تهريب العملة وآثاره على الاقتصاد الوطني
◆ عبد المجيد مصدق
ما المقصود بتهريب الأموال أو العملة؟
تهريب الأموال بصفة عامة هو القيام بنقل الأموال بطرق مخالفة للقانون، ذلك أن المشرع المغربي حدد في العديد من النصوص القانونية الجهات المخول لها القيام بالوساطة فيما يتعلق بتحويل الأموال وعلى رأسها مؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها والمنصوص عليها في القانون رقم 34.03.
تاريخيا ظهر مصطلح التهريب إثر اعتماد القصر الملكي في فرنسا “ضريبة الملح” منذ بداية القرون الوسطى واعتماد ضريبة “الهندي” إثر اندلاع الثورة الفرنسية وكذلك إثر الرفع في مختلف الرسوم الضريبية من طرف بريطانيا. وقد أفضت هذه الإجراءات، بصفة آلية، إلى التهرب من دفع الرسوم الجمركية من خلال تهريب البضائع الخاضعة لها.
تكلف عمليات تهريب الأموال نحو الخارج خسائر كبيرة على مجموعة من المستويات ويتكبد الاقتصاد أضرارا فادحة، إذ تحرم ميزانية الدولة من ضرائب تقدر سنويا بملايين الدراهم، حيث يتملص المعنيون من الضرائب المستحقة عليهم من خلال تهريب أموالهم الطائلة إلى ملاذات ضريبية آمنة، عوض أداء الواجبات الضريبية التي تعد موردا رئيسيا لقيام الدولة بخدماتها العمومية نحو المواطنين إضافة إلى أن بقاء تلك الأموال داخل البلد سيساهم في التنمية.
فأغلب المتملصين هم من لصوص المال العام والثروات الوطنية بطريقة غير شرعية، ولتفادي أي رقابة أمنية أو قضائية تصبح عمليات تهريب الأموال خارج البلاد منفذا لتشجيع الجريمة و الفساد داخل البلد، علما أن القانون المغربي ينص على ضرورة الحصول على تصريح من مكتب الصرف بالأموال التي يريد أي شخص تحويلها إلى الخارج، ويعمل هذا المكتب على مراقبة البنوك التي فوضها بسلطة القيام بجميع عمليات التسديد المالي للحسابات الخارجية، والمتعلقة بعمليات التصدير والاستيراد والنقل الدولي والتأمين وإعادة التأمين والمساعدة التقنية والسفر ومتابعة الدراسة، أي انه ليس هناك فراغ قانوني بقدر ما هناك إحساس وضمير فارغ من الحس الإنساني والوطني.
أين الثروة الوطنية؟ سؤال أطلقه الخطاب الرسمي.. هل لا يملك فعلا جوابه ؟
إن تهريب العملة الصعبة يعد من بين عوامل أخرى السبب الرئيسي لتفقير البلاد والعباد فكيف تتم عمليات التهريب…؟
المغرب في عين إعصار وثائق بنما
تعتبر حوالي 40 دولة في العالم جنات ضريبية بحسب تصنيف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المبني على أربعة معايير:
المعيار الأول هو الضرائب المنخفضة أو عدم فرض ضرائب إطلاقا وهو معيار غير كاف لوحده، ويترافق هذا المعيار مع ثلاثة عوامل أخرى هي غياب الشفافية عن النظام الضريبي، وعدم تبادل المعلومات الضريبية مع دول أخرى، واجتذاب شركات وهمية تشكل غطاء للأموال،
وبهذا الخصوص وعلى إثر كشف أكبر عمل صحفي استقصائي دولي في العقد الأخير، حول قائمة قادة الدول المستفيدين من الملاذات الضريبية بإنشاء شركات فيما يعرف ب”جزر النعيم الضريبي”، بالعالم، أوردت المعطيات مسؤولين كبار في أعلى هرم السلطة في المغرب، ضمن تسريبات” وثائق بنما، هذا العمل الذي شاركت في إعداده أزيد من 100 مؤسسة صحفية، عبر 370 صحافيا، اشتغلوا جميعا على نحو 11 مليون وثيقة تتعلق بعمليات “إخفاء ثروات”، قام بها رجال أعمال ومسؤولون في عدد من الدول من بينها المغرب، بعد الكشف عن هذه الفضيحة وحتى يتم امتصاص الغضب الشعبي دفع محامي القصر، هشام الناصيري، إلى التصريح بأن “الأنشطة المالية التي قامت بها الشركات المملوكة لمنير الماجيدي، في جزر “الملاذات الضريبية” المشبوهة، “مطابقة للقانون وأعمالها مسجلة في السجلات العامة……!”. وبقي الملف طي الكتمان رغم المطالبة المتعددة بفتح تحقيق وافتحاص هاته الحسابات والوثائق المسربة.
وهذا الملف واحد من مئات ملفات المسؤولين ورجال الأعمال المغاربة الذين كشف عنهم التحقيق، وبغض النظر عن الشق الأخلاقي المرتبط بالمواطنة في الموضوع، تطل علينا علامة استفهام حول خرق القوانين الوطنية المنظمة للضرائب والصرف التي تمنع تحويل الأموال إلا وفق إجراءات قانونية محددة وليس ملاذات ضريبية مشبوهة ؟؟؟؟
جزر “الملاذات الضريبية” أو “الأوف شور”، هي مشروع للمتملصين ولصوص المال العام تساعدهم على “التهرب الضريبي”، من البلد مصدر الثروة، دون أن يدفعوا ضريبة عنها، بل ويتعدى الأمر ذلك من الجانب الاقتصادي إلى الشق السياسي، فهي شكل حديث من الاستعمار، فالي جانب الشق الإجرامي هناك أيضا الجانب القانوني المرتبط به، بيد انه عموما فالعمل التجاري والاقتصادي في جزر الملاذات الضريبية، يشوبه الغموض والسرية وعدم الشفافية، ولا يمكن النظر إليه بعين الارتياح عبر التشريعات المتعلقة بمساطر تنظيم الضرائب والتهرب عن تأديتها.
وقد كشفت الوثائق في تحقيق صحفي هو الأضخم في تاريخ المعاملات المالية، أن شركة “موساك فونيسكا” للخدمات القانونية التي تتخذ من بنما مقرا لها، وتُعتبر إحدى أكثر الشركات التي تحيط أعمالها بالسرية تساعد المسؤولين في عدد من الدول على إخفاء الأموال المهربة،
علما أن التجارة بجزر “الأوف شور” ليست دائما غير قانونية خصوصا بالنسبة للأشخاص الذاتيين والمعنويين الذين ينتمون لأغلب دول الشمال، والتي تراقب وتضرب بيد من حديد على يد المافيات التي تشتغل في تهريب العملة والتهرب الضريبي.
يعتمد الأشخاص الذين يهربون الأموال إلى الخارج على شبكات محترفة تعتمد على وسائل وتقنيات يصعب رصدها، ولها علاقة بمسارات متشعبة يصعب اقتفاء أثرها، رغم الإجراءات الصارمة الشكلية في الغالب في دول الجنوب ومنها المغرب، فالتقارير الدولية التي كشفت عن عمليات تهريب أموال مهمة من المغرب نحو الخارج، وتعدد العمليات، بشكل شبه يومي، أكدت على أن هناك عدة طرق وتختلف معها قيمة ما يتم تهريبه وعلى أن الأشخاص الذين يقومون بهذه العملية محترفون، أن تحويل رؤوس الأموال، إلى جزر الملاذات الضريبية المشبوهة، هو وجه من أوجه التهرب الضريبي واستعمال الثغرات القانونية للتملص من واجب تأدية الضرائب، ويتم في بعض الأحيان تحت ستار الاستثمار في الخارج بواسطة شركات “وهمية” لجلب العملة الصعبة.
