“اجماعة”.. تاريخ التجربة الجماعية للمغاربة
◆ يوسف رزين
تكون المجتمع المغربي منذ القدم، من عدة قبائل حرصت كل واحدة منها على أن تدير شؤونها اعتمادا على مقدراتها الذاتية ومجالها الخاص بها، وفق نظام ديمقراطي يدعى “اجماعة”. الذي و إن كان يتسم بالكثير من العقلانية و التدبير الرشيد، إلا أنه مع ذلك عانى من أعطاب كثيرة لأسباب ذاتية و موضوعية، أدت في النهاية إلى جموده و انتفاء فاعليته. فما هو هذا النظام القبلي و ما مشكلته ؟
يوضح روبير مونطاني أن “اجماعة” كانت هي أساس الحياة القبلية بالمغرب. و قد تمثل دورها في الدفاع عن حوزة الارض وإدارة الشؤون اليومية للسكان، بما فيها إصلاح السواقي و تنظيم الأعمال الزراعية والمبادلات، وفق ما تقتضيه أعراف الجماعة ومعاييرها.
و يضيف غابرييل كامبس أن سلطة القرار في القرية تعود إلى “اجماعة”. و هي كما يصفها، تجمع لأهل القبيلة يجتمع في مبنى جماعي، تتقدمه ساحة أشبه ما تكون ب” أغورا” حقيقية مصغرة. و يكون الخلوص إلى القرار في معظم الاحيان إما بالرضا و القبول الفردي، أو بالهتاف التلقائي أو شبه التلقائي. و آنذاك تسري قرارات “اجماعة” على حياة أفراد القبيلة برمتها.
و تقوم هنا “اجماعة” مقام المحكمة العليا. فهي تصدر الأحكام وتحدد الغرامات عن كل مخالفة، و تحكم بالإبعاد و تحل النزاعات بين المتخاصمين، و تحدد العلاقات مع الخارج والعلاقات مع القرى الداخلة في القبيلة الواحدة و العلاقات مع الأجانب. كما تتكلف باستقبال ضيوف القبيلة.
يذكر أن أراضي القبيلة انقسمت إلى ملكيات خاصة وملكيات عامة، لذلك تكلفت مؤسسة “اجماعة” بالإشراف على تنظيم استغلال هذا الملك العام من طرف أفراد القبيلة، حيث كانت تراقب الانتفاع من الغابات و المراعي. كما كانت تقوم بتوزيع مداخيل الأحباس على سكان القبيلة .
و يوضح الباحث عمر بن ميرة أن نظام التملك الجماعي لم يقتصر على الأرض، بل امتد أيضا إلى الماء، حيث إن إقامة السدود ومد القنوات أدى إلى وجود مجموعة من الأعراف لتنظيم السقي و توزيع الحصص بين المزارعين.
و نجد بالإضافة إلى ما سبق، أن “اجماعة” اهتمت أيضا بالعمل التضامني حيث يذكر الباحث نور الدين امعيط أنها كانت تقوم بتنظيم عملية “التويزة”. و هو عمل تضامني من طرف أفراد القبيلة يقتضي الاشتراك بشكل تطوعي في العمل في حقل أحد الاشخاص، حيث يأتون إليه بأدواتهم و دوابهم الخاصة وفي المقابل يتكلف المستفيد بتوفير الطعام لهم. و يضيف نفس الباحث أن عرف التويزة لم يكن مقتصرا فقط على الحرث و الحصاد فقط، بل تعداه إلى كل ما يتعلق بالعمل الجماعي، كالمساهمة في الأفراح والأتراح وجني الزيتون واستصلاح الطرق وصنع الخيام ونسج الأغطية و غسل الصوف.
و نجد بجانب عرف التويزة عرفا آخر يدعي الوزيعة، وهو يتعلق بتوزيع اللحوم على أفراد القبيلة بما فيهم الفقراء والأرامل والأيتام منهم، بعد ذبح جماعي للأضاحي يكون أغلب السكان قد ساهم في دفع ثمنها. يذكر أن عملية التوزيع هاته كانت تتم تحت إشراف مؤسسة “اجماعة”، بعد إحصاء دقيق للأسر داخل القبيلة. و قد كان هذا العرف التضامني يتقرر عند كل رمضان وعيد المولد النبوي وليلة عاشوراء والمناسبات الفلاحية كموسم الحصاد وجني الزيتون وعند قص صوف الماشية.
