المحطات
◆عبير إبراهيمي
واقفة انتظر مجيء الحافلة، استمع الى الموسيقى غير آبهة بما يجول حولي، حتى لفت انتباهي أن امرأة مسنة تجلس في الجانب المقابل لي من الطريق.. ييدو من ملامحها أن الزمن استنزف روحها وعقلها ورسم تذكاره على ملامحها.. كانت ترمقني بنظرات غريبة لم أجد لها تفسيرا، ابتسمت في وجهها ثم أشحت بنظري عنها.. لم تمر سوى بضع ثوان حتى وصلت الحافلة، وقبل أن أصعد نظرت إليها فوجدتها تبتسم ابتسامة عريضة، تظهر ما تبقى من أسنانها، التي يبدو أن معظمها تساقط منذ زمن بعيد، كانت تبدو بصورة جميلة رغم تلك التجاعيد التي تحكي ربما قصصا مريرة.. بادلتها الابتسامة وحييتها ثم صعدت الحافلة. فوجئت لكونها غير مكتظة بل كانت شبه فارغة، لم يكن من الركاب غيري وامرأة تجلس في مؤخرة الحافلة. لم تمر سوى دقائق معدودات حتى شعرت بشيء يحثني على إلقاء نظرة على السائق. وهنا كانت الصدمة: لم يكن في مكانه، والغريب في الأمر أن الحافلة كانت تسير وكأن أحدهم يسوقها. من شدة الخوف والفزع تمنيت لو كان هذا مجرد كابوس سينتهي حين يرن المنبه لكنني كنت على يقين أنه واقع. اتجهت نحو المرأة لأخبرها أن السائق اختفى..
– أنا : سيدتي سائق الحافلة اختفى.
أزاحت المرأة عنها “الحايك” الذي كانت ترتديه، فإذا بها المرأة نفسها التي قابلتها قبل أن أصعد الحافلة.. حاولت أن ابحث عن تفسير منطقي لما يحدث لكن بدون جدوى، عقلي أصبح وكأن به زوبعة تأتي على كل الأفكار المنطقية.
- أنا : من أنت ؟ ما الذي يحدث؟ كيف صعدت الحافلة؟!!
- هي : لا يهم من أنا بقدر ما يهم ما الذي أريده منك.
- أنا : ما الذي تريدينه مني ؟
- هي : ستنطلق هذه الحافلة لتمر بمحطات عدة، كل ما أريده منك هو أن تستمعي لحديثي بتمعن.
ألقيت نظرة من النافذة، بدت لي المدينة غريبة وكأنني لا أعرفها، أصبحت مخيفة ومريبة يكسوها الظلام. وبينما أحاول إيجاد تفسير لما يحدث حولي توقفت الحافلة أمام محطة “الولادة / البداية” فبدت لي امرأة تنجب طفلا.. وأخرى تأخد طفلها للمدرسة.. وشاب يحاول الوقوف رغم أن عظامه شبه مهشمة.. لكنه نهض في الأخير.
– قالت العجوز : “أول محطة يسلكها المرء في حياته هي الولادة أي البداية، يقطع الطبيب الحبل السري المرتبط بأمه، ثم يطلق الطفل صرخة الحياة الأولى، ربما هي أول و آخر صرخة يسمعها الجميع و يكثرت لها. لكن هل حقا نولد فقط عندما نخرج من رحم أمهاتنا؟ أكيد لا.. فيمكن أن تولد من جديد مرات عدة، عندما تسقط وتحاول النهوض تصرخ من شدة ألم السقوط وربما من شدة ألم محاولة النهوض، لكنك حين تنهض تسطر بداية جديدة لحياتك.”
بعدما أنهت العجوز حديثها انطلقت الحافلة، أما أنا فشردت في كلامها وتذكرت المرات التي فشلت فيها وعاودت الوقوف وشعرت لحظتها بأنني حقا ولدت من جديد.
وقفت الحافلة في محطة “الرغبة”، قرب المحطة كان هناك طفل يبكي لأنه يريد دراجة وفتاة ترغب في تنورة مثيرة، وشاب يدخل الحانة، وسرير..
