يحيى علي عبد النور ستبقى حيا في وجدان المنفيين المغاربة – رمزا وبطلا للثورة الجزائرية المتجددة
◆ أحمد الطالبي المسعودي
صديقي علي يحيى عبد النور، ليس كل من مات قد عاش، وليس كل من يزفر ويشهق في الدنيا تجري في عروقه دماء. الموت ليس مشكلة، ولا هو بالامتحان الأخير، بل السؤال هو كيف نعيش؟
وأنت عشت قرنا من الزمن (1921 – 2021)، مسلحا بالفعل والطموح، مكافحا من أجل استعادة وطنك المغتصب من المحتل الفرنسي، عبر انخراطك المبكر في صفوف حزب الشعب الجزائري، خلال أربعينيات القرن الماضي، ثم حركة انتصار الحريات الديمقراطية، تجربة هيأتك لتكون واحدا من أعمدة الحركة الوطنية الجزائرية وثورة التحرير الشعبية، وقائدا عماليا اعتبر فاعلا أساسيا في إضراب جبهة التحرير الوطني عام 1956، بصفتك عضوا في نقابة المعلمين، مما أدى إلى وضعك رهن الإقامة الجبرية إلى العام 1960.
بعد الاستقلال، بقيت ملتزما بالعطاء والسخاء النضالي من موقعك في قيادة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، قبل تعيينك سنة 1965 وزيرا للأشغال العمومية ثم الفلاحة، لكنك ستستقيل من المنصب الحكومي عام 1968، لأنه لم يكن من شيمك إظهار المراوغة فضيلة، أو فنا في التعامل، أو دهاء، أو بحثا عن أهون الشرين. قناعتك لم تكن تجبرك على تقديم التنازلات وتسويغها وعقلنتها، لتكسب تأشيرة مرور نحو النخبة المسيطرة المكتفية بمصالحها، وبما يحفظ “ديمومتها السلطوية”، لأن أخلاقك لم تكن تسمح لتاريخك النضالي أن يكنس به الأرض. لدى بقيت دوما حريصا على ألا تنحني، مؤمنا بقيم الثورة وبأن التحول والتغيير لا زال ممكنا. حلم لم يكن يفارق أجفانك، لذلك حاولت السلطة اختبارك، وعملت جاهدة من أجل تطويعك.
وحين واتتها المناسبة ستعمل على اعتقالك على إثر التظاهرات التي اكتسحت مناطق القبائل بداية الثمانينات وأنت المنحدر من تيزي وزو المناضلة. تم ذلك إبان حكم الشاذلي بن جديد، وشملت الاعتقالات مختلف الأطياف السياسية الجزائرية: قيادات الحركة الإسلامية وقواعدها، مناضلو وأنصار الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، مناضلو الحركة التروتسكية، زعماء القبائل، تتقدمهم فطومة وزكان وابنها فوزي ويحيى، فضلا عن صديقي علي يحيى عبد النور.
شائت الظروف أنني كنت خلال الفترة ذاتها، معتقلا بسجن البرواكية، في إطار تصفية حسابات النظام الجزائري مع مواقف اللاجئين المغاربة تجاه قضية الصحراء المغربية.
في سجن “البرواكية”، الواقع ناحية المديّة، والذي أسسته السلطات الاستعمارية، لتزجّ فيه بمعتقلي الثورة الجزائرية، كان قيد الاعتقال إلى جانب وزير الفلاحة والأشغال العمومية سابقا،علي يحيى عبد النور، رمز آخر من رموز الثورة، الدكتور محمد الصغير النقاش، وزير الصحة في أول حكومة جزائرية، والذي سيطلق اسمه على المستشفى العسكري بعد وفاته.
بعد أن قضينا شهرا تحت أبشع أنواع التعذيب وأسابيعَ من العزلة في زنازين انفرادية، سيتم اقتيادنا لأول مرة إلى الحمام للاغتسال وتنظيف أجسادنا، وأنا تحت ماء الدش إلى جانب العشرات من السجناء، سأسترعي انتباه صديقي علي يحيى عبد النور، وهو يتأمل في وجهي، طالعته باستغراب، وقبل أن اسأله عن أسباب الاعتقال، بادرني بالسؤال، أنت مغربي، ماذا تفعل هنا؟ وبسخرية سوداء عن مآل ثورة تأكل أبناءها، أعدت عليه نفس السؤال، أنت جزائري، ماذا تفعل هنا؟
لم يكن السؤال، يحتاج من كلينا نحن الاثنين جوابا، باعتبار الحلم الذي جمعنا “وطن مغاربي كبير يتسع لكل أبنائه ويتكامل فيما بينه”، فإذا به زنزانة تسعى لوأد الأحلام والقتل والتدمير، أحلام وقيم شكلت جوهرنا الإنساني وأفقنا النضالي، كانت مثار العديد من الحوارات في مجالس تمت إبان مرحلة الشادلي بن جديد خاصة، وجمعت العديد من المنفيين المغاربة وفعاليات جزائرية من مشارب سياسية مختلفة، وعلى رأسهم علي يحيى عبد النور، عبد القادر قاسي (أصبح في ما بعد مستشارا لرئيس الجمهورية)، عزيز بنميلود (أصبح في ما بعد سفيراللجزائر في بلجيكا، منوّر حميروش (الكاتب العام للحزب الشيوعي الجزائري)، عبد القادر بن صالح، يوسف فتح الله وآخرون. وأشير بالمناسبة إلى أن يوسف فتح الله، سبق وأن زارني في السجن باسم نقابة المحامين موفَدا للدفاع عني وعن علي عبد النور.
