أمير تاج السر: علامة مضيئة في الرواية العربية المعاصرة
◆ ذ. سفيان البراق
درج المهتمّون بالشّأن الأدبي إلى الإعلاء من شأن رواياتٍ سبق أن تصدّى لها نقّادٌ سواءٌ بخيرٍ أو بشرٍّ، أو نُقِلت إلى لغاتٍ عالمية فتنهال عليها عبارات التنويه والإشادة من كلّ حدبٍ وصوب، بيد أنّ هناك كُتّابا تسعدُ بهم الساحة الثّقافية العربية لم يتلقّوا الاهتمام المرجو. حتى لا أقول إنّهم مغمورون، وذلك ممنوعٌ عليّ، والذي يحول دون ادعائي هذا هو ترشُّح أعمالهم الرّوائية لجوائز تحظى بمكانة رفيعة في المشهد الثّقافي العربي. لقد أنجبت السودان أيقونةً أدبية قلّ نظيرها هو الرّوائي الكبير الطيّب الصالح (1929 – 2009) الّذي أمتع وأبهر القارئ العربي في تحفته الخالدة “موسم الهجرة إلى الشّمال” نظراً للغة الرصينة الّتي كتبت به، وللوصف الدقيق للأماكن والشخصيات، كما أنّها جعلت صاحبها في مصاف الكُتّاب العالميين بعد الانتشار الواسع الذي تبعها، كما أنّها عالجت اغتراب الفرد العربي (مصطفى سعيد) وما قد يؤدّي إلى تغيير في الأفكار والرؤى والقيّم.
بطبيعة الحال، ليس موضوعنا هو الطيّب صالح الّذي يعد جوهرةً في الأدب العربي، وإرثه الأدبي يشهدُ على ذلك. لكنني بصدد الحديث عن روائيٍّ سودانيٍّ ينحدرُ من أصول الطيّب صالح، فهذا الأخير، خاله، وقد أشاد بكتاباته عندما كان يافعاً. أمير تاج السر هو روائيٌّ سوداني يكتبُ بشرهٍ كبير، إذ يطلّ علينا في كل سنتين أو ثلاث سنوات تقريباً بعملٍ روائي، وترشّحت بعض أعماله للائحة الطويلة والقصيرة للجائزة العالمية للرّواية العربية، ونال جائزة كتارا للرواية العربية سنة 2015م.
من أعماله الروائية رواية ” طقس ” الصادرة سنة 2015م في طبعتها الأولى عن مؤسسة قطر للنّشر. رواية مميّزة سرداً ووصفاً، دأب فيها الكاتب، عن قصد، في سرد الأحداث بسخرية، بالانتقال من حدثٍ لآخر دون الغوص في التفاصيل المملّة الّتي سرعان ما تجعل القارئ ينفر مما يقرأ. وما يميزها أيضاً هو الجمع بين روايتين في روايةٍ واحدة، إذ يستحضر شخصية رئيسية في روايته أمنيات الجوع، بيد أنّ هذه الشخصية ستخرجُ من النّص للواقع لتُطاردهُ وسيُصابُ بسببها بالأرق. تبدأ أحداث رواية ” طقس” في حفل توقيع روايته أمنيات الجوع عندما سيحضر نيشان حمزة نيشان الحفل، وسيطلب منه التوقيع على روايته وسيكتشفُ أنّه قد كتب عن هذه الشّخصية دون أن يعرفها. استخدم أمير تاج السر تقنية حديثة قلّما يُوظفها روائيٌّ في روايته، جعلته يتميّزُ، إلى حدٍّ ما، عن بقية الروائيين، كما استطاع الانفلات من النّمطية التقليدية الّتي تهيمن على الروايات المعاصرة الّتي تبدأ من الألف إلى الياء، وقد اعتدنا على مثل هذه الأمور ولم نعد ننتبهُ لها. قد يقول القارئ الّذي قرأ لأمير تاج السرّ أنّ لغته بسيطة وفي بعض الأحيان تكادُ تكون أقرب إلى لغة العموميات، لكن هذا يبدو للقارئ الذي يقرأ قراءة سريعة وسطحيّة، فلغته، في نظري، لغة متينة، متماسكة، يعرف كيف يوظفها، وينتقي عباراته بدقةٍ فائقة. يختارُ أمير تاج السر شخصيات نكادُ نجدها في الواقع، كما أنّ رواياته، الّتي قرأتها لحد الآن، وهي خمس: طقس، صائد اليرقات، 366، زهورٌ تأكلها النّار، منتج الساحرات؛ يمكن أن نُصنّفها ضمن الرّوايات الواقعية المعيشة، حيث يمكنُ لأي واحدٍ منّا أن يعيش تلك الأحداث أو يصادفها. ومن السمات المميزة لأمير تاج السر هو غياب تلك اللغة المملة الّتي تجعلك تقضم عشرات الصفحات من أجل الوصول إلى حدثٍ معيّن، بل هي لغة تستعرضُ الأحداث كما هي بنوعٍ من التشويق والغموض، وهو ما يجعل القارئ متلهفاً لمعرفة النّهاية.