ما هي الشركات الوهمية التي تغطي التهريب وكيف تعمل؟
تعرف هذه الشركات في ألمانيا على سبيل المثال بأنها “شركات العنوان البريدي”، دلالة على أنها ليس لها وجود قانوني سوى من خلال امتلاك عنوان بريدي، حيث توجد الشركة الوهمية، أو شركات العنوان البريدي، على الأوراق فقط، فليس لها نشاط اقتصادي، وليس لها سوى حساب بنكي، وعادة ما تؤسس الشركة الوهمية في إحدى الملاذات الضريبية مثل بنما أو الجزر العذراء البريطانية أو جزر كايمان البريطانية غرب بحر الكاريبي وذلك بمساعدة محامين أو شركات خدمات متخصصة في هذه الأماكن، عن ذلك يقول الخبير الألماني في القانون الاقتصادي ألكسندر زاوكن، إن لكل من هذه الشركات مدير تنفيذي ليس له عمل سوى أن يدفع رسوم السجل الضريبي لهذه الشركة في الوقت المناسب مرة واحدة كل عام، ولإخفاء تحركات الأموال يتم غالباً تحويل الأموال إلى هذه الشركات الوهمية عبر عدة حسابات في بلدان مختلفة ولا يمكن تقريباً اكتشاف من يقف وراء هذه الشركة.
الملاذات السويسرية لتهريب العملة
في ذات السياق فقد تفجرت فضيحة أخرى بمنسوب أكبر، وتتعلق بالسرية المصرفية في سويسرا، والتي عرفت باسم “سويس ليكس، بعد سنوات من التحريات في وثائق سربها خبير المعلوماتية “أرفيه فالشياني” في عام 2007، عندما كان موظفا في مصرف أتش.أس.بي.سي سويس في جنيف، وكشفت الوثائق في تحقيق صحفي هو الأضخم في تاريخ المعاملات المالية، أن شركة “موساك فونيسكا” للخدمات القانونية التي تتخذ من بنما مقرا لها وتُعتبر إحدى أكثر الشركات التي تحيط أعمالها بالسرية، أنها تساعد المسؤولين في عدد من الدول على إخفاء الأموال المهربة.
وقد احتل المغربُ الرتبة السابعة والثلاثين بين البلدان التي تملكُ حسابات في مجموعة بنكيَّة بسويسرا، وقد جاء وراءه كل من هونغ كونغ وروسيا مباشرة في الترتيب، فيما كلٌّ منْ إيران ورومانيا وسوريا التي حلَّ عملاؤها في المركز الأربعين بالترتيب، بالرُّغم من الأوضاع التي تعيشها بلادهم.
، وحريٌّ بالذكر “HSBC”تعدُّ المجموعة البنكيَّة الثانية عالمِياً، حيثُ تشكل ائتلافاً بين بنوك كثيرة، موازاةً مع البنك البريطانِي للشرق الأوسط أنه يتخذُ من العاصمة البريطانيَّة مقرًّا له.
إن ما يعرف بفضيحة “سويس ليكس” التي جرت ملوكا ورؤساء دول ومسؤولين ورجال أعمال كبار منهم مغاربة، بتهمة تهريب المال العام والتهرب الضريبي، ليست سوى سحابة صيف فوق بحر نهب الثروات وتهريب مقابلها بالعملة الصعبة خارج الحدود، وهو ما يشكل جريمة ضد الإنسانية في ظل ما تعيشه بعض الدول من عجز خانق في الميزانية العامة، وانهيار للقطاعات الاجتماعية من صحة وتعليم.. فأن يقوم مسؤولون بالدولة بتهريب أموال هي من حق الشعب المغربي، دليل على استبداد حكم الأوليغارشية وتجويع الشعب، لذلك فكلما هبت نسائم انتفاضات شعبية قد تطيح بالفاسدين، يعمدون إلى ضمان مستقبلهم بتهريب العملة خارج الوطن.
