ ‬علاقات‭ ‬الإنتاج‭.‬

وإن‭ ‬أصبح‭ ‬أغلب‭ ‬المناضلين‭ ‬يركزون‭ ‬في‭ ‬مواجهتهم‭ ‬لاستبداد‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬أجهزتها‭ ‬القمعية،‭ ‬فإن‭ ‬أجهزتها‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تضمن‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬استمرار‭ ‬علاقات‭ ‬الإنتاج‭ ‬على‭ ‬حالها،‭ ‬وتقود‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬الانعتاق‭ ‬من‭ ‬براثين‭ ‬الاستغلال،‭ ‬فما‭ ‬معنى‭ ‬الإيديولوجية؟‭  ‬وما‭ ‬هي‭ ‬أجهزة‭ ‬الدولة‭ ‬الإيديولوجية؟‭ ‬أين‭ ‬يتموقع‭ ‬التعليم‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها؟‭ ‬وكيف‭ ‬عمل‭ ‬النظام‭ ‬المخزني‭ ‬المغربي‭ ‬على‭ ‬ضرب‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬واستغلال‭ ‬التعليم‭ ‬لمقاومة‭ ‬كل‭ ‬محاولات‭ ‬التغيير؟

“إن‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬هي‭ ‬انعكاس‭ ‬مقلوب‭ ‬للعلاقات‭ ‬المتحققة‭. ‬إنها‭ ‬العالم‭ ‬مقلوب‭ ‬رأسا‭ ‬على‭ ‬عقب‭.‬”‭ – ‬فريدريك‭ ‬إنجلز

إن‭ ‬الانطلاق‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬طرحها‭ ‬إنجلز،‭ ‬منذ‭ ‬أمد‭ ‬طويل،‭ ‬كفيل‭ ‬بتقريبنا‭ ‬من‭ ‬تعريف‭ ‬الإيديولوجية،‭ ‬كمفهوم‭ ‬يرتبط‭ ‬بالبنية‭ ‬الفوقية،‭ ‬فحسب‭ ‬الماركسية،‭ ‬دائما‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬الواقع‭ ‬سابقا‭ ‬للفكر،‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬مجموع‭ ‬العلاقات‭ ‬المتحققة،‭ ‬والتي‭ ‬تنعكس‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬الناس،‭ ‬وتحدد‭ ‬وعيهم،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬زائفا،‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬فهم‭ ‬طبيعة‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬تحركه،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الدولة‭ ‬تتحكم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬السائد‭ ‬وسط‭ ‬المجتمع‭ ‬وتكبح‭ ‬بزوغ‭ ‬أي‭ ‬وعي‭ ‬مناقض‭ ‬لما‭ ‬تبتغيه‭.‬

وتتعدد‭ ‬أسلحة‭ ‬الدولة‭ ‬الإيديولوجية،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬لها‭ ‬هو‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الماركسي‭ ‬لويس‭ ‬ألتوسير‭ ‬في‭ ‬مقالة‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬والأجهزة‭ ‬الإيديولوجية‭ ‬للدولة،‭ ‬والتي‭ ‬حاول‭ ‬فيها‭ ‬تفنيد‭ ‬فكرة‭ ‬حياد‭ ‬التعليم،‭ ‬الذي‭ ‬تستخدمه‭ ‬الدولة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الجهاز‭ ‬الإيديولوجي‭ ‬السياسي،‭ ‬الديني،‭ ‬الإعلامي‭.. ‬للترويج‭ ‬ونشر‭ ‬سياساتها،‭ ‬وضمان‭ ‬استدامة‭ ‬علاقات‭ ‬الإنتاج‭ ‬القائمة‭.‬

فالمدرسة‭ ‬باعتبارها‭ ‬مؤسسة‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬التنشئة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والتي‭ ‬يقضي‭ ‬بها‭ ‬الأطفال‭ ‬ساعات‭ ‬طوال،‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬معملا،‭ ‬يحدد‭ ‬مواصفات‭ ‬مواطن‭ ‬الغد،‭ ‬حيث‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬قيمه‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والسلوكية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬مصدر‭ ‬القيم‭ ‬الرئيسي،‭ ‬قيم‭ ‬النظام‭ ‬الرأسمالي‭ ‬السائد،‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬جهة؛‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬فهي‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تلقينه‭ ‬المكتسبات‭ ‬والمهارات‭ ‬المطلوبة،‭ ‬بما‭ ‬يضمن‭ ‬لها‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬المهارات‭ ‬الحرفية‭ ‬والكفاءات‭ ‬المهنية‭ ‬التي‭ ‬تحتاجها‭ ‬بسوق‭ ‬قوى‭ ‬العمل،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فالجهاز‭ ‬الإيديولوجي‭ ‬التعليمي،‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬غربلة‭ ‬الأفراد‭ ‬وفق‭ ‬طبقاتهم‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬حيث‭ ‬يحدد‭ ‬بصورة‭ ‬نمطية،‭ ‬مهنة‭ ‬كل‭ ‬فئة،‭ ‬فالذين‭ ‬يفشلون‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬مسيرتهم‭ ‬الدراسية‭ ‬يكونون‭ ‬العمال‭ ‬والمعطلين،‭ ‬وغالبا‭ ‬ما‭ ‬يكونون‭ ‬أبناء‭ ‬الطبقة‭ ‬الفقيرة،‭ ‬ثم‭ ‬يليهم‭ ‬صغار‭ ‬الموظفين،‭ ‬ثم‭ ‬أصحاب‭ ‬الرأسمال‭ ‬وهكذا‭… ‬إنه‭ ‬مصفاة‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬العمال‭ ‬عمالا،‭ ‬ومن‭ ‬صغار‭ ‬الموظفين‭ ‬موظفين،‭ ‬ومن‭ ‬أصحاب‭ ‬الرأسمال‭ ‬رأسماليين‭.‬