في رواية ” طقس ” وظّف الروائي أسلوباً ساخراً، يجعل أحداثها تتأرجح بين الواقع والخيال، بين الزيف والحقيقة، يُصوّرها في قالبٍ سرديّ ينمّ عن حنكته. شكّلت شخصية نيشان حمزة نيشان عبئاً على مبتكرها طوال أطوار الرواية، وعانى منذ أن عرفه، حتى ندم على كتابته تلك الرّواية. ترمي هذه الرواية إلى تبيان الجهد المضني الّذي يبذله الكاتب في صنع وبناء شخصيات الرواية، فهناك من يصنعها من الخيال، وهناك من يُصادفها في الواقع ويستلهمها ويضعها كما هي تتخبّط في أحداث روايته، وهناك من يُضفي عليها تعديلاً حتى تتناسب مع موضوع الرّواية ورؤيتها.
نُشرت لأمير تاج السر رواية نحت لها عنوان: صائد اليرقات، عن دار الساقي، سنة 2016م، في طبعتها الرابعة. وصلت هذه الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية سنة 2011م. تتألفُ هذه الرواية من حوالي 160 صفحة، تناول فيها قصّة عميل سرّي في الاستخبارات سيتعرّض لحادثٍ أدى إلى فقدان ساقه وتمّ تعويضها بقدمٍ بلاستيكية يمقتها ويزدريها كلّما نظر إليها، وسيتعرّفُ هذا العميل، بعدما توقف عن عمله مكرهاً بعد فقدانه لساقه وصار ملازماً للمقاهي، على كاتبٍ معروف، وستُخامرهُ فكرة كتابة رواية. وضع أمير تاج السر الكتابة هنا تحت المجهر، وقد تحدث عن كاتبة تكتب نصوصاً لا يشمّ فيها بطل الرواية رائحةً للإبداع، ورغم ذلك تتلقّى عبارات التنويه من الكاتب الّذي سيعتبرهُ قدوةً، وهو من سيسرقُ فكرته التي سيبلورها في مشروعٍ روائي. ظلّ العميل السابق يقرأ في محاولةٍ جادّة منه لكتابة رواية، وقد اعتبر أن الكتابة هي يرقات قبل أن تتحول إلى فراشات فقفز العنوان إلى ذهنه: صائد اليرقات. بعد أن واظب على مخالطة المثقفين في المقاهي وأصبح مصمِّماً على كتابة رواية سيضعُ نفسه في مأزق حيث سيصبح مذكرة لملاحقةٍ أمنية. كما تناول أمير تاج السر فكرة جوهرية وهي تعامل الناس مع العميل قبل فقدانه لعمله وبعد أن فقده، هي حقيقةٌ مُرّة، جعلت الرّاوي يعترفُ بأن النّاس حربائيون، ويتزلّفون للمظاهر. هي رواية ذات طابع بوليسي في المقام الأوّل عالج فيها مشاكل اجتماعية وما قد تسفرُ عنه من ضغوطات نفسية.