تقريران صادمان يكشفان هول تهريب العملة من المغرب
ولعل بعض التقارير من جهات خارجية تفضح المستور بغض النظر عن الحسابات السياسية وراء الكشف عنها، فقد صدر تقرير أمريكي عن مؤسسة بوسطن الاستشارية، «ذا بوسطن كونسلتين جروب»، وهي شركة عالمية متخصصة في توفير الاستشارات الإدارية والمالية وتخطيط الأعمال، لها 77 مكتبا موزعا على 42 بلدا من بينها مكتب بالدار البيضاء بالمغرب، تتعامل مع العملاء في القطاع الخاص والحكومي والغير هادف للربح في جميع المناطق، لتحديد فرص لهم ذات القيمة العالية والتعامل مع أكثر التحديات الحرجة التي يواجهونها، يشير التقرير أن أكثر من 30 في المائة من الثروات التي تمتلكها الأسر المغربية الغنية بالمغرب موجودة خارج البلاد، وأن سويسرا تعتبر أكبر مركز جذب خارجي للثروات النقدية الخاصة القادمة من المغرب تليها المملكة المتحدة، التقرير الأمريكي الذي أصدرته مؤسسة بوسطن لم يبتعد زمنيا إلا بأشهر قليلة عن تقرير آخر لمؤسسة أمريكية أخرى، يشهد لها أيضا بالنزاهة والكفاءة لكونها أيضا مؤسسة غير ربحية، قدمت نفس الصورة القاتمة عن تهريب الأموال بالمغرب، واعتبرت أن هذه المبالغ المهربة تكفي المغرب لسد ديونه الخارجية، تشييد الطرق السيارة، وتغطية خصاصه من البنى التحتية والخدمات الاجتماعية كالمستشفيات والمدارس. ويشير التقرير أن الثروات المهربة جُمعت من قطاعات ترتبط ارتباطا وثيقا بصناعات استهلاكية، كصناعة المواد الغذائية الموجهة للاستهلاك الداخلي وبعضها موجه للتصدير، وخلص التقرير أن أقوى عائق يقف في وجه النهوض بالوضعية الاقتصادية بالمغرب للخروج بها من عنق زجاجة (الأزمة) : هو النزيف المالي الناتج عن تهريب الأموال، فهاته الأموال حسب خبراء المركزين الاقتصاديين كفيلة بالنهوض بالاقتصاد المغربي وإخراجه من أزمته، ومادام المغرب مستمرا في فقدانه هذه المبالغ المالية الكبيرة سنويا، فتقدمه الاقتصادي وازدهار مستوى معيشة سكانه يظل صعبا إن لم يكن مستحيلا، بحيث يتحدث التقرير الأمريكي عن استنزاف حوالي 34 ألف مليار سنتيم من الثروة الـنـقـديـة الوطنية، مما أفقد المغرب ما لا يقل عن 56 في المائة من ناتجه الداخلي الخام.
فقد وضع التقرير اليد على الجرح عندما أكد أن الأموال التي تهرب إلى بنوك بدول أجنبية يساوي ضعف المبالغ التي تدخل المغرب، مستعينا بلوبياته المختلفة من أجل الحصول عليها في إطار برامج المساعدات الإنمائية الخاصة بالتنمية، فالمغرب يخسر 10 دولارات على كل دولار واحد ممنوح في إطار المساعدات الخارجية الخاصة بمشاريع التنمية التي تمنحها المؤسسات الكبرى وفي مقدمتها البنك الدولي للتنمية، مما يعني أن المغرب يخسر ما يقارب عشر دولارات مقابل أن يحصل على دولار من المؤسسات المالية العالمية التي تقدم قروضا أو مساعدات مالية في إطار المساندة في تنمية الدول النامية.ولحد الآن لم يصدر أي تكذيب أو افتحاص من المجلس الأعلى للحسابات حول هاته التقارير.