إن‭ ‬التعليم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬يعتبر‭ ‬من‭ ‬أخطر‭ ‬أجهزة‭ ‬الدولة‭ ‬الإيديولوجية،‭ ‬بل‭ ‬أخطر‭ ‬من‭ ‬أجهزتها‭ ‬القمعية‭ ‬حتى،‭ ‬والنظام‭ ‬المغربي‭ ‬واع‭ ‬بذلك،‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل،‭ ‬فقد‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬ضرب‭ ‬المدرسة‭ ‬العمومية‭ ‬عبر‭ ‬السياسات‭ ‬التعليمية‭ ‬المتعاقبة،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تؤدي‭ ‬دائما‭ ‬إلى‭ ‬عكس‭ ‬الأهداف‭ ‬المعلنة‭ ‬قبل‭ ‬تنزيلها،‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬التعليمية‭ ‬الفاشلة‭ ‬أو‭ ‬المفشلة،‭ ‬والتي‭ ‬تعاقبت‭ ‬عليها‭ ‬عدة‭ ‬لجان‭ ‬ومخططات‭ ‬زادت‭ ‬التعليم‭ ‬انحدارا‭.‬

وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬التعليم‭ ‬لطالما‭ ‬اعتبر‭ ‬قطاعا‭ ‬سياديا،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬الميزانيات‭ ‬الضخمة‭ ‬التي‭ ‬رصدت‭ ‬لهذه‭ ‬السياسات‭ ‬التعليمية‭ ‬المتبعة،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬سميت‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬بالإصلاح،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬مرارا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬فشلها‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬انتهاء‭ ‬المدة‭ ‬المخصصة‭ ‬لها،‭ ‬مع‭ ‬نفقات‭ ‬بالملايير‭ ‬تذهب‭ ‬هباء‭ ‬منثورا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يمتلك‭ ‬عقلا‭ ‬نقديا‭ ‬يتساءل،‭ ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬كانت‭ ‬تفشل‭ ‬فعلا؟‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬كذلك،‭ ‬فلماذا‭ ‬كان‭ ‬الفشل؟‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬تحمل‭ ‬استنكارا‭ ‬بين‭ ‬طياتها،‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬توضيح‭ ‬المغزى‭ ‬منها،‭ ‬فبالنسبة‭ ‬للدولة‭ ‬وباعتبار‭ ‬التعليم‭ ‬كأبرز‭ ‬أذرعها‭ ‬الإيديولوجية،‭ ‬فالنتائج‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصل‭ ‬إليها‭ ‬هذه‭ ‬السياسات‭ ‬هي‭ ‬المبتغى‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها،‭ ‬وبالنسبة‭ ‬لها،‭ ‬فالسياسة‭ ‬التعليمة‭ ‬هي‭ ‬سياسة‭ ‬الفشل،‭ ‬حتى‭ ‬تحارب‭ ‬انبثاق‭ ‬أي‭ ‬فكر‭ ‬نقدي،‭ ‬يطل‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬شقوق‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬المهترئة،‭ ‬كما‭ ‬تطل‭ ‬أولى‭ ‬أشعة‭ ‬الغسق،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهذا‭ ‬الفشل‭ ‬يمكنها‭ ‬من‭ ‬استدامة‭ ‬الوعي‭ ‬الزائف‭ ‬السائد،‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬علاقات‭ ‬الإنتاج‭ ‬السائدة‭.‬

إذن‭ ‬فنحن‭ ‬الحالمون‭ ‬بغد‭ ‬أفضل،‭ ‬وحدنا‭ ‬من‭ ‬نتجرع‭ ‬مرارة‭ ‬هذا‭ ‬الفشل‭ ‬ومعنا‭ ‬عموم‭ ‬الجماهير‭ ‬الشعبية‭ ‬الكادحة،‭ ‬التي‭ ‬تراقب‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬طموح‭ ‬أبنائها‭ ‬في‭ ‬الترقي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬يتبخر‭ ‬بسبب‭ ‬نظام‭ ‬تعليمي‭ ‬طبقي،‭ ‬لا‭ ‬يخدم‭ ‬إلا‭ ‬مصلحة‭ ‬الطبقات‭ ‬الغنية‭ ‬ومن‭ ‬خلفهم‭ ‬جهاز‭ ‬الدولة‭.‬

إن‭ ‬معركة‭ ‬التعليم‭ ‬العمومي،‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬معركة‭ ‬التغيير‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬تخاض‭ ‬بضراوة‭ ‬حادة،‭ ‬حتى‭ ‬ينبعث‭ ‬نور‭ ‬الأمل‭ ‬في‭ ‬الأجيال‭ ‬القادة،‭ ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬تظل‭ ‬صرخة‭ ‬محمد‭ ‬جسوس‭ ‬هي‭ ‬الحقيقة‭ ‬الثابتة‭: “‬إنهم‭ ‬يريدون‭ ‬خلق‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬الضباع‭”.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى