الزوايا والأضرحة.. البحث عن الخلاص المزيف

◆ جهاد الگنوني

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬العلوم‭ ‬النفسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الفلسفة،‭ ‬ساهمت‭ ‬بقسط‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تعميق‭ ‬فهم‭ ‬الناس‭ ‬لذواتهم‭ ‬ومحيطهم‭ ‬وأشكال‭ ‬علاقتهم‭ ‬وكيفية‭ ‬عمل‭ ‬مؤسسات‭ ‬تنشئتهم،‭ ‬فالفلسفة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬كبحث‭ ‬مستمر‭ ‬وتساؤل‭ ‬دائم‭ ‬للبديهيات‭ ‬التقليدية‭ ‬والثابتة‭ ‬وتحريض‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬التفكير‭ ‬والتدبر‭ ‬وتدريبه‭ ‬على‭ ‬النقد‭ ‬والتجريد‭ ‬وعدم‭ ‬تقبل‭ ‬الجاهز‭ ‬من‭ ‬الأفكار‭ ‬والإيديولوجيات‭ ‬و‭ ‬الممارسات،‭ ‬فتحت‭  ‬المجال‭ ‬للعقل‭ ‬البشري‭ ‬للاكتشاف‭ ‬الواسع‭ ‬للمعرفة‭ ‬اليقينية‭ ‬والعقلية،‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬الإنسان‭ ‬مرورا‭ ‬بمحيطه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬المشترك،‭ ‬بفك‭ ‬ألغاز‭ ‬الطبيعة‭ ‬وتفسير‭ ‬قوانينها‭.‬

لقد‭ ‬جاءت‭ ‬الفلسفة‭ ‬لتؤطر‭ ‬وتوجه‭ ‬عملية‭ ‬التفكير‭ ‬ومهارتي‭ ‬التمحيص‭ ‬والفحص،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كيفية‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬البسيط‭ ‬نفسه،‭ ‬والذي‭ ‬قد‭ ‬يعد‭ ‬قدرة‭ ‬من‭ ‬القدرات‭ ‬الفطرية‭ ‬المصاحبة‭ ‬للوعي‭ ‬الإنساني‭ ‬منذ‭ ‬الأزل‭ ‬قبل‭ ‬اكتشافه‭ ‬النار‭ ‬والصيد‭.. ‬فالطفل‭ ‬في‭ ‬مراحله‭ ‬العمرية‭ ‬الأولى‭ ‬يستطيع‭ ‬أيضا‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬الوجودي‭ ‬المباشر‭ ‬بشكل‭ ‬عفوي‭ ‬وتلقائي‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬قاعدة‭ ‬أو‭ ‬قانون،‭ ‬مدفوعا‭ ‬بالرغبة‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬جواب‭ ‬يقيني‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ” ‬كيف‭ ‬وجدت‭ ‬وحضر‭ ‬كياني‭ ‬لهذا‭ ‬العالم‭” ‬و‭ ‬قد‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬إجابة‭ ‬شافية‭ ‬وقد‭ ‬يرافقه‭ ‬فراغ‭ ‬الإجابة‭ ‬إلى‭ ‬مثواه‭ ‬الأخير‭.‬

من‭ ‬مهام‭ ‬التفكير‭ ‬الفلسفي‭ ‬العقلاني‭ ‬أيضا‭ ‬هو‭ ‬تكسير‭ ‬حاجز‭ ‬الصمت‭ ‬داخلنا‭ ‬وتحطيم‭ ‬بعض‭ ‬التمثلات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وتبيان‭ ‬عيوبها‭ ‬وجوانب‭ ‬قصورها‭. ‬لكن‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك؟،‭ ‬وماذا‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تنجح‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬اكتشفت‭ ‬حديثا‭ ‬في‭ ‬قهر‭ ‬سلطة‭ ‬الغول‭ ‬المتوحش‭ ‬داخلنا،‭ ‬ألا‭ ‬و‭ ‬هو‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬فراغ‭ ‬الإجابة‭ ‬أو‭ ‬عبثيتها،‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬المجهول‭ ‬والمستقبل،‭ ‬ومن‭ ‬العقاب‭ ‬واللعنة؟؟

لقد‭ ‬عمل‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬الأزل‭ ‬على‭ ‬مقاومة‭ ‬الشعور‭ ‬بالخوف‭ ‬لديه،‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬الغريزي‭ ‬الذي‭ ‬يتقاسم‭ ‬مرارته‭ ‬مع‭ ‬الحيوان‭ ‬أيضا،‭ ‬بشتى‭ ‬الطرق‭ ‬وبمختلف‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬صنعها‭ ‬وابتكرها،‭ ‬لكنه‭ ‬عدو‭ ‬شرس‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬ما‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تدمر‭ ‬الإنسان‭ ‬وتبتلعه‭ ‬ليتحول‭ ‬هذا‭ ‬العراك‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬دائم‭ ‬مخلفا‭ ‬وراءه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المعاناة‭ ‬والألم‭. ‬لذلك،‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬لحظات‭ ‬تطور‭ ‬الفكر‭ ‬والكائن‭ ‬البشريين،‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬الإنسان‭ ‬له‭ ‬منفذا‭ ‬سوى‭ ‬في‭ ‬التعبيرات‭ ‬الفنية‭ ‬وداخل‭ ‬حبكة‭ ‬الأساطير‭ ‬والقصص‭ ‬الخيالية‭ ‬الخرافية‭ ‬وبين‭ ‬التفسيرات‭ ‬الدينية‭ ‬والأطروحات‭ ‬الفلسفية،