أساليب شيطانية للتملص الضريبي وتهريب العملة
كما أن تقريرا آخر اعتُمد في إعداده على نموذجين في البحث والدراسة معمول بهما في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيت توصل إلى أن المغرب خسر على امتداد 38 سنة، أي من سنة 1970 إلى 2008، ما يفوق 33 مليارا و850 مليون دولار من الأموال التي تم تهريبها بطريقة غير شرعية في اتجاه دول أجنبية. وكنموذج عن الخطط الشيطانية التي تلجأ إليها بعض الشركات المغربية والأجنبية من أجل تهريب الأموال إلى الخارج بالعملة الصعبة وبطريقة قانونية في الظاهر، فإن الشركات المتهمة توهم الجهات المختصة بأنها عقدت صفقات مع شركات بالخارج من أجل استيراد السلع، فتحصل على إذن مكتب الصرف من أجل تحويل المبلغ المطلوب إلى حساب الشركة المتعامل معها بالخارج، لكن في المقابل تستورد سلعا بقيمة مالية حقيقية أقل بكثير جدا مما تتضمنه الأوراق، لتحتفظ بالفرق لنفسها بالبنوك الأجنبية وبالتواطئ مع تلك الشركات، وبصمت مكتب الصرف ؟؟
انهيار احتياطي العملة في المغرب بتبني سياسة “عفى الله عما سلف”
هذا النهب للثروات الوطنية وتهريب الجزء الأكبر منها على شكل عملة صعبة إلى الخارج كان ولا يزال سببا في مآسي اقتصادية واجتماعية تعيق النمو والتقدم، ولتغطية هذا النهب وخوفا من الانهيار الحتمي لدواليب الدولة، تلجأ هذه الأخيرة في كل مرة إلى طلب القروض الأجنبية، إضافة إلى القروض المحلية، أو ما نسميه بالدين الخارجي والدين الداخلي لتغطية جرائم تهريب العملة الصعبة، والاستمرار في إثقال كاهل الشعب والأجيال القادمة بالقروض وخدمتها وفوائدها.
فعندما اشتدت الأزمة المالية والاقتصادية وبدأت جائحة كوفيد 19 تجرف الأخضر واليابس ماليا واقتصاديا واجتماعيا، لجأت الدولة إلى استخدام خط الوقاية والسيولة لصندوق النقد الدولي، بسحب مبلغ يعادل ما يقارب 3 مليار دولار، لأنه ليس لديها احتياط نقدي بالعملة الصعبة، حيث جف ضرع بنك المغرب من احتياطي العملة بفعل تهريبها إلى الخارج، وقبل ذلك تم إطلاق إجراءات تحفيزية لاستعادة بعض الأموال المهربة إلى خارج البلاد بطريقة غير شرعية، تشمل العفو عن أصحابها وإعفائهم من الغرامات، حال إعادتها خلال مهلة زمنية لا تتعدى سنة.
وقد ورد ذلك في القانون المالي لسنة 2020، وتقوم العملية على إعلان حجم الأموال والممتلكات في الخارج بمساهمة إبرائية تساوي 10 في المائة من المبلغ الإجمالي للمداخيل العقارية المكتسبة، مقابل إعفائهم من أداء الضريبة على الدخل، وكذا إلغاء الزيادات والغرامات المنصوص عليها في المدونة العامة للضرائب.
