السياسة

كرة القدم وسياسة القوة الناعمة

 غريب محمد

خلال‭ ‬الجلسة‭ ‬الافتتاحية‭ ‬للمؤتمر‭ ‬الاندماجي‭ ‬لأحزاب‭ ‬فيدرالية‭ ‬اليسار،‭ ‬كانت‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬حاضرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نقل‭ ‬مباراة‭ ‬المغرب‭ ‬ضد‭ ‬كرواتيا‭.. ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬مناسبة‭ ‬يقف‭ ‬فيها‭ ‬اليسار‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬الرياضة‭ ‬عموما‭ ‬وكرة‭ ‬القدم‭ ‬خصوصا،‭ ‬وتأثيرها‭ ‬الكبير‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬وسلوك‭ ‬الناس‭. ‬لقد‭ ‬فرض‭ ‬فعلا‭ ‬حدث‭ ‬المونديال‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬الجميع،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬إنجازات‭ ‬المنتخب‭ ‬المغربي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬وبشهادة‭ ‬الجميع‭ ‬مفاجأة‭ ‬وظاهرة‭ ‬مونديال‭ ‬قطر،‭ ‬قد‭ ‬جعلت‭ ‬الجميع‭ ‬يتابع‭ ‬بشغف‭ ‬كبير‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬رقعة‭ ‬الملعب‭ ‬وفي‭ ‬المدرجات‭ ‬وما‭ ‬يجري‭ ‬خلف‭ ‬الستار‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬كاميرات‭ ‬وسائل‭ ‬الاعلام‭.‬

لقد‭ ‬تأكد‭ ‬للجميع‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬المونديال‭ ‬أن‭ ‬الرهانات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬رياضية‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬تعدت‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬رياضي‭ ‬لتشمل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسياسة‭ ‬والثقافة‭.. ‬واليسار‭ ‬بوصفه‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬المغربي‭ ‬ولأنه‭ ‬يحمل‭ ‬مشروعا‭ ‬مجتمعيا‭ ‬ورؤية‭ ‬نقدية‭ ‬للأحداث‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يشارك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفرح‭ ‬الجماعي‭ ‬ويؤكد‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬ما‭ ‬أنجزه‭ ‬الشباب‭ ‬المغربي‭ ‬الذي‭ ‬برهن‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬رفع‭ ‬التحديات‭ ‬والتضحية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوطن‭. ‬لقد‭ ‬تجاوزت‭ ‬إنجازات‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬البعد‭ ‬الرياضي‭ ‬وحققوا‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬عجزت‭ ‬السياسة‭ ‬عن‭ ‬تحقيقها‭ ‬وأكدوا‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬فقط‭ ‬بصدد‭ ‬لعب‭ ‬مباريات‭ ‬في‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬بل‭ ‬كانوا‭ ‬يحملون‭ ‬ويدافعون‭ ‬عن‭ ‬حلم‭ ‬وأمل‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬مواطني‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬بكل‭ ‬مكوناتها‭ ‬في‭ ‬إثبات‭ ‬أنفسهم‭ ‬كفاعلين‭ ‬يفرضون‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬احترامهم‭.‬

لقد‭ ‬ارتبطت‭ ‬الرياضة‭ ‬بالسياسة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬واليوم‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أبدا‭ ‬نفي‭ ‬ذلك‭ ‬أو‭ ‬الادعاء‭ ‬بإمكانية‭ ‬فصل‭ ‬الرياضة‭ ‬عن‭ ‬السياسة‭ ‬لأن‭ ‬الدول‭ ‬أصبحت‭ ‬تستعمل‭ ‬الرياضة‭ ‬كجزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬سياساتها‭ ‬الخارجية‭.. ‬والجميع‭ ‬يتذكر‭ ‬عندما‭ ‬قام‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬جاك‭ ‬شيراك‭ ‬بإشراك‭ ‬ميشيل‭ ‬بلاتيني‭ ‬في‭ ‬وفده‭ ‬الرسمي‭ ‬عند‭ ‬زيارته‭ ‬لبلدان‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬خلال‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬لأنه‭ ‬أدرك‭ ‬أن‭ ‬شهرة‭ ‬هذا‭ ‬اللاعب‭ ‬ستفيد‭ ‬دبلوماسية‭ ‬فرنسا‭.‬

