عمر بنجلون.. الكلام المسكوت عنه
يوسف الطاهري
ونحن نعيش الذكرى 46 لاغتيال الشهيد عمر بنجلون، آثرتا تناول موضوعه كمثقف عضوي، من المثقفين والسياسيين المغاربة الأكثر جرأة وذكاء، من زاوية المناطق المسكوت عنها في تاريخ المغرب. يقدم الصحفي والكاتب الفرنسي «إنياس دال» «Ignace Dalle» الفصل الخاص باغتيال عمر بنجلون في كتابه «الملوك الثلاثة، الملكية المغربية من الاستقلال إلى اليوم»، بتصريح لوزير الداخلية السابق إدريس البصري، يقول فيه: « كنت وقتها كاتب الدولة، وكان عمر بنجلون يمثل التيار الأكثر صلابة في الاتحاد. كان الزعيم الجذري الوحيد الموجود على قيد الحياة. كان له مزاج سيئ مثل الكثير من الوجديين. بعد فترة قليلة من خروجه من السجن، قام بزيارتي في بادية بنسليمان رفقة لحبيب السي ناصر شقيق علال وذلك قبل أن يتوجه إلى عائلته. قال لي: أتيت إليك لأخبرك بعمق ما أفكر فيه، نعم أنا ثوري، لكن الملك قام بالعفو عنا. أردت أن أكلفك بنقل رسالة إليه. نريد أن نعقد اتفاقا معه، على الملك أن يسمح لنا بالحكم خمس سنوات، ونحن مسؤولون أمامه عن النتائج، قل له إننا لن نغير شيئا لأن كل خيرات الأمة في يد الدولة عبر مكاتبها الوطنية أو قطاعها العام. ويجب فقط إدارتها بشكل جيد، قد نشتغل على قاعدة اشتراكية. المهم بالنسبة لنا هو دوران الآلة في الاتجاه الصحيح «. إنه من الطبيعي أن يرفض الملك هذا المقترح، وبعدها اغتيل عمر بنجلون من قبل عبد الكريم مطيع…» يورد «إنياس دال «Ignace Dalle» «هذا التصريح ليعرف بوجهة نظر المخزن في قضية اغتيال عمر بنجلون. لكن لهذا التصريح دلالات أخرى يمكن استكشافها بدون عناء في قراءته، نوجزها في دلالتين : ـ الأولى: وهي أن التصريح يثبت بأن عمر وبثقة قوية في النفس، يدرك أنه من موقعه كقائد سياسي يشكل قوة موازية لقوة النظام ومن شأنه بل ومن حقه أن يقدم مقترحات من أجل بناء مجتمع منسجم مع تصوره السياسي الاقتصادي الاجتماعي. وقتها كان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (ومن قبله الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) يزعج النظام ويشكل العمود الفقري لحركة اليسار المغربي. ـ الثانية: وهي أن التصريح يؤكد أن عمر يضع الملك في مرتبة قائد سياسي يمكن محاورته في أمور تخص الدولة والمجتمع وليس مقدسا كما حضي بذلك في الدساتير السابقة. الذين عرفوا عمر والذين بحثوا في شأنه يدركون مستواه الفكري وتجربته التنظيمية السياسية والنقابية، وقد لا يشكون في تصريح إدريس البصري، بحكم معرفتهم بجرأة عمر في الحديث عن مختلف القضايا التي تهم البلاد. ولا غرابة ولا شيء مفاجئ في هذه الرسالة الموجهة إلى الملك، إن علمنا حدة الصراع التي كانت في المرحلة، حيث أن عمر صرح لمرافقيه أكثر من مرة قائلا: «سألتقي بالحسن الثاني عندما يوافق على استقبالي بحضور مفوض قضائي.» « J’irais rencontrer Hassan II quand il acceptera de me recevoir en présence d’un huissier de justice. »
عمر النبوغ الدراسي والفكري والوعي السياسي المبكر
نبغ عمر بنجلون منذ طفولته في سن مبكر في الدراسة، حيث بدأ من الكُتاب إلى المدرسة الابتدائية وسط أبناء الأعيان والفرنسيين، حيث قال عن الشهيد عمر في طفولته، أحد الفرنسيين يدعى شانون Chanon وهو مدير إحدى مدارس”بركم” أو “بركنت” قبل أن تسمى عين بني مطهر: “احذروا من عمر هذا.. سيكون له شأن عظيم “.
«Méfiez-vous de ce Omar, il sera quelqu’un !«
وقد وقعت حادثة في سنة 1948 وهو يبلغ من العمر 12 اثني عشرة سنة، تُجسد بجلاء وعيه السياسي المبكر، وهي عندما دعا رفاقه التلاميذ إلى مقاطعة ترديد النشيد الوطني الفرنسي “La Marseillaise” في وسط المدينة، وكان ذلك تقليدا فرضته السلطة الاستعمارية على المواطنين المغاربة. وسيعاقب التلاميذ المغاربة على مقاطعتهم للنشيد الفرنسي بالحرمان من طعام المقصف لمدة أسبوع.
سيحصل على الباكالوريا في شعبة العلوم بامتياز في ثانوية عمر بن عبد العزيز بمدينة وجدة برفقة عبد العزيز بوتفليقة الرئيس الجزائري السابق
ـ ويا لصدف دسائس هذا الأخير على صحرائنا ـ. وبما أن عمر حصل على الجائزة الأولى فقد فاز برحلة مؤدى عنها. وكان له الاختيار بين رحلة إلى فرنسا أو إلى مصر، واختار زيارة القاهرة. وفي نفس السنة حصل كذلك على منحة دراسية من المدرسة العليا للاتصالات بباريس.
سيحصل على الإجازة في الحقوق ثم دبلوم الدراسات العليا في القانون العام، وقد حصل كذلك على المرتبة الأولى ضمن الفوج المتخرج من المدرسة العليا للاتصالات سنة 1959/1960. ومن النوادر التي يحكيها عبد الجليل باحدو عن عمر وهو الذي رافقه لمدة طويلة خاصة في جريدة المحرر. أنه لما حصل عمر على دبلوم المدرسة العليا للاتصالات، وزعت السلطات الفرنسية جوائز على الفائزين بالمرتبة الأولى. وقد أشرف على حفل توزيع الجوائز الرئيس الفرنسي شارل ديغول. وعندما تقدم عمر لتسلم الجائزة، لاحظ ديغول أن عمر بنجلون قصير القامة، فقال مندهشا:
– عجبا هذا القصير القامة هو الفائز بالمرتبة الأولى.
– Comment il est petit de taille ce garçon
فأجاب عمر بعفوية: – نعم أنا قصير القامة ولكن طويل في الأسفل.
– Vraiment je suis petit de taille mais grand en bas.
فما كان على ديغول إلا أن انفجر ضحكا.
في باريس تشبع عمر بالفكر الاشتراكي وتأثر بما يغزو العالم من ثورات في كافة أنحاء العالم وفي أوساط الطلاب بالخصوص، وكانت الثورة الصينية حديثة العهد وتطورات أحداث الكفاح المسلح في أمريكا اللاتينية وإفريقيا ضد الاستعمار والصراعات الفكرية التي عرفتها الساحة الفرنسية والعالمية. وبمجرد اطلاعه على ما يجري في المغرب من تطورات الصراع داخل حزب الاستقلال، سيجتمع برفاقه من الطلاب يوم 25 يناير 1959 ليعلنوا استقالتهم من حزب الاستقلال، ومباشرة بعد الإعلان عن تأسيس بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية يوم 29 يناير 59، سيعلنون التحاقهم به. وبحكم ديناميكيته وحيويته النقابية وسط الحركة الطلابية ترأس فرع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في سنة 57 أي أقل من سنة على تأسيسه، وكذلك ترأس جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا.