استرسلت العجوز في حديثها: “الرغبة”، لو تمعنت في الحياة ستجدينها عبارة عن رغبات تليها رغبات أخرى. عندما تكون طفلا ترغب في أن يكون لك قصر من الألعاب والحلويات، عندما تكبر أكثر ترغب في الملابس الجذابة، تكبر أكثر فتود أن تجرب الممنوعات (المخدرات، الكحول …)، تصير شابا ترغب في الجنس، بعدها تصبح أكثر رشدا ترغب في العمل المريح والمدر بالمال، تكبر أكثر تبحث عن استقرار تتزوج تكون أسرة ترغب في إسعاد أطفالك.. وهكذا تدور دوامة حياتك التي هي عبارة عن رغبات تطمح إلى تحقيقها.
كلامها هذا كان يحمل بعضا من الصواب، فنحن نعيش لنحقق رغباتنا، ولولا تلك الرغبات لما كان لنا هدف في الحياة نطمح إلى تحقيقه ونعيش لأجله.
أكملت الحافلة طريقها إلى أن وصلنا إلى محطة “الانتظار”، الناس في هذه المحطة شاردون ومنزعجون ويظهر عليهم الضجر (يبدو ذلك من ملامحهم المنكمشة).
- العجوز : الانتظار، هو الشبح الذي يرافقنا طوال حياتنا، نعيش لننتظر الغد وما الذي سيحدث بعد الآن. ننتظر أن نكبر، أن ندرس ونتخرج، ننتظر الحب، ننتظر الوظيفة… ننتظر الحياة فقط.
وهي تتحدث تذكرت مقولة لغسان كنفاني: “إن الحياة ليست سوى الانتظار”، ربما لم يخطئ غسان ولم تخطئ العجوز أيضا. والدليل أنني رغم تواجدي في هذه الحافلة الغريبة، أنتظر المحطات القادمة وما بعدها.
وقفت الحافلة هذه المرة أمام سجن.. قبل أن تبدأ العجوز حديثها توقعت أن تتحدث عن الإجرام ربما؟ أو عن الحرية؟.
لكنها قاطعت تخميناتي قائلة: “وأنت في السجن لست حرا، لكن من قال إنك عندما تكون خارجه تكون حرا؟! لست حرا عندما يخطط لك مسار لحياتك أنت لا ترغب فيه ولست قادرا على تغييره. أنت لست حرا عندما تود التفكير بصوت عال وتعبر عن رأيك لكنك لا تجرؤ على ذلك. لست حرا حينما تود أن تسير عكس التيار وتعلم أنك لن تنجو وتعدل عن رأيك.. عندما تعمل في تخصص لا يشبهك، لست حرا.
أنت حر عندما ترفض أن تسير مع القطيع مادام لا يشبهك، عندما تفعل ما يحلو لك، تعيش كما تريد أنت لا كما أريد لك أن تعيش.. أنت حر عندما تكون قادرا على الرفض”.
هل أنا حرة؟ هذا هو أول سؤال خطر ببالي عندما أنهت العجوز حديثها. ألقيت نظرة على المارة الذين يعتريهم البؤس ووجوههم عابسة وقلت: هل هؤلاء أحرار؟ هل العبوس على وجوههم سببه أنهم ليسو كذلك؟!
وصلنا إلى محطة “الغد الأفضل” قربها كانت بناية لوكالة علمية ودار نشر وبمقربة منها عالم مقتول.
- العجوز : “العلم هو الذي دفع الإنسان ليتطور ويغير من حاضره، ولولا هذا الذكاء البشري الذي كان قادرا على أن يخترع ويبتكر ربما لانتهت الحياة. لكن بدون تنوير لعقل الإنسان لن يستطيع أن يبتكر ويكتشف أكثر.”.
أكملت الحافلة طريقها، أما أنا فكنت أتساءل، هل العلماء الذين قُتِلوا لو عاشوا أكثر، أما كانوا سيفيدون البشرية أكثر؟ وماذا عن الطاقات التي لم تجد متنفسا وظروفا مواتية لتبدع وتتعلم وتطلق العنان لأفكارها، أو ليس العالم يضيع فرصة مبدعين يفقدهم بسبب ذلك؟
وقفت الحافلة أمام عاشقين يتبادلان القبل وعلى لافتة المحطة كتب “حب/سعادة”.