لقد أبان أمير تاج السرّ عن ذلك الكائن الشعري الّذي يسكنُ بداخله في عمله الموسوم بـ مرايا ساحلية (سيرةٌ مبكّرة)، تنقّل فيها بين الأماكن التي ارتمى في أحضانها وهو في مرحلة الصبا، وصفها وصفاً دقيقاً باستعماله لكلمات منتقاةٍ من اللغة البديعة، كما استعمل عبارات عامّية جعلت هضم الأحداث بشكلٍ متسارع صعباً إلى حدٍّ ما وغموضٍ في المضمون في أكثر من موضع. حاول أن يُعطينا نظرة شاملة عن المكان الذي نشأ وترعرع فيه، والأهالي الذي يقطنون المكان واصفاً تقاليدهم وأعرافهم محاولاً نقل الثقافة السودانية إلى القارئ العربي. هي سيرة ذاتية بامتياز، مميزة، وما زاد من تميّزها هو هيمنة الطابع الشّعري الّذي تسرّب عبر سطورها.
هناك رواية جيّدة لا تقل أهمية عن الروايات المذكورة، وهذا ما جعلها تدخل اللّائحة الطويلة لجائزة البوكر سنة 2014م، هي رواية 366 ، صدرت في طبعتها الأولى سنة 2012م عن الدار العربية للعلوم ناشرون. رواية كتبها أمير تاج السر عن أستاذ عاش قصّة حبّ مع طيفٍ خيالي لمدة 366 يوماً في إحدى السنوات الكبيسة، تميّزت بحبكة محكمة، وبانسيابية في سرد الأحداث، وحضور كثيف لشخصيات، كل شخصية لها دور في اعوجاج الأحداث عن مسارها. تتناول الرواية قصّة أستاذ للكيمياء في إحدى المؤسسات التعليمية، يقطن حي “المساكن”؛ حيٌّ مهمّش يعجُّ بالمنحدرين من الطبقة الكادحة. هذا الأستاذ حضر زفاف أحد أصدقائه يدعى عبد القادر، وسيرى فتاةً، اسمها أسماء، جاءت في أقصى أناقتها، وانبهر بها، وانغرس بداخله سهم الحبّ، وهو ما أدّى به إلى العيش في دوّامةٍ من التيه، وسيبحثُ عنها في كلّ أرجاء المدينة دون العثور عليها، وهذا ما جعله أسيراً لكوابيس وضغوطات نفسية لا تنتهي.
تنكبّ الرواية على الغوص في حياة الأستاذ مع جيرانه وزملائه في المؤسسة، كما أنّها لا تتغاضى عن أحداث الماضي؛ التي تطفو في كلّ حين في ذاكرته كما تطفو الشوائبُ في البرك الآسنة، وهنا الحديث عن تورّط أخيه بخاري في إحدى القضايا السياسية وانتمائه لحزبٍ مشبوه وهو ما أدّى إلى غيابه المفاجئ ثم رحيل والدته، ليعيش الأستاذ لوحده منكوباً، وما زاد الطينة بلّة هو حبّه الجارف لأسماء بعد أن رآها وهي لم تره. ربّما لجأ إلى الحب رغم أنّ الذي سيشاركه ذلك الشعور مجرّد طيف ناوره، وقد خُيّل إليه أنّه هو من سينتشله من دائرة الوحدة وسيرميه في دائرة الحياة الزّاهية.
لقد كتب أمير تاج السر ما ينيف عن عشر روايات وسيرتين وديوان شعري، وهو ما يؤكّد على الزخم الّذي بداخله، إلّا أنّه لم يجد الاهتمام المطلوب، رغم حضوره الدائم في الانخراط في الكتابة عبر مجلات ثقافية ذائعة الصيت، وتناوله لقضايا المجتمع السوداني عبر مجموعة من المقالات المنشورة في منابر إعلامية مختلفة. إنّ أعماله، في نظري، جديرةٌ بالقراءة والاهتمام والدراسة، لأنّها ذات رؤية روائية معاصرة فريدة.