وارتباطا بهذه الفترة التي أقام فيها عمر بنجلون في باريس، يروي عبد الرحيم برادة صديق عمر بنجلون في حياته ومحامي دفاعه في قضية اغتياله، في حوار له مع مجلة زمان بالفرنسية، أنه ذات يوم من سنة 1959 أخبره عمر أن الأمير الحسن سيحل بباريس، و أنه من المفترض أن يلتقي به في نفس اليوم ب فندق “كربون” وطًلب منه الالتحاق بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية مجموعة فرنسا، وحضور اللقاء مع الأمير الحسن . لكنه لم يتمكن من حضوره. وفي اليوم الموالي أخبره عمر بنجلون أنه وقع في عراك جسدي بينه وبين الأمير لأن “الشريف” كما يسميه عمر تفوه بكلام مسيء من غير الممكن السكوت عنه. وهو جزء من تاريخ حدة اشتباك الرؤى في تلك المرحلة.
تصريح عبد الرحيم برادة يطابق ما جاء به مقال لمحمد بودرهم في مجلة “تيل كيل” بالفرنسية تحت عنوان:
Enquête.. La vérité sur l’assassinat d’Omar Benjelloun
” تحقيق.. حقيقة اغتيال عمر بنجلون” الصادر يوم 19 يوليوز 2012. “
والذي يقول إن بعض أصدقاء عمر بنجلون ومن عايشوه في باريس يرجعون توتر العلاقات بينه وبين الحسن الثاني إلى أواخر الخمسينات، حيث كان من المفروض أن يلقى ولي العهد الحسن كلمة في ندوة نظمتها جمعية الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا التي كان يرأسها عمر بنجلون، ورفض عمر منحه الكلمة قائلا: “لا يمكننا الادعاء شرعيا الحديث باسم الشعب عندما نولد في القصر.”
« On ne peut pas prétendre légitimement parler au nom du peuple quand on est né dans un palais. »
هذا الحدث جعل الحسن الثاني لا يرتاح لعمر بنجلون طوال حياته، وستزداد المسافة اتساعا بينهما بعد وقوع أحداث موالية في المغرب أغضبت الحسن الثاني كثيرا.
عمر بعد إعدام عمر دهكون ومجموعته: “سيأتي دورنا ولكن ليس بالطرق القانونية”
عاد عمر إلى المغرب في سنة 1960 يحمل في صدره طموحا كبيرا وأملا في المساهمة في التغيير، وبدا وكأنه ككتلة من لهب في ممارسته التنظيمية السياسية النقابية والفكرية، ويمارس الصراع السياسي بمنطلقات فكرية اكتسبها من خلال تجربته سواء في المغرب أو السنوات التي قضاها في فرنسا. وذلك ما سيكلفه معاناة قاسية طوال حياته، من جهة في صراعه ضد ما ينعته بالاتجاه التحريفي داخل الاتحاد المغربي للشغل، ومن جهة أخرى من خلال الرقابة اليومية عليه أو الاعتقالات العديدة والتعذيب الشديد الذي تعرض له بداخل المخفرين السريين دار المقري و درب مولاي الشريف وفي السجون.
تعتبر محطة الإضراب اللامحدود الذي دعت له فدرالية نقابة البريد التابعة لنقابة الاتحاد المغربي للشغل سنة 1961، محطة ستجعل الحسن الثاني يزداد غضبا من عمر بنجلون، من جهة لأن عمر بنجلون رفض توقيف إضراب نقابة فدرالية البريد تلبية لرغبة المحجوب بن الصديق، وهو يعلم أن الحسن الثاني هو الذي أمر المحجوب بن الصديق بذلك، وقد اعتبره الحسن الثاني ذلك تحديا مباشرا له، مما زاده احتقانا وغضبا من عمر بنجلون. وقد أشار لذلك رفيق عمر: مبارك المتوكل في إطار ندوة نظمها حزب الطليعة ب”أفينيون” في الذكرى 39 لاغتياله. وعلى إثر هذا الإضراب تم طرده من وظيفته.