ومن‭ ‬بين‭ ‬أشكال‭ ‬التنفيس‭ ‬الجماعي‭ ‬والفردي‭ ‬عن‭ ‬الألم‭ ‬والخوف‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ “‬ظاهرة‭ ‬الزوايا‭”.‬

إن‭ ‬استحضار‭ ‬نظرة‭ ‬عامة‭ ‬على‭ ‬جغرافيا‭ ‬المغرب‭ ‬يعطينا‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬عن‭ ‬الانتشار‭ ‬البين‭ ‬ل‭ “‬مؤسسات‭”  ‬الأضرحة‭ ‬والزوايا‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المناطق،‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭ ‬بين‭ ‬الحواضر‭ ‬والبوادي،‭ ‬والتي‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬زمن‭ ‬تأسيسها‭ ‬من‭ ‬عهد‭ ‬الأدارسة‭ ‬إلى‭ ‬وقتنا‭ ‬الراهن‭.‬

إن‭ ‬الزوايا‭ ‬والأضرحة‭ ‬تعتبر‭ ‬مرتعا‭ ‬تلتجئ‭ ‬إليه‭ ‬الأرواح‭ ‬المتعبة‭ ‬من‭ ‬قساوة‭ ‬الحياة،‭ ‬باحثة‭ ‬عن‭ ‬خلاصها‭ ‬واستقرارها‭ ‬النفسي‭ ‬والذهني‭ ‬ضمن‭ ‬وجع‭ ‬الجماعة‭ ‬المشترك،‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬ونحن‭ ‬أصحاب‭ ‬المثل‭ ‬العربي‭ “‬إذا‭ ‬عمّت‭ ‬هانت‭”‬،‭ ‬فكلما‭ ‬كانت‭ ‬المصائب‭ ‬والمأساة‭ ‬جماعية‭ ‬كلما‭ ‬قل‭ ‬ثقل‭ ‬حملها‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬نستحضر‭ ‬قولة‭ ‬للكاتب‭ ‬المصري‭ ‬يوسف‭ ‬زيدان‭ ‬في‭ ‬روايته‭ “‬عزازيل‭” ‬التي‭ ‬سرد‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬قصة‭ ‬الراهب‭ ‬هيبا،‭ ‬ذاك‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬جال‭ ‬أرض‭ ‬الله‭ ‬الواسعة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الحرية‭ ‬وتحقيق‭ ‬العدل،‭ ‬هذه‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬سلخت‭ ‬وعذبت‭ ‬في‭ ‬سبيلها‭ ‬الفيلسوفة‭ ‬والعالمة‭ ‬هيباتيا‭ ‬أيضا،‭ ‬والتي‭ ‬ذكرت‭ ‬كوجع‭ ‬لا‭ ‬كبطلة‭ ‬ضمن‭ ‬الرواية‭ ‬نفسها‭.‬

تقول‭ ‬المقولة‭ “‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬أسمى‭ ‬من‭ ‬دفع‭ ‬الآلام‭ ‬عن‭ ‬إنسان‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬ألمه‭”. ‬ولعل‭ ‬زيارة‭ ‬الأضرحة‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬طقوس‭ ‬الشعوذة‭ ‬والتقديس،‭ ‬ماهي‭ ‬إلا‭ ‬إفصاح‭ ‬غير‭ ‬مباشر‭ ‬عن‭ ‬خيبة‭ ‬الأمل‭ ‬والخذلان‭ ‬اللذان‭ ‬قد‭ ‬يصطدم‭ ‬بهما‭ ‬الإنسان‭ ‬حينما‭ ‬يشقى‭ ‬ويخفق‭ ‬في‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬والتعبير‭ ‬من‭ ‬مشاعره‭ ‬وإحباطاته،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬مكانا‭ ‬يأويها‭ ‬ويحتضنها،‭ ‬وأحيانا‭ ‬يلتجئ‭ ‬الإنسان‭ ‬لأي‭ ‬مكان‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاستمرار‭ ‬والعيش‭.. ‬وتلك‭ ‬وظيفة‭ ‬الزوايا‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬لم‭ ‬تتوفر‭ ‬له‭ ‬بعد‭ ‬المقومات‭ ‬العقلانية‭ ‬الحقيقية‭ ‬لبناء‭ ‬وضمان‭ ‬وجوده‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى