“بياض ساخن” بين جينالوجيا الجنون ومحكي العائلة
◆ إبراهيم الحجري ناقد وروائي من المغرب
تمهيد:
تعغّ موضوعة الجنون من أشد الثيمات إغراء للمحكيات الروائية العربية المعاصرة؛ لما يجد فيه الروائيون من مادة خصبة وطيعة للتعبير عن الوضع الحرج الذي يقف على هاويته الإنسان العربي، تماما على التخوم الفاصلة بين اليقظة والنوم، الحياة والموت، والعقل والجنون. فقد تصاعدت وتيرة الانفلاتات في الواقع، وتعقدت أزمة العقل، واشتدت بالمثقف عواصف الحيرة، إلى درجة أن الموت نفسه لم يعد قادرا عن إيقاف الدراما البشرية، ولم يعد معسّرا وافيا عن تراجيديا البشرية نظرا لما يحفل به المشهد الإنساني من بؤس وجنوح وتدّ٩ٍ، ونكوص للقيم.
ووجدت التيارات والأجيال الجديدة في الرواية العربية نفسها أمام تحغّ كبير في التفاعل مع ما تزخر به المشاهد اليومية المعيشة التي لا يتحملها العقل، فهي أكبر من أن تطاق، خاصة ما يتعرض له مستوى القيم من انقلاب وتحول جذريين، خلخلا العلاقات البشرية، ومستويات الفهم، وحدود الاطمئنان التي كان يستند إليها الفرد في تعامله مع مكونات الحياة والعالم المحيط به، فراح يؤسس له منطلقات وأسس جديدة تساير التحولات الفارقة والرهيبة على مستوى البنيات الفكرية والشعورية، ونسيج الروابط التي تصله بمنظومة الثوابت والمتغيرات التي لا محيد له عنها في عالم متحول؛ بشكل لا يتصور.
وجدت التيارات الروائية الجديدة ملاذها الدلال٢ّ والتداول٢ّ في اقتحام مناطق الصمت في الذات والمنس٢ّ والمكبوت، باعتبارها مواقع قاتمة ورهيبة ومتمنعة على الفهم والقبض، ومنها الجنون، والموت، وما بعدهما. فإذا كانت «الشيزوفرينيا» (la schizophrénie) (أو الفصام)- وهي الاستعارة الكبرى التي نسجت الروائية سهير المصادفة محكيها على أساسه- جوهريا اضطرابا يصيب الأنا، فبحدث خلخلة على مستوى الحدود بين الأنا والعالم الخارجي»، وكان الذي يعاني ويتألم من الشيزوفرينيا ينسحب من جزء من الواقع، مع٠٩ِضا عالما، يكون قد نفاه وفقغَه، بواقع الهذيان والهلوسة، أو كانت الشيزوفرينيا مرضا عقليا، بحيث تتكلم الذات دون أن صُوصل إلى تشييد أي عالم مرجعي، انطلاقا من خطابها.
في هذا السياق، وارتباطا به، في واقع مصري لم يزل يترنح على حافات الاستقرار، بعد عواصف الربيع العربي الذي هز الهياكل، وزعزع البنيات، وحرك البرك الآسنة، ورج المسلمات والثوابت، استندت الروائية سهير المصادفة، فوق العادة، إلى متخيل الجنون، ومحكي الأسرة أو العائلة، للتعبير عن واقع هجاس٢ّ بات ينحت مفاهيمه ومصطلحاته، في النفوس، ويسلط عليها معاوله الزجرية في وقت لم تتهيأ له الأنساق والأسيقة، لما وجدت فيه من طراوة تعبيرية تستوعب الصورة الشائهة التي يود المحكي إبلاغها لمتلقيه، منطلقة من محكي الأسرة أو العائلة، كنسق نوو٢ّ، يختزل الماكرو- مجتمع، ويمثل تفاعلاته الكبرى بشكل حيو٢ّ، وهو في الآن ذاته، الأقرب من العامل- الذات، والأقرب إلى الصّحكم فيه وسط مادة ممتدة ومتراكمة يستحيل على الروائي، مهما كان، القبض عليها إلا على سبيل التمثيل.