في سنة 61 سيتعرض لتعذيب شديد من قبل زمرة من الموالين لقيادة الاتحاد المغربي للشغل، والتي ذكرها عمر في رسالة وجهها للمحجوب بن الصديق سنة 1963، وبعد انتخابه عضوا في اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنبثقة عن المؤتمر الثاني سنة 1962 سيتم اعتقاله خلال اجتماع اللجنة المركزية الموسعة المنعقدة بالدار البيضاء يوم 16 غشت، وكانت التهمة ما يعرف بالمؤامرة ضد النظام سنة 1963 والتي شن خلالها النظام حملة واسعة من القمع والاعتقال ضد مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وسيصدر في حقه حكم بالإعدام ومعه محمد الفقيه البصري ومومن الديوري، وعلى المهدي بنبركة غيابيا.
وفي يوم 14 أبريل 1965 سيصدر العفو عنهم باستثناء المهدي بنبركة. لكنه لم يتمكن من استرجاع أنفاسه وهو خارج السجن، ليتم اعتقاله من جديد في 16 مارس 1966 ليقضي سنة ونصف من السجن النافذ وسيطلق سراحه يوم 21 شتنبر 1967.
خلال الفترة الفاصلة ما بين 67 و 72 انشغل عمر بثلاث مهام أساسية:
1 – القضية الفلسطينية التي شكلت هما رئيسيا لدى الشهيد عمر، خاصة بعد هزيمة يونيو 1967 والتي أنشأ من أجلها مجلة “فلسطين”. وساهم في النقاشات الدائرة حول القضية الفلسطينية، ويرجع له الفضل في تبني اليسار المغربي اعتبار القضية الفلسطينية قضية وطنية. ويعتبر مقاله في مجلة أنفاس سنة 69 تحت عنوان: سلوك أطرنا تجاه القضية الفلسطينية من أهم ما أنتج نظريا في المغرب في الموقف من القضية الفلسطينية.
2 – العمل على إعادة هيكلة التنظيم الحزبي بعد الجمود القاتل الذي عرفه بعدما عرف بالاتفاقية الفوقية سنة 67 بين قيادتي الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد الوطني للقوات الشعبية. والذي كان له دور حاسم في اختيار الكفاح المسلح أسلوبا من أجل التغيير لدى جزء مهم من القواعد الحزبية. وسيتوفق في تحقيق انطلاقة جديدة للتنظيم الحزبي فيما عرف بانطلاقة 30 يوليوز. وسيعتمد التنظيم الحزبي على المذكرة التنظيمية التي أنجزها عمر وهو في السجن سنة 64/ 65.
3 –كان نشاطه في الاتحاد المغربي للشغل يتمحور حول تأطير وتعبئة العمال من أجل مواجهة الاتجاه “البورصاوي” في تلك المرحلة، وبناء نقابة قوية وسيتوج ذلك بتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بعد ثلاث سنوات من اغتياله.
يحكي عبد الجليل باحدو أنه زار عبد الرحمن بنعمرو في مكتبه في يوم 13 يناير 1973 وهو اليوم الذي تم فيه تنفيذ حكم الإعدام في حق العسكريين، وأخبره عبد الرحمن بنعمرو أنه حضر تنفيذ الحكم كدفاع عن أمقران. وأن أمقران حمله رسالة إلى عمر يقول فيها: “قل لعمر يجمع راسو”.
ويُعرف أن أمقران أخبر المعتقلين السياسيين في السجن المركزي بالقنيطرة بأن يحملوا رسالة إلى عمر بنجلون ومحمد اليازغي وهي أن يتوخيا الحذر.