إلى هنا تبدو القبيلة المغربية على ما يرام وهي تدير شؤونها وفق نظام ديمقراطي معقلن تطبعه روح التضامن والحياة المشتركة. غير أن الواقع لم يكن بهذه الصورة الوردية. فكيف ذلك ؟
لقد كان في هذا النظام ثغرات تسمح بتسيد الأقوياء و فرض استبدادهم على الضعفاء، وبالتالي خروجه عن المسار الذي رسم له. يوضح الباحث المختار الهراس في هذا الصدد أن “اجماعة” لدى قبائل اجبالة لم تكن مؤسسة ديمقراطية بمعناها الكامل، و لم تكن تعكس مواقف وتطلعات السكان. فقد كان أعضاءها يختارون من بين أعيان القبيلة و مسنيها من ذوي الخبرة والمكانة الاجتماعية المرموقة، حيث يقدمون الاقتراحات والحلول . أما العوام فلم يكن لديهم سوى حق الحضور والانصات . كما يذكر غابرييل كامبس أيضا أن امغارن (الشيوخ ورؤساء الآسر) هم وحدهم من يحق لهم الكلام في “اجماعة”. فهي و إن كانت ديمقراطية من حيث المبدأ فإنها كانت محدودة في الواقع. فالقرار يكون دائما بأيدي أسرتين أو ثلاث.
أما جاك بيرك فيوضح أن القرابة إذا كانت تحقق بالفعل وحدة الجماعة، فإن المستفيد الرئيسي منها ليس كل اعضاءها بل فقط العائلات الشريفة والأصيلة ذات المكانة الرمزية المرموقة في مقابل الدخلاء والوافدين الجدد والمستضعفين، الذين يشهر في وجههم سلاح الجينالوجيا كلما اقتضت الظروف اقتسام منافع مرعى أو ماء جماعي أو أداء واجب جبائي. لقد كانت الديموقراطية القبلية إذن مجرد وهم، و كانت العلاقات السلطوية هي البارزة والمتحكمة في الحياة القبلية لأن هناك فوارق اقتصادية واجتماعية ورمزية بين أفرادها تقتضي وجودها.
انه بسبب ظروف الاضطراب السياسي والأمني الذي عانى منه المغرب طوال تاريخه، بسبب انهيار دولته المركزية المتكرر، صارت الفئة المحاربة في القبيلة هي صاحبة الكلمة الطولى على حساب الفئة المنتجة من فلاحين و حرفيين، ما أصاب مؤسسة “اجماعة” ونظامها الديمقراطي المفترض بالعطب، فتحولت من مؤسسة يفترض فيها خدمة أفراد القبيلة إلى مؤسسة تخدم مصالح الأوليغارشيا داخلها.
و لتوضيح هذه النقطة تذكر الباحثة رحمة بورقية أن وجود “الخماس” و “امقاضع” و”الرباع” هو وجه أخر لهذه البنية العسكرية القبلية، التي يتم فيها تقسيم العمل بين حاملي السلاح و غير الحاملين له. إذ يكون أصحاب البارود الفئة المتعالية عن العامة بينما يترك للخماسين والرعاة مهمة العمل الفلاحي والرعوي. لذلك صار المجتمع يفضل حامل السلاح على الفلاح .
و عليه فإن الخيام الكبيرة التي بإمكانها أن تزود القبيلة بالرماة و بالسلاح هي العائلات التي تجد لها ممثلين داخل “اجماعة”. فمن الشروط التي يجب أن تتوفر في “اجماع” أن يكون قادرا على توجيه الحرب وأن يكون ملاكا كبيرا. و بذلك فإن هناك فئات تقصى من وظيفة “اجماع” كالمرأة و من لا يستطيع ان يشارك في الحرب والفقراء كالحدادين والنجارين وحفاري الآبار والغرباء والدخلاء.
انعكست هذه التطورات على الناتج الفلاحي، الذي انخفض إلى أدنى مستوياته، فعجزت القبيلة عن انجاز الفائض الداخلي و الوفرة في الانتاج. تصف الباحثة بورقية هذا الوضع بالقول أن استغلال الأرض كان يلبي الحاجيات الضرورية التي تكفي لسنة فقط ولا يسمح بوجود الفائض. كما ان وضع الفلاح الذي يكاد يرادف “الخماس” او “امقاضع” او “الرباع” يبين مدى تهميش و احتقار العمل الفلاحي لصالح النشاط العسكري ك “الرماية” أو “الحركة”، حيث إن القيمة التي تبجل حامل السلاح تتم عادة على حساب العمل الفلاحي.