كان علي يحيى عبد النور يحظى باحترام الجميع، لكنه يتميز في مجالسنا عن الباقي بالتحفظ والصمت المطبق، مستمع جيد، لايتناول الحديث إلا في إطار ثنائي، لذلك كان الراحل الفقيه البصري يفرزه من بين الحاضرين ليتفرغا بينهما للحديث بشكل ثنائي، في الفضاء الخارجي للإقامة.
كان الرجل خجولا، يتحدث بصوت خافت بأدب ووقار وبتواضع الكبار. يضع الوقت في المقدمة، ولا يتأخر في المواعيد، الصغرى وكذا الكبرى، والتي نذكر منها تأسيسه إلى جانب يوسف فتح الله، لرابطة الجزائر للدفاع عن حقوق الانسان، بعد فترة السجن وتحديدا سنة 1985 بعدما كان عبد النور قد انخرط في مهنة المحاماة سنة 1983، هاته الرابطة التي شكلت أهم محطة حقوقية في حياته، لم يتم الاعتراف بها رسميّا إلا في عام 1989. مع العلم أن النظام بادر حينها أيضا بتأسيس جمعية لـ”حقوق الإنسان” كان المسؤول البارز فيها الكاتب والروائي الجزائري رشيد بوجدرة.
واشتهر عبد النور خلال هاته الفترة بالدفاع عن الإسلاميين خلال عشرية المأساة، مُدافعًا عن المصالحة والحل السلمي لأزمة الجزائر، حيث ألّف كتابين في القضية، الأول بعنوان “الجزائر: أسباب وحماقة حرب” سنة 1996، والثاني “كرامة إنسان” عام 2007.
كما لعبت الرابطة دورا مهمّا في الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الرأي خلال مرحلة الشادلي بن جديد، وساندت معتقلي الراي من كل الأطياف والوقوف بجانبهم، فضلا عن التضامن مع المطالب الديمقراطية لمنطقة “القبايل”، التي يعدّ عبد النور المعبّرَ عن مطالبهم في الديمقراطية والاعتراف بالخصوصية الثقافية.
سيغتال القياديّ في الرابطة يوسف فتح الله من طرف أجهزة النظام بشكل وحشيّ. وستستمر الرابطة مع جيل جديد من الشباب، وسيبقي عبد النور الرّمزَ التاريخي ومنارة لكل الأجيال، وخاصة شباب الحَراك الذي سانده إلى أبعد حد.
فهو يعد واحدا من الموقعين على الرسالة الموجهة إلى عبد العزيز بوتفليقة، التي أعلن من خلالها إلى جانب رموز نضالية كمحمد طالب الإبراهيمي، وزير الخارجية الأسبق، معارضتهم ترشح بوتفليقة للرئاسة، بعدما بلغ من الكبر عُتيا.
كافح عبد النورالسيرورة التي بداخله، بأن يعطي لحياته معنى، يتمثل في أن عظمة الانسان تكمن في الفعل والعطاء من أجل غد انساني أفضل، دون أن يخدع نفسه بوهم الخلود الراسخ عند كثير ممن عايشهم وهم في موقع السلطة ممن نصبوا لهم تماثيل صماء كان مآلها مزبلة التاريخ. لكن عبد النور نال الاعتراف والعرفان، إبان تكريمه في دجنبر 2020 بجائزة حقوق الإنسان في الجزائر، وقبلها بحب مختلف أطياف الشعب الجزائري.
عاش عبد النور واقفا ومات واقفا كشجرة النخيل، رجل ظل يحظى قيد حياته وبعد مماته باحترام كل المشارب والأطياف، وكثيرا ما أجد له شبيها عبر المقارنة مع عبد الرحمان بن عمر أطال الله عمره، لما يشتملان عليه من تشابه في خصال الشجاعة وصفاء السريرة، والتباث على الموقف، وما يشتركان فيه من سمات إنسانية نبيلة وطاقة نضالية متجددة، لدى كثيرا ما كنت أقول في قرارة نفسي وأنا أتابع أنشطة الرجل إنه عبد الرحمان بنعمر الجزائري.