وصدقت رسالة أمقران حيث توصل كل من عمر بنجلون ومحمد اليازغي بطرد ملغوم على شكل كتاب، حاول اليازغي فتح الطرد فتفجر بين يديه ونقل إلى المستشفى في حالة خطيرة، بينما عمر شك في الطرد وانتبه إلى أنه اليوم أحد وهو يوم عطلة بالنسبة لمصلحة البريد فألقاه في الحديقة. وكان ذلك في نفس اليوم الذي أعدم فيه العسكريون.
ستة أيام بعد أحداث 3 مارس 1973 أو ما يعرف بأحداث مولاي بوعزة والتي وقعت فيها اشتباكات مسلحة بين مناضلي التنظيم السري الاتحادي مع النظام، سيتم اعتقال عمر بنجلون من جديد وذلك في 9 مارس 1973 ليتم إطلاق سراحه يوم 27 غشت 1974.
طوال حياته كان مقتنعا بأنه لن ينجو من قبضة القمع، وعندما علم عمر بتنفيذ حكم الإعدام في حق عمر دهكون ومجموعته صباح يوم الخميس فاتح نونبر من سنة 1973، كان يقول: سيأتي دورنا ولكن ليس بالطرق القانونية.
عمر للمكتب السياسي: “إن كنتم مستعدون لتنازل فج فأنا غير مستعد لذلك”
بعد الانقلابين العسكريين لسنة 71 و 72 ثم أحداث أولاد خليفة وأحداث 3 مارس وبعد حملات قمعية واسعة شملت الاتحاديين واليسار بشكل عام والحركة الطلابية والتي تم حظر منظمتها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب يوم 24 يناير 1973، عاش النظام عزلة غير مسبوقة، ولم يكن له سبيل للخروج منها غير إعلان ما سمي بمشروع الانفتاح تحت شعاري الإجماع الوطني والمسلسل الديمقراطي، خاصة وأنه وجد في قضية الصحراء المغربية فرصة ذهبيه لتحقيق مشروعه في احتواء الوضع العام و دمج القوى السياسية في لعبته، من خلال ما سمي بتقوية الجبهة الداخلية والتي تهدف إلى خلق إجماع حول اختياراته السياسية الاقتصادية والاجتماعية اللاديمقراطية واللاشعبية.
بعد خروج عمر من السجن سنة 74 تولى إدارة جريدة المحرر التي ستزيد من إحراج القيادة الحزبية في علاقتها بالحسن الثاني، وقد برز عمر من خلال افتتاحيته “بكل صراحة” التي كانت ذكية وغنية بالإشارات السياسية في معانيها. وأصبح النظام يرى فيه عائقا أمام تحقيق مراميه ورغباته في تطويع الاتحاد الاشتراكي ليصبح أداة لضبط الاستقرار السياسي.
كان عمر يدرك أهداف النظام بفتح حوار مع القوى السياسية في قضية الصحراء، والتي كان يربطها الشهيد بقضايا الديمقراطية، بما فيها تصفية الأجواء السياسية من خلال إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين وانتخاب مجلس تأسيسي من أجل دستور ديمقراطي وبرنامج استعجالي اقتصادي واجتماعي.. إلى أن جاء يوم اجتماع المكتب السياسي الذي سينعقد في منزل عبد الرحيم بوعبيد في بن سليمان يوم 11 ماي 1975، والذي سيتم فيه تهميش عمر وإقصائه من الحضور من خلال مناورة تكليفه بالسهر على المؤتمر الإقليمي لإقليم أسفي في نفس اليوم.
عندما اكتشف عمر مناورة رفاقه في المكتب السياسي، ابتعد مدة أيام واعتكف في منزله لا يرد على المكالمات الهاتفية سواء في منزله أو في مكتبه، غضبا على ما جرى له من تهميش وإقصاء، وعند عودته لجريدة المحرر بعد ستة أيام سيحكي لرفاقه في لجنة التحرير تفاصيل ما جرى.