وهناك‭ ‬عدة‭ ‬مناسبات‭ ‬تأكد‭ ‬فيها‭ ‬الارتباط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬الرياضة‭ ‬والسياسة‭ ‬والتي‭ ‬تم‭ ‬فيها‭ ‬استعمال‭ ‬الرياضة‭ ‬لأهداف‭ ‬سياسية‭. ‬وهكذا‭ ‬فقد‭ ‬حضرت‭ ‬السياسة‭ ‬بقوة‭ ‬خلال‭ ‬مونديال‭ ‬1986‭ ‬عندما‭ ‬تواجهت‭ ‬الأرجنتين‭ ‬وإنكلترا‭ ‬في‭ ‬مباراة‭ ‬أهان‭ ‬فيها‭ ‬الأسطورة‭ ‬مارادونا‭ ‬الإنكليز‭ ‬والذي‭ ‬صرح‭ ‬في‭ ‬نهايتها‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فقط‭ ‬بصدد‭ ‬لعبة‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يرد‭ ‬الاعتبار‭ ‬لبلده‭ ‬التي‭ ‬أهانها‭ ‬الإنكليز‭ ‬خلال‭ ‬حرب‭ ‬المالوين‭.‬

إن‭ ‬تاريخ‭ ‬المونديال‭ ‬غني‭ ‬بالمحطات‭ ‬التي‭ ‬استعملت‭ ‬فيها‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬سياسية‭. ‬ففي‭ ‬سنة‭ ‬1934‭ ‬نظمت‭ ‬إيطاليا‭ ‬كأس‭ ‬العالم‭ ‬وحرص‭ ‬نظام‭ ‬موسوليني‭ ‬الفاشستي‭ ‬على‭ ‬فوز‭ ‬إيطاليا‭ ‬باللقب‭ ‬العالمي‭ ‬لتأكيد‭ ‬قوة‭ ‬وتفوق‭ ‬الفاشستية‭.. ‬وقد‭ ‬عادت‭ ‬إيطاليا‭ ‬للفوز‭ ‬بكأس‭ ‬العالم‭ ‬سنة‭ ‬1938‭ ‬أي‭ ‬عشية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬مما‭ ‬عزز‭ ‬من‭ ‬إشعاع‭ ‬نظام‭ ‬موسوليني‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي‭.‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬1954‭ ‬فازت‭ ‬ألمانيا‭ ‬على‭ ‬المجر‭ ‬في‭ ‬المباراة‭ ‬النهائية‭ ‬من‭ ‬بطولة‭ ‬كأس‭ ‬العالم‭ ‬التي‭ ‬نظمت‭ ‬في‭ ‬سويسرا،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الانتصار‭ ‬الذي‭ ‬نعتته‭ ‬الصحافة‭ ‬أنداك‭ ‬بمعجزة‭ ‬بيرن‭ ‬هو‭ ‬بداية‭ ‬العودة‭ ‬القوية‭ ‬لألمانيا‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية‭ ‬حيث‭ ‬أكدت‭ ‬قوة‭ ‬هويتها‭ ‬الوطنية‭ ‬وإشعاعها‭ ‬السياسي‭ ‬بفضل‭ ‬فريقها‭ ‬الوطني‭ ‬لكرة‭ ‬القدم‭.‬

وفي‭ ‬سنة‭ ‬1978‭ ‬نظم‭ ‬المونديال‭ ‬في‭ ‬الارجنتين‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترزح‭ ‬تحت‭ ‬حكم‭ ‬ديكتاتورية‭ ‬رفاييل‭ ‬فيديلا‭ ‬الذي‭ ‬استغل‭ ‬الحدث‭ ‬الرياضي‭ ‬العالمي‭ ‬لإضفاء‭ ‬الشرعية‭ ‬على‭ ‬نظامه‭ ‬القمعي‭.. ‬وقد‭ ‬اعتبر‭ ‬المراقبون‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬البطولة‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الأسوء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التنظيم‭ ‬والتحكيم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬جد‭ ‬متحيز‭ ‬للفريق‭ ‬الأرجنتيني‭.‬