- محكيّ عائليّكابوسيّ:
تتخذ الرواية محكي العائلة مادة مطواعة للسرد، وتحريك التفاصيل الدقيقة، لرصد وقع الأحداث الكبرى إبان أحداث الربيع العربي على تكوين الأسرة واستقرارها، وتداعيات الوقائع والتحولات السريعة على نفسيات الشخصيات، والعلاقات القائمة بين الأفراد، وانتقالها من مستوى الانسجام إلى مستوى التناقض والصراع والتطاحن، وأحيانا التصفية، حيث يصير الخال، رجل الأمن، خصما عنيدا لأبناء أخته، وهم ينحازون لاختياراتهم السياسية، وحيث تفقد عبلة صوابها بفعل اكتشاف انتماء أحد أبنائها لجماعة الإخوان المسلمين، وحيث تفكر “لولا” في قتل أختها للتخلص من عار إصابتها بالجنون، وحيث يجد مجدي نفسه؛ مفصولا من عمله بين عشية وضحاها، في لحظة اللا استقرار.
وتبدو الصلات بين أفراد العائلة على غير ما يجب أن تكون عليه، فهي صلات متوترة أصلا، بمحض الوراثة، أو بمحض الصدق البئيسة، ذلك أن لوثة الجنون مترسخة في دمائها الممتدة أبا عن جد، وضاربة بأطنابها على شجرة العائلة.
ويجعل هذا التوتر بين الأفراد بالأعصاب المشدودة؛ كل شيء سيئ ممكن الحدوث بينها، وأقلها القتل، وأكثرها محاولة الانعتاق من هذا التنسيب المذل، والممرغ للكرامة في التراب لنسب ملوث بالعار والجنون، يقول الراوي على لسان إحدى الشخصيات: (خلفة عفاريت يا عبلة، نسل مجانين، بنت أبالسة، انظري إلى عينيها، هما عينا شيطان صغير، بنت فلاح همجي يا عبلة).
يتتبع الراوي أثر لوثة الشيزوفرينيا في عروق شجرة العائلة من خلال عملية التذكر التي تقوم بها الشخوص، مصورا الدراما التي عاشتها العائلة بسبب مرض الجد، والذي يتجدد ليكتب مأساته على الجيل الجديد لـ”لولا” وعبلة ومجدي… يقول السارد على لسان لولا “لا أدري لماذا يصرخ مجدي في وجهي هكذا؟ ولماذا يقولون عن عبلة مجنونة؟ من أين يعرفون أنه هو نفسه ليس مجنونا؟”.
ولم يكتف السارد الذي يتحدث بلسان المؤنث متلبسا قناع ضميري المخاطب والغائب بالتعاقب، كشف حياة عبلة المريضة، ومعاناتها النفسية والجسدية وأثر وتداعيات جنونها على أسرتها، بل تتبعت خيط تاريخ العائلة، لتكشف جوانب من الدراما التي عاشها الجد شوكت الملواني وأسرته. يقول السارد على لسان شخصية لولا دائما: (لا أحول عيني عن عيني مجدي، لماذا يرث مجدي لون عيني أمي الخضراوين بلون الزمرد، بينما ترث أخته الكبرى عبلة جنون أمي المستتر الموروث عن جنون أبيها جدي شوكت الملواني، الذي ما زالوا يتحدثون عن فضائحه في جلسات النميمة، جدي الذي أراد الله ألا يقبض روحه إلا في آخر نوبات جنونه وأطولها وأشرسها على الإطلاق، كأنه لم يرد أن يشفى بعد موت جدتي ناهد ليموت مجنونا أو كأنه كان يعرف أنها انتحرت بسبب مرضه هذا، فأراد أن ينتقم به من نفسه. واستطاع في آخر شهرين فقط من حياته أن يجوب مصر من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها سيرا على قدميه).
