كرة القدم وسياسة القوة الناعمة
غريب محمد
خلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الاندماجي لأحزاب فيدرالية اليسار، كانت كرة القدم حاضرة من خلال نقل مباراة المغرب ضد كرواتيا.. ويمكن القول أن هذه أول مناسبة يقف فيها اليسار على أهمية الرياضة عموما وكرة القدم خصوصا، وتأثيرها الكبير على وعي وسلوك الناس. لقد فرض فعلا حدث المونديال نفسه على الجميع، كما أن إنجازات المنتخب المغربي الذي كان وبشهادة الجميع مفاجأة وظاهرة مونديال قطر، قد جعلت الجميع يتابع بشغف كبير ما يقع على رقعة الملعب وفي المدرجات وما يجري خلف الستار بعيدا عن كاميرات وسائل الاعلام.
لقد تأكد للجميع خلال هذا المونديال أن الرهانات لم تكن رياضية فقط بل تعدت ما هو رياضي لتشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة.. واليسار بوصفه جزءا من المجتمع المغربي ولأنه يحمل مشروعا مجتمعيا ورؤية نقدية للأحداث كان من الطبيعي أن يشارك في هذا الفرح الجماعي ويؤكد على أهمية ما أنجزه الشباب المغربي الذي برهن دائما على قدرته على رفع التحديات والتضحية من أجل الوطن. لقد تجاوزت إنجازات هؤلاء الشباب البعد الرياضي وحققوا أشياء كثيرة عجزت السياسة عن تحقيقها وأكدوا أنهم لم يكونوا فقط بصدد لعب مباريات في كرة القدم بل كانوا يحملون ويدافعون عن حلم وأمل الملايين من مواطني الأمة العربية والإسلامية بكل مكوناتها في إثبات أنفسهم كفاعلين يفرضون على الجميع احترامهم.
لقد ارتبطت الرياضة بالسياسة إلى حد كبير، واليوم لا يمكن أبدا نفي ذلك أو الادعاء بإمكانية فصل الرياضة عن السياسة لأن الدول أصبحت تستعمل الرياضة كجزء لا يتجزأ من سياساتها الخارجية.. والجميع يتذكر عندما قام الرئيس الفرنسي جاك شيراك بإشراك ميشيل بلاتيني في وفده الرسمي عند زيارته لبلدان أمريكا اللاتينية خلال تسعينات القرن الماضي لأنه أدرك أن شهرة هذا اللاعب ستفيد دبلوماسية فرنسا.
وهناك عدة مناسبات تأكد فيها الارتباط الوثيق بين الرياضة والسياسة والتي تم فيها استعمال الرياضة لأهداف سياسية. وهكذا فقد حضرت السياسة بقوة خلال مونديال 1986 عندما تواجهت الأرجنتين وإنكلترا في مباراة أهان فيها الأسطورة مارادونا الإنكليز والذي صرح في نهايتها أنه لم يكن فقط بصدد لعبة كرة القدم بل كان يرد الاعتبار لبلده التي أهانها الإنكليز خلال حرب المالوين.
إن تاريخ المونديال غني بالمحطات التي استعملت فيها كرة القدم لتحقيق أهداف سياسية. ففي سنة 1934 نظمت إيطاليا كأس العالم وحرص نظام موسوليني الفاشستي على فوز إيطاليا باللقب العالمي لتأكيد قوة وتفوق الفاشستية.. وقد عادت إيطاليا للفوز بكأس العالم سنة 1938 أي عشية الحرب العالمية الثانية مما عزز من إشعاع نظام موسوليني على المستوى الدولي.
وفي سنة 1954 فازت ألمانيا على المجر في المباراة النهائية من بطولة كأس العالم التي نظمت في سويسرا، وقد كان هذا الانتصار الذي نعتته الصحافة أنداك بمعجزة بيرن هو بداية العودة القوية لألمانيا إلى الساحة الدولية حيث أكدت قوة هويتها الوطنية وإشعاعها السياسي بفضل فريقها الوطني لكرة القدم.