ويقول عبد الجليل باحدو، وهو رفيق عمر بنجلون وصحفي في جريدة المحرر في ندوة نظمها حزب الطليعة بأوروبا بمناسبة ذكرى اغتيال الشهيد عمر بنجلون سنة 2016، إن عمر حكى لهم عن التعب الكبير الذي أصابه أثناء السهر على المؤتمر الإقليمي لأسفي، وأنه انطلق من أسفي حوالي العاشرة صباحا ليصل إلى منزل عبد الرحيم بوعبيد حوالي الثانية والنصف بعد الزوال وكادت سيارته أن تنقلب بسبب العياء والسرعة، وعندما وصل المنزل وجد أعضاء المكتب السياسي يشربون القهوة في شرفة المنزل وقد صُدِمُوا بحضوره، واختلى به لحبابي وأوجز له ما جرى في الاجتماع ونتائجه، ومن بينها اتخاذ قرار المشاركة في الانتخابات ووزعت المهام على أعضاء المكتب السياسي من أجل ذلك. وقال عمر بنجلون للحبابي بعد اكتشاف مؤامرة إقصائه من اجتماع المكتب السياسي «C’est à refaire». بعدها، استؤنف الاجتماع ودام حوالي 8 ساعات واستفاض عمر في النقاش حول استراتيجية الحزب وقضايا المعتقلين السياسيين والمنفيين والعلاقة مع القصر..، وقال عمر إنه بالرغم من أنه كان يحترم عبد الرحيم بوعبيد، فإنه لأول مرة يخاطبه بكلمات غير لائقة. قال “وتوجهت إلى أعضاء المكتب السياسي وقلت لهم: إن كنتم مستعدين لإنزال ـ سراويلكم ـ فأنا غير مستعد لذلك سواء بالقوة أو عن طيب خاطر.”
بعد أسابيع سيتوصل عبد الرحيم بوعبيد برسالة شفوية من الملك، نقلها إليه إدريس السلاوي مفادها أن الملك غاضب من عمر ويرى أنه ” يضع العصا في “الرويدة”، وإذا كنتم غير قادرين على لجمه، فالمخزن قاد بيه “. لكن عبد الرحيم بوعبيد لم يخبر عمر برسالة القصر، كلما فعله هو أنه اقترح عليه السفر إلى باريس، مما زاد من غضب عمر وقال بطريقته الساخرة: “يعلم عبد الرحيم أنني مسؤول على التنظيم وعلى القطاع العمالي وعلى الجريدة وعن المكتب والعائلة، فليذهب هو إلى باريس ليقرأ جريدة لوموند في شانزيلزي”. كانت حدة الاشتباك في أوجها.
واستمر السؤال المؤرق سواء بالنسبة لعمر أو لرفاقه المقربين وللقواعد الحزبية: من أخبر القصر بما جرى داخل اجتماع المكتب السياسي؟ ولماذا قام المكتب السياسي نفسه بإبعاده من الاجتماع الذي سيتمحور حول قضايا مصيرية بالنسبة للحزب والشعب المغربي وهي قضية الانتخابات؟
أخيرا وعلى سبيل الختام نقول إن ما سبق وأدرجناه من مواقف للشهيد عمر وصموده في وجه آلة القمع، تفند بجلاء الادعاء بأن اغتياله هو فقط محاولة لإجهاض الاتفاق بين القصر والاتحاد، فتلك مزاعم تبحث عن تبرئة المخزن من جريمة اغتيال عمر. بل إن عمر اغتيل بسبب مواقفه الجريئة والصامدة. وربما اغتيل لأنه كان لا يريد تقاربا ولا توافقا مع المخزن في تلك الفترة العصيبة التي عرفتها البلاد، بدون أرضية لتحقيق الديمقراطية الحقة.