2. شخصيات بمصائر ملتبسة:
تناقش الرواية بشكل عميق مسألة تأثير الجينوم الوراثي على مصير الفرد، عن طريق تتبع أغصان شجرة النسب العائلي للشخصيات الرئيسة المنتمين لأسرة واحدة، بحثا عن أصل لوثة الجنون التي أصابت عبلة ولم تصب لولا ومجدي (أو لعلها أصابتهما بشكل من الأشكال غير المرئية)، واقتفاء لآثار وملامح الشفرة الوراثية في سلوكيات وحركات وملامح كل من هاته الشخصيات، عبر تفكيك سير الآباء والأجداد، والتحقيق في أرشيفاتهم، وقد صاروا رميما في بطن الأرض، وأكلتهم ديدانها، فتعود لتعرض بروفايل العمة فاطمة، وزوجها سيد، والأم، والجد والجدة وزوجته الثانية، فتتوقف طويلا عن شخصية الجد الذي كان يعاني من العلة نفسها التي أصابت عبلة، مدققة في سلوكياته، وحالاته السيكولوجية، واضعة لكل فرد من العائلة بطاقة صحية واجتماعية ونفسية.
ليست غاية السرد استعراض حالات إنسانية صرفة، ووضعها عبثا أمام المتلقي، بل إن هاته المادة المعروضة، بقصد وسبق الإصرار والترصد، ترغُ لتمرير خطاب نقد٢ّ للواقع الاجتماعي والسياس٢ّ والاقتصاد٢ّ الذي صارت عليه البلاد، وما آلت إليه البنى الاجتماعية والنفسية للأفراد والعوائل والمجموعات البشرية من تهلهل، وتنافر، وتخلخل، ناهيك عن تصوير القتامة التي هاجمت الكّيكولوج٢ّات، والهشاشة التي راحت تفصّت القيم والثوابت والمواقف.
وباعتبار أّّ الفرد كائن حكّاس تجاه العالم الذي يرتبط فيه بعلاقات حميمية، وبروابط شعورية مفرطة الرهافة، فإّّ الارتجاج الذي عصف بالنظم، والعوائد، والسيرورة، والمسارات، والرؤى، جعل الّّسق العام يهتز، لينعكس هذا الاهتزاز على الصورة النفسية والعلائقية والسلوكية للأفراد تجاه جسدها، ذاتها، والناس الآخرين المرتبطين معها بأواصر دموية وثقافية ودينية وسياسية، والأمكنة التي دأبوا على ارتيادها قبل هبوب أولى رياح التغيير التي ساقها فصل الربيع العربي.
وإذا كان مجتمع الرواية يتوزع بين فاعل في الأحداث، وبين متفرج عليها من بعيد، ومستنكر لها، فإن هناك من الشخصيات من تزلزل عرش العقل لديها مع أول تداعيات لهذا الربيع، إذ لم تسمح لها طاقتها الاستيعابية تمثل ما يحدث وتكييفه مع المتغ٢ّرات الجديدة التي يمليها الس٢ّاق العام للمنطقة العرب٢ّة في ضوء التح٠ّلات التي يعرفها العالم.
ومن بين هاته الشخصيات؛ شخصية عبلة المصابة بشيزوفرينيا حادة، تلك التي لم تتجرع خبر انتماء ولدها إلى تنظيم الإخوان المسلمين، ففارقت صوابها أسوة بجدها وتأثرا بجيناته، جدها الذي استبد به جنونه حتى فارق الحياة مرميا في الخلاء جوار أحد أهرامات الجيزة، فصارت عبلة عافَ الأسرة، كما كان الجغ٩ُ عار الشجرة العائلية، فتسبب جنونها في خلق مأساة اجتماعية ونفسية لكل أفراد الأسرة من زوج وأبناء وإخوة وأخوات وجيران؛ إلى حغّ أّّ لولا فكرت مرارا في قتلها والتخلص منها. يقول السارد على لسانها: (وتزداد رغبتي في قتل عبلة وضوحا. أغرق في عرق بارد وأنا أتذكر هيئتها، وهي تجلس مقرفصة في منتصف كوبري قصر النيل بالضبط، معطية مؤخرتها السمينة لميدان التحرير ووجهها لمؤخرتي الأسدين الرابضين على جانبي الكوبري ناحية الشيراتون. عيناها تتجولان بدون توقف وتلمعان بهذا الجنون. تهذي في وجوه من يتوقفون أمامها وتشتم كل من يحاول إنهاضها، وتضرب أطفال الشوارع الذين يضحكون عليها، يتطاير الرذاذ من فمها الملوث بما تأكله من صناديق القمامة، وشعرها المشعث مثل القنفذ يجعلها مرئية لجميع المتجهين إلى ميدان التحرير سواء أكانوا في سياراتهم أم كانوا راجلين. كانت تفعل كل ما يجعل من المستحيل ألا يلاحظها العابرون، فهي تختار الأماكن الأكثر احتمالا لتواجد معارفها وزوجها وأهلها وأبنائها كأنها تريد أن تفاجئهم لكي تتلذذ بمشاهدة العار في أعينهم، وهي تثق أنه لن يستطيع الاقتراب منها أحد مهما حاول أن يتوسل أو يتكلم أو يبكي أو حتى يصفعها على وجهها).