في الواقع لم يكن هذا الإجراء إلا إعلانا لتسوية طوعية بشأن الممتلكات والموجودات المحتفظ بها خارج المغرب من قبل الأشخاص الذين أخلوا بالتزاماتهم (المهربون) تجاه مكتب الصرف، وتسوية طوعية جبائية في الداخل وفق الإجراءات المتخذة ضمن قانون الموازنة للسنة 2020، الذي نص على إعفاء أصحاب الأموال الخارجة من البلاد بطريقة غير شرعية، من العقوبات والغرامات، مقابل إعادة أموالهم إلى البلاد، ومنحت للأشخاص المعنيين، مهلة تبدأ من أول يناير حتى 31 أكتوبر 2020، للقيام بالتصريح وإرجاع الأموال، ويستفيد من قام بإرجاع الأموال من إعفاء من الرسوم المفروضة على دخول الأموال بنسبة 5%، في حال أودع 75% من أمواله في حساب بالعملة الصعبة و25% بالدرهم المغربي، كما يستفيد من اختار تحويلها إلى الدرهم المغربي من إعفاء الرسوم بنسبة أكبر.
وهنا تطرح علامة استفهام كبيرة حول وجود ودور ومسؤولية مكتب الصرف الذي يملك معطيات دقيقة حول تهريب الأموال من المغرب، وله آليات وتقنيات تمكن من التتبع الجيد للعمليات التي يشتبه فيها والتحري حول ما إذا تم استرجاع المداخيل الناتجة عنها بأكملها وأن التحويل ناجم بالفعل عن عمليات حقيقية، كما يعرف خريطة وطرق التهريب برا وجوا وبحرا، والأشخاص المهربين من الرأس إلى أخمص القدمين، ومع ذلك فان النزيف لم يتوقف.
وللتذكير فالعملية الأولى للعفو عن مهربي الأموال، التي نفذت سنة 2014، قد مكنت المغرب من استعادة نحو 27.8 مليار درهم (3 مليار دولار) من الأموال المهربة إلى الخارج خلال العام ذاته، وانقسمت تلك الأموال المسترجعة بين السيولة النقدية بقيمة 8.5 مليار درهم (923 مليون دولار)، والممتلكات العقارية بقيمة 9.5 مليار درهم (1.03 مليار دولار)، والاستثمارات المالية (الأسهم والسندات) بقيمة بلغت نحو 9.8 مليار درهم (1.06 مليار دولار)، مع العلم أن العقوبات والغرامات التي كان سيتعرض لها المساهمون في تهريب الأموال خارج البلاد تصل إلى ستة أضعاف المبلغ الذي يتم تهريبه، بالإضافة إلى عقوبة الحبس ما بين شهر وخمس سنوات، وذلك في حالة إحالة الملف إلى القضاء.
وفي إطار الحد من ظاهرة تهريب العملة على عموم المواطنين، فقد تم الإعلان في نهاية 2019، عن تدابير تهم قانون الصرف، بما يتيح للمغاربة الإقبال على فتح حسابات مصرفية بالعملة الصعبة في مصارف محلية، وذلك في ظل سعيه لتفادي إيداعهم أموالهم المتحصلة من عقارات أو من عمليات تجارية أو مالية في مصارف أجنبية خارجية، وتطويق تهريب الأموال، وسيمكن هذا التدبير الجديد بالنسبة للذين يتوفرون على أموال تتعلق بمصاريف السفر من أجل السياحة بفتح حساب في المصارف الأجنبية، كما سيخول للشركات التي تكون وضعيتها سليمة مع إدارة الضرائب بفتح حسابات من أجل عملياتها بالعملة الصعبة، ولا يطال هذا التدبير المغتربين المغاربة. إن هذه العملية يراد من ورائها تفادي عمليات تحويل العملة الصعبة إلى الخارج، في الوقت نفسه تهدف إلى دعم الموجودات المحلية من العملة الصعبة.
خلاصة :
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الدول، تعمد إلى تغيير عملتها للحد من ارتفاع معدلات تهريب الأموال إلى الخارج، وهذه الإجراءات المتخذة في عمومها تهدف للحد مظهريا من نزيف تهريب العملة، ولا تعني أن ما تم تهريبه قد عاد إلى قاعدته سالما كما يقول المثل، فما تم تهريبه يفوق عشرة أضعاف ما تم استرداده، والإجراءات بطبيعة الحال لن تسري على من تصدرت أسمائهم من المسؤولين وحاشية الدولة المخزنية قائمة “وثائق بنما” و “وسويس ليكس” وغيرهما، لأن ربط المسؤولية بالمحاسبة ليس إلا شعارا في دولة استبدادية.