خلال‭ ‬التسعينات‭ ‬ومع‭ ‬بروز‭ ‬نظام‭ ‬العولمة‭ ‬تحولت‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬إلى‭ ‬لعبة‭ ‬عالمية‭ ‬وتحولت‭ ‬الفيفا‭ ‬إلى‭ ‬امبراطورية‭ ‬حقيقية‭ ‬وأدرك‭ ‬الجميع‭ ‬تأثيرها‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية‭ ‬وبدأ‭ ‬الجميع‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تختصر‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬والسلطة‭ ‬والشعب‭ ‬بل‭ ‬انضاف‭ ‬عنصر‭ ‬جديد‭ ‬هو‭ ‬فريق‭ ‬وطني‭ ‬لكرة‭ ‬القدم‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬وتقوية‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬وتقوية‭ ‬حس‭ ‬الانتماء‭ ‬الى‭ ‬الوطن‭ ‬الواحد،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬العملاق‭ ‬الصيني‭ ‬والذي‭ ‬يعتبر‭ ‬قزما‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬بدأ‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬تطوير‭ ‬اللعبة‭ ‬لتساهم‭ ‬في‭ ‬تقوية‭ ‬دبلوماسيته‭ ‬وإشعاعه‭ ‬الخارجي‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬شارل‭ ‬ديغول‭ ‬يقول‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬حكم‭ ‬بلد‭ ‬فيه‭ ‬400‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الأجبان‭ ‬وتتعدد‭ ‬فيه‭ ‬الانتماءات‭ ‬السياسية‭.. ‬ولكن‭ ‬اليوم‭ ‬استطاعت‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬أن‭ ‬توحد‭ ‬الشعب‭ ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬يدعم‭ ‬فريقا‭ ‬يعكس‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬والعرقي‭ ‬الذي‭ ‬دافعت‭ ‬عنه‭ ‬دائما‭ ‬فرنسا‭ ‬الأصيلة‭. ‬وفي‭ ‬بلجيكا‭ ‬أيضا‭ ‬نسي‭ ‬الجنوب‭ ‬والشمال‭ ‬خلافاتهم‭ ‬وتوحدوا‭ ‬خلف‭ ‬فريقهم‭ ‬الوطني‭.‬

اليوم‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬قوة‭ ‬الدول‭ ‬تختصر‭ ‬في‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ازدهار‭ ‬اقتصادها‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬شساعة‭ ‬أراضيها‭.. ‬ولكن‭ ‬أصبح‭ ‬الاشعاع‭ ‬الثقافي‭ ‬والرياضي‭ ‬للدول‭ ‬يلعب‭ ‬دورا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تفرض‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬انتبهت‭ ‬اليه‭ ‬دولة‭ ‬قطر‭. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الصغير‭ (‬11500‭ ‬كيلومتر‭ ‬مربع‭ ‬تقريبا‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬قزما‭ ‬أمام‭ ‬السعودية،‭ ‬قد‭ ‬أحس‭ ‬مبكرا‭ ‬بالخطر‭ ‬المحدق‭ ‬به‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬أٍراضيه‭ ‬تعتبر‭ ‬أكبر‭ ‬خزان‭ ‬للغاز‭ ‬الطبيعي‭ ‬فسارع‭ ‬إلى‭ ‬إحداث‭ ‬امبراطورية‭ ‬إعلامية‭ ‬ذاع‭ ‬صيتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬العالم‭ ‬واعتمد‭ ‬سياسة‭ ‬تجنيس‭ ‬كبار‭ ‬الرياضيين‭ ‬الأفارقة‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬ألعاب‭ ‬القوى‭ ‬والذين‭ ‬جعلوا‭ ‬النشيد‭ ‬الوطني‭ ‬يعزف‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬البطولات‭ ‬العالمية‭ ‬وساهموا‭ ‬في‭ ‬إشعاع‭ ‬قطر‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي‭. ‬وقد‭ ‬توجت‭ ‬هذه‭ ‬الدولة‭ ‬الصغيرة‭ ‬ولكن‭ ‬الغنية‭ ‬سياستها‭ ‬الخارجية‭ ‬باعتماد‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة‭ ‬بتنظيم‭ ‬كأس‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مناسبة‭ ‬تم‭ ‬فيها‭ ‬التعريف‭ ‬بثقافة‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الصور‭ ‬النمطية‭ ‬التي‭ ‬يروجها‭ ‬الإعلام‭ ‬الغربي‭ ‬عن‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭. ‬وقدمت‭ ‬قطر‭ ‬نفسها‭ ‬كقوة‭ ‬إقليمية‭ ‬يمكنها‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬مجريات‭ ‬الأحداث‭.    