وفي هذا سياق هذه الرؤية الشيزوفرينية الممزقة للشخصية الرئيسة عبلة التي تمارس فعل التذكر من حين لحين، وترتض إلى حالتها الطبيعة وتساكن ذاتها والذوات الأخرى بين الفينة والأخرى، نلفي تلك العلاقة المتوترة، المضطربة، المقلوبة بالعالم الخارجي بما فيه من إنسان وحيون ونبات وجماد، علاقة تستهدف إعادة صياغة الم٩ِلات بين الذات ومفردات العالم بما يتلاءم مع مقولات الذهان بمختلف ُِك٠٩ِناتها: البارانوية والكاتاتونية والميتومانية أيضا، بحيث إن من أولويات الك٩َرد المحورية هنا في “بياض ساخن” تتمثل في تشغيل وهيمنة آلية التمثل للحالات القصوى، مما يوُ٩ِد صورا وأوضاعا ومواقف تصسّ جميعها في الاتجاه المعاكس لمبدأ التطابق، على اعتبار أن العدو الأول للشيزوفريني هو التطابق أو الانسجام؛ فهو يرفض أن يتطابق داُّ اسمه مع مدلوله. ويرفض أن تتطابق التسمية مع حاملها. يرفض تطابق جسده مع روحه. ويرفض أن يتطابق عقله مع وجدانه. وفي المقابل، فهو لا ينتصر إلا للانشطار والتشظي والتعغّد والتناقض والتعارض.
وعمدت الروائية إلى اختلاق خدعة فنية سردية تجعل من العامل- الذات الواحد ممثلين، أي شخصية بوجهين، فلولا وعبلة اللتان تتناوبان عرش السرد، ما هما، في نهاية الأمر، سوى شخصية واحدة بمزاجين متعارضين، وبحالتين متناقضتين تستبدان بها، حالة اليقظة، فتكون لولا، وحالة الجنون فتكون عبلة، بل إن عبلة المعادل الدلالي للبياض الساخن الذي يغطي في لحظات معينة الذات والعالم من حولها، فيدمر العقل بلوثة جنونه، ويجعل شخصية عبلة في حالة سعار وهياج…
بل إن عبلة تلتبس بشخصية ثالثة كذلك هي الأم، أحيانا، ويحفر البياض الساخن، المقولة البؤرية في النص الروائي، في جذور الشجرة العائلية ليمكّ شخصية الجغّ في دلالة على أن الجنون لعنة كتبت على العائلة، وسيظل يطاردها، لأسباب خفية، تشكل هربا فنيا من تنسيب حالة الانهيار العصب٢ّ والسيكولوج٢ّ للحظة انفلات قهرية عصفت بتقاليد وأسس لم تؤهل اللّخصيات لتقبلها سلفا، ومصيرا قاتما ساقته رياح التواترات العرقية الدساسة ليصيب هاته الأسرة بكابوس تراجيدي عصف باستقرارها رأسا على عقب، وح٠ّل كل لحظات فرحها مجرد ذكريات تحضر وتغيب، فما عاد لذلك الدفء الأسري الذي يضمنه تواجد الأفراد، من معنى في سياق اللون الكالح الذي يسود به البياض الساخن أوجههم كلما هبت عاصفة جنون من جذر الجينوم إلى لولا أو عبلة أو أحد الأخلاف الصاعدين.