لقد أدى هذا الوضع الاجتماعي المائل لصالح حملة السلاح الى تحولات مست اقتصاد القبيلة. فبدلا من أن يكون اقتصادها قائما على الفلاحة و غراسة الأشجار التي تشترط ظروف الأمن والاستقرار، فإن العكس هو الذي ساد، حيث اقتصر النشاط الفلاحي على زراعة الحبوب التي لا يتطلب حصد محصولها أكثر من سنة، على عكس زراعة الاشجار التي يتطلب جني محصولها الانتظار لسنوات عديدة.
لقد سيطر الهاجس الأمني بسبب الحروب المتكررة بين القبائل على الفلاحين، فلم يزرعوا إلا الحد الادنى من الأراضي لسد الحاجيات الضرورية، خوفا من اكتساح يتعرضون له من طرف قوة معادية. ما جعل انتاجهم ينحصر في خانة اقتصاد الكفاف. و صار التركيز أكثر على تربية المواشي باعتبارها اموالا منقولة يسهل سوقها نحو الجبال عند تعرضهم للهجوم. لهذا كان طبيعيا ان يستعمل المغاربة الخيام كوسيلة للسكن بدلا من المنازل المشيدة من الطوب رغم تواجدهم بالسهول.
إن هذه الوضعية القلقة و القابعة أسفل الهرم الاجتماعي التي عاشها الفلاح، تكشف بوضوح سبب غرق الاقتصاد المغربي طوال تاريخه في الركود و ضعف الانتاجية و تخلف التقنية. فلا الفلاح نعم بظروف الأمن والاستقرار التي تمكنه من تحسين زراعته و توسيعها وتجويد أدواته التقنية، ولا هو استفاد من نظام “اجماعة” شبه الديمقراطي لإسماع صوته والدفاع عن مصالحه داخل القبيلة باعتباره الفئة المنتجة للفائض الداخلي.
لقد كانت الكلمة العليا في تاريخ المغرب للأمغار المقاتل، الذي اعتمد في مراكمة ثروته على فرض الجبايات الثقيلة على الفلاح وعلى تجارة الترانزيت واتاوات الخفر والمرور (الزطاط). محولا في ذلك نظام “اجماعة” الديمقراطي إلى نظام اقطاعي استبدادي. وانضاف إلى ذلك أن المخزن كان يبني سياسته الداخلية في فرض سلطته على مجموع التراب المغربي على اتخاذ الأمغار المتغلب/القايد وسيطا بينه و بين قبيلته، ما يعني مزيدا من تشديد الخناق على الفلاح وإثقال كاهله بالضرائب.
لقد كان الفلاحون في ظل هذا الوضع رهائن لدى سيدهم الإقطاعي، فعاشوا على الكفاف وعانوا من الإفلاس، رغم أنهم الفئة المثلى القادرة على الانتاج وخلق الثروة. ولذلك لاحظ الحسن الوزان أن أفراد القبائل التي تخضع للمخزن يرتدون أسمالا بالية.
من جهة أخرى، فإن القايد بسيطرته على زمام الأمور في قبيلته، واتخاذ المخزن له كوسيط و مخاطبا وحيدا، فإنه أصبح بحكم الواقع ملكا محليا. فكان لا يتردد في التمرد على المخزن حالما سنحت له الفرصة. إن إحدى التناقضات الرئيسية لسياسة الدولة المخزنية هي أن القايد الذي كانت تدعمه على حساب الفلاح، كان يتحول مع مرور الوقت إلى فرانكشتاين ينقلب عليها كلما أنس منها ضعفا.
لذلك نجد أن الدولة المغربية في العصر الحديث عملت على تحجيم مؤسسة القايد، وتحويله إلى مسؤول إداري صغير لديها، مع إعادة ترتيب النظام القبلي بما يخدم استقرار السلطة المركزية، حيث منع قانون القواد الصادر في 20 مارس 1956 من أخذ الضرائب التي كان يأخذها القايد من قبيلته نظير خدماته فيما مضى. لقد حرص المشرع في مغرب الاستقلال على جعل القائد موظفا لدى الدولة يتقاضى أجرا رسميا محددا، مع عدم إبقاءه في منطقة نفوذه أكثر من ثلاث سنوات، منعا له من التجدر اجتماعيا واقتصاديا داخلها.