وفي سنة 1978 نظم المونديال في الارجنتين التي كانت ترزح تحت حكم ديكتاتورية رفاييل فيديلا الذي استغل الحدث الرياضي العالمي لإضفاء الشرعية على نظامه القمعي.. وقد اعتبر المراقبون أن هذه البطولة كانت هي الأسوء من حيث التنظيم والتحكيم الذي كان جد متحيز للفريق الأرجنتيني.
خلال التسعينات ومع بروز نظام العولمة تحولت كرة القدم إلى لعبة عالمية وتحولت الفيفا إلى امبراطورية حقيقية وأدرك الجميع تأثيرها على الساحة الدولية وبدأ الجميع يدرك أن الدولة لم تعد تختصر في الأرض والسلطة والشعب بل انضاف عنصر جديد هو فريق وطني لكرة القدم يساهم في تعزيز وتقوية الهوية الوطنية وتقوية حس الانتماء الى الوطن الواحد، لدرجة أن العملاق الصيني والذي يعتبر قزما في عالم كرة القدم بدأ العمل من اجل تطوير اللعبة لتساهم في تقوية دبلوماسيته وإشعاعه الخارجي.
لقد كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول يقول أنه من الصعب حكم بلد فيه 400 نوع من الأجبان وتتعدد فيه الانتماءات السياسية.. ولكن اليوم استطاعت كرة القدم أن توحد الشعب الفرنسي الذي يدعم فريقا يعكس التنوع الثقافي والعرقي الذي دافعت عنه دائما فرنسا الأصيلة. وفي بلجيكا أيضا نسي الجنوب والشمال خلافاتهم وتوحدوا خلف فريقهم الوطني.
اليوم لم تعد قوة الدول تختصر في القوة العسكرية أو في ازدهار اقتصادها أو في شساعة أراضيها.. ولكن أصبح الاشعاع الثقافي والرياضي للدول يلعب دورا في أن تفرض نفسها على الساحة الدولية، وهذا ما انتبهت اليه دولة قطر. إن هذا البلد الصغير (11500 كيلومتر مربع تقريبا) الذي يعتبر قزما أمام السعودية، قد أحس مبكرا بالخطر المحدق به خاصة وأن أٍراضيه تعتبر أكبر خزان للغاز الطبيعي فسارع إلى إحداث امبراطورية إعلامية ذاع صيتها في كل أرجاء العالم واعتمد سياسة تجنيس كبار الرياضيين الأفارقة المتخصصين في ألعاب القوى والذين جعلوا النشيد الوطني يعزف في كل البطولات العالمية وساهموا في إشعاع قطر على الصعيد العالمي. وقد توجت هذه الدولة الصغيرة ولكن الغنية سياستها الخارجية باعتماد القوة الناعمة بتنظيم كأس العالم الذي كان مناسبة تم فيها التعريف بثقافة المجتمعات العربية والإسلامية بعيدا عن الصور النمطية التي يروجها الإعلام الغربي عن العرب والمسلمين. وقدمت قطر نفسها كقوة إقليمية يمكنها التأثير في مجريات الأحداث.
إن هذه الإنجازات لا يمكنها إخفاء طبيعة أنظمة الخليج، ولكن على المستوى الدولي يمكن القول أن قطر قد نجحت في تنظيمها الجيد لأكبر حدث رياضي عالمي وساهمت إيجابيا في تقديم الوجه المشرق في ثقافتنا العربية والإسلامية بكل مكوناتها.
لكن الحدث الكبير الذي ساهم في نجاح مونديال قطر هو إنجاز المنتخب المغربي الذي خلق الحدث وجعل الملايين في إفريقيا والعالم العربي والاسلامي يتابعون بشغف كبير مراحل البطولة العالمية إما عن طريق النقل التلفزي أو بالتنقل الى الملاعب.
إن أهم إنجاز حققه المنتخب الوطني المغربي هو أنه كشف على أن التضامن العربي والإسلامي لازال حيا وأن الانقسامات والصراعات تتحمل مسؤوليتها الأنظمة السياسية.. ولقد تابعت وشجعت الشعوب العربية الفريق الوطني المغربي من سوريا والعراق ومصر ولبنان وفلسطين وتونس وليبيا وحتى من الجزائر الشقيقة التي كان فيها العسكر هو الاستثناء الوحيد والذي أكد أنه يعيش فعلا خارج التاريخ وأنه يسير في الاتجاه المعاكس لمصالح الشعبين المغربي والجزائري.