من جهة أخرى يُستفاد من عدة مصادر أن احتياطيات المغرب من النقد الأجنبي تتأرجح ما بين الارتفاع والهبوط خلال الأسابيع الأخيرة التي تتزامن مع استمرار انتشار جائحة فيروس كورونا، والتي تسببت في أضرار بالغة للاقتصاد المغربي وتأثرت مصادر العملة الصعبة الرئيسية للبلاد، حيث بلغت الاحتياطيات من العملة الصعبة إلى غاية 5 يونيو 2020 ما مجموعه 287.7 مليار درهم، والتي تكفي فقط لتأمين 5 أشهر من الواردات من السلع (الغداء) والخدمات، حسب مؤشرات البنك المركزي.
عموما فإن تهريب الأموال جريمة أخلاقية قبل أن تكون قانونية وسياسية، فمثلا مغاربة المهجر يكدون طول السنة للادخار وجلب العملة الصعبة من الباب لتنشيط منظومة الاقتصاد، فيما يقوم لصوص المال العام بسرقتها وإخراجها من النافدة بكل أريحية نحو دول تعتبر جنات ضريبية كسويسرا التي تعرف تطورا في اقتصادها بشكل كبير، بفضل السيولة الكبيرة التي توفرها الحسابات البنكية للمهربين. ويبقى غياب الإرادة السياسية الحقيقية بالمغرب أبرز عائق لمحاربة تهريب الأموال نحو الخارج، على اعتبار أن المهربين هم أنفسهم النخب السياسية والمالية الحاكمة و كبار المسؤولين في الدولة، لتكون الطبقات الاجتماعية الأكبر تضررا من عمليات التهريب بالنظر إلى أنها هي التي في حاجة إلى خدمات القطاعات الاجتماعية العمومية.
وقد كشفت معطيات رسمية أن المغرب فقد خلال 4 عقود حوالي 14 ألف درهم بالنسبة لكل مغربي، بأدنى معدل للرأسمال القابل للاستثمار والتوظيف المجدي والمنتج داخليا، وذلك نتيجة تهريب الأموال إلى الخارج بطريقة غير شرعية إذ أضاع المغاربة عموما ما يفوق 56 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بسبب هذه الجرائم الاقتصادية والاجتماعية المقترفة في حق أجيال المغرب، في الوقت الذي تظل الطبقة الحاكمة هي المستفيد الأول من تهريب الأموال، إذ أن حجم هذه الأخيرة يفوق حجم المساعدات المالية الخارجية المرصودة للتنمية ويتجاوز أيضا حجم المديونة.
والأكيد أن تهريب الأموال وخاصة المتعلقة منها بالعملة الصعبة له آثار وخيمة على الاقتصاد الوطني لما له من تأثير على الاحتياطي النقدي وعلى الميزان التجاري وما يترتب عنه من نقص في العملة الصعبة التي تعتبر أداة التعامل على صعيد الاقتصاديات العالمية. فتهريب الأموال أو تحويلها غير القانوني غالبا ما يؤثر على العملة الوطنية في مقابل العملات الصعبة، ولعل كميات التحويلات غير القانونية التي تتم عن طريق التهريب المباشر أو غير المباشر تضرب في العمق الأنشطة الاقتصادية الوطنية في مختلف أبعادها، لذلك باتت هذه الآفة تنخر جسم الدولة خلال فترات الرخاء وأيضا الأزمات فغياب العملة الصعبة يشكل خطرا على السيادة الوطنية، وبوابة فقدان استقلال القرار الاقتصادي والسياسي ورهنه بمؤسسات القروض العالمية.