و هو ما اكده الملك الراحل محمد الخامس في 8 ماي سنة 1958 قائلا: “إن تطور البلاد اقتضى انكسار البنيات القبلية التي لا يمكن لها من الآن فصاعدا أن تكون الأساس لإرساء أجهزة تمثيلية فلذلك ارتأينا أن تكون الجماعة كخلية اجتماعية وسياسية جديدة الأساس لتنظيم المغرب الحديث”.
و بذلك تكون القبيلة المغربية قد عرفت عدة تغييرات في عصرنا الحالي. وهي أنها صارت تنعم بالأمن و الاستقرار المساعد على الإنتاج الفلاحي، و لم تعد مضطرة إلى أن تكون على أهبة الاستعداد للهجرة والفرار نحو الجبال للاحتماء بها من الغارات المعادية. كما أنها تحررت من سلطة القايد المستبد وانتقلت في تسيير شؤونها من نظام “اجماعة” التقليدي إلى نظام الجماعة القروية الحديث.
لكن يبقى السؤال المطروح : ما جدوى هذه التحولات والسياسات الحديثة على وضع الفلاح المغربي المنتج للفائض الداخلي؟ هل فعلا تحرر الفلاح من سلطة القايد و عاد إليه اعتباره؟
يلاحظ في هذا الصدد أن البادية تحررت من سلطة القايد، كما أنها صارت تسير من طرف الادارة ممثلة في شخص القائد الممثل لسلطة الوصاية، و تسير كذلك من طرف الجماعة القروية ذات الأعضاء المنتخبين من طرف السكان. و هنا نجد المفارقة التالية وهي أن القائد هو شخص ذو تعليم جيد و قدرات إدارية حسنة، في حين أن المنتخب الجماعي هو شخص أمي و بمهارات إدارية متواضعة، ما يجعل التفاعل بين البادية و الدولة العصرية ضعيفا . كما أن الدولة و إن كانت قد أقبرت ظاهرة القياد، فإنها من جهة أخرى قد أحيتهم في شخص الأعيان، الذين بدورهم سيطروا على الجماعات القروية وصولا الى البرلمان .
يوضح الباحث عبد الرحيم العطري في هذا الصدد أن الطلب على الأعيان قد تجدد بعد الاستقلال بسبب الصراع الذي قام بين القصر واليسار. فالدولة سعيا منها لتحجيم انتشار الاحزاب الوطنية في المجتمع و البادية خصوصا، خلقت أحزابا إدارية تابعة لها و ملأتها بالأعيان، وبالتالي فكما أفرغ القياد في الماضي مؤسسة “اجماعة” من محتواها الديمقراطي، فإن خلفاءهم الأعيان بدورهم يفعلون نفس الشيء مع مؤسسة الجماعة القروية وباقي مؤسسات الدولة التمثيلية، و مازال واقع التهميش و العزلة و الارتهان لكبار الملاكين هو ما يعيشه صغار الفلاحين. و هو ما يعني أن الدولة المغربية الحديثة تكرر خطأها الأزلي المتمثل في خلق الفرانكشتاين الإقطاعي دون وعي منها !.
فالدولة مازالت تتعامل مع البادية من خلال قناة الوسطاء الأعيان، و كأنها مازالت ضعيفة أو غير قادرة على التعامل المباشر مع الفلاح. و هو تعامل ينم عن كسل سياسي يبحث عن الخدمات الجاهزة لهؤلاء، دون رغبة منها في العمل الشاق بحثا عن موطئ قدم في مجتمع البادية دون المرور عبر وساطتهم.
إن دروس و عبر الماضي تستلزم على الدولة فك الحصار عن سكان القرى في سهول وجبال وواحات المغرب، وتحريرهم من سلطة الأعيان ومساعدة الفلاح على الاستقرار بأرضه وإنتاج الفائض الداخلي وتحقيق استقلاليته المادية عنهم. لذلك سيكون مفيدا للدولة على المدى البعيد أن تطبق اصلاحا زراعيا يتضمن توزيع أراضي متوسطة المساحة (5هكتارات مثلا) على صغار الفلاحين، ومدهم بوسائل المكننة الزراعية ومختلف التسهيلات لإنتاج الثروة الفلاحية وموازنة فئة كبار الملاكين التي أثبت التاريخ أنها العدو الأول للدولة المغربية المخزنية على مر العصور.