فلسطين أيضا كانت حاضرة وبقوة في قلوب الجماهير العربية والإسلامية، ويمكن القول أنها كانت من ضمن الدول التي تأهلت منتخباتها لكي تلعب الأطوار النهائية لكأس العالم. لقد تأكد الجميع أن التطبيع سيبقى رسميا وأن فلسطين ستبقى حاضرة كقضية في وعي الشعوب. والعالم كله شاهد عبر القنوات التلفزيونية كيف حمل اللاعبون المغاربة علم بلدهم المغرب وعلم فلسطين عند نهاية كل مباراة مؤكدين بذلك أن حب الوطن لا يستقيم إلا إذا ارتبط بقضية تحرير الأرض الفلسطينية من الاحتلال الصهيوني وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة.
أما على مستوى الإشعاع الثقافي فقد عكس اللاعبون المغاربة القيم الأصيلة من ثقافتنا المغربية وكذا القيم الإسلامية النبيلة التي تؤكد على المكانة المتميزة للأم داخل الأسرة المغربية وكذا الاحترام الواجب نحوها.. لقد شاهد العالم نموذج العلاقة التي تربط الأم بأبنائها في مجتمعنا ومستوى العرفان لتضحيات الأمهات من أجل تماسك الأسرة والمجتمع. لقد كانت مشاهد اللاعبين مع أمهاتهم بمثابة رسالة إلى العالم تؤكد على أننا شعوب متحضرة رغم المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا والتي لم تجردنا من إنسانيتنا.
من جهة أخرى يمكن القول أن هؤلاء الشباب قد حققوا بانتصاراتهم ما عجزت عن تحقيقه السياسة الرسمية وغير الرسمية. فبالإضافة إلى الإشعاع الدولي الذي تحقق لبلادنا بفضلهم فقد ساهمت انتصاراتهم في تعزيز الهوية الوطنية المغربية بكل مكوناتها وجعلت كل المغاربة يعتزون بانتمائهم للوطن.. وكانت مظاهر الفرح الجماعي والتلقائي دليل على هذا الفخر والاعتزاز كما أن تنوع وغنى الهوية الوطنية المغربية يظهر بشكل جليا في تركيبة المنتخب المغربي لدرجة أن كل المغاربة وجدوا أنفسهم فيه مما أسهم في توحيد كل المغاربة بكل أطيافهم خلف فريقهم الوطني.
إن معظم لاعبي المنتخب الوطني هم أبناء مهاجرين مغاربة استفادوا من الإمكانيات التي توفرها البلدان الأوربية في مختلف المجالات واستطاعوا بفضل ذلك وبفضل تضحيات آبائهم من أن ينافسوا على أعلى المستويات. لقد كان بإمكانهم اللعب ضمن منتخبات البلدان المضيفة لكن ارتباطهم بالوطن جعلهم يختارون الدفاع عن ألوان بلدهم الأصلي وهذا وحده دليل على وطنية وأصالة أبناء الشعب المغربي.
يبقى إذن ومن أجل استمرارية هذه الإنجازات أن يتم استخلاص الدروس من هذا الإنجاز التاريخي الذي تحقق اليوم، وأن يحتضن الوطن كل أبنائه وأن يتم استغلال الاشعاع الذي تحقق على المستوى الدولي لتقوية الدبلوماسية المغربية وخاصة تعزيز عناصر القوة الناعمة دفاعا عن المصالح الاستراتيجية لبلادنا ولكن دون إهمال الجبهة الداخلية التي بدون تقويتها تفقد بلادنا استقلالها الاستراتيجي وقوتها في الساحة الدولية.
لقد كان الاستقبال الملكي لأعضاء الفريق الوطني بادرة إيجابية أظهرت من خلاله المؤسسة الملكية قربها من أبناء الشعب وارتباطها بأفراح الوطن، والمطلوب اليوم هو أن لا يتم التفريط في هذا الحماس الوطني وأن نثبت للعالم بأن شعبنا يستحق الأفضل.