إن‭ ‬هذه‭ ‬الإنجازات‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬إخفاء‭ ‬طبيعة‭ ‬أنظمة‭ ‬الخليج،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬أن‭ ‬قطر‭ ‬قد‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تنظيمها‭ ‬الجيد‭ ‬لأكبر‭ ‬حدث‭ ‬رياضي‭ ‬عالمي‭ ‬وساهمت‭ ‬إيجابيا‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الوجه‭ ‬المشرق‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬بكل‭ ‬مكوناتها‭.‬

لكن‭ ‬الحدث‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬مونديال‭ ‬قطر‭ ‬هو‭ ‬إنجاز‭ ‬المنتخب‭ ‬المغربي‭ ‬الذي‭ ‬خلق‭ ‬الحدث‭ ‬وجعل‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‭ ‬والاسلامي‭ ‬يتابعون‭ ‬بشغف‭ ‬كبير‭ ‬مراحل‭ ‬البطولة‭ ‬العالمية‭ ‬إما‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬النقل‭ ‬التلفزي‭ ‬أو‭ ‬بالتنقل‭ ‬الى‭ ‬الملاعب‭.‬

إن‭ ‬أهم‭ ‬إنجاز‭ ‬حققه‭ ‬المنتخب‭ ‬الوطني‭ ‬المغربي‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬كشف‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التضامن‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬لازال‭ ‬حيا‭ ‬وأن‭ ‬الانقسامات‭ ‬والصراعات‭ ‬تتحمل‭ ‬مسؤوليتها‭ ‬الأنظمة‭ ‬السياسية‭..  ‬ولقد‭ ‬تابعت‭ ‬وشجعت‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬الفريق‭ ‬الوطني‭ ‬المغربي‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬والعراق‭ ‬ومصر‭ ‬ولبنان‭ ‬وفلسطين‭ ‬وتونس‭ ‬وليبيا‭ ‬وحتى‭ ‬من‭ ‬الجزائر‭ ‬الشقيقة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬العسكر‭ ‬هو‭ ‬الاستثناء‭ ‬الوحيد‭ ‬والذي‭ ‬أكد‭ ‬أنه‭ ‬يعيش‭ ‬فعلا‭ ‬خارج‭ ‬التاريخ‭ ‬وأنه‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬المعاكس‭ ‬لمصالح‭ ‬الشعبين‭ ‬المغربي‭ ‬والجزائري‭.‬

فلسطين‭ ‬أيضا‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬وبقوة‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الجماهير‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية،‭ ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تأهلت‭ ‬منتخباتها‭ ‬لكي‭ ‬تلعب‭ ‬الأطوار‭ ‬النهائية‭ ‬لكأس‭ ‬العالم‭. ‬لقد‭ ‬تأكد‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬التطبيع‭ ‬سيبقى‭ ‬رسميا‭ ‬وأن‭ ‬فلسطين‭ ‬ستبقى‭ ‬حاضرة‭ ‬كقضية‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الشعوب‭. ‬والعالم‭ ‬كله‭ ‬شاهد‭ ‬عبر‭ ‬القنوات‭ ‬التلفزيونية‭ ‬كيف‭ ‬حمل‭ ‬اللاعبون‭ ‬المغاربة‭ ‬علم‭ ‬بلدهم‭ ‬المغرب‭ ‬وعلم‭ ‬فلسطين‭ ‬عند‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬مباراة‭ ‬مؤكدين‭ ‬بذلك‭ ‬أن‭ ‬حب‭ ‬الوطن‭ ‬لا‭ ‬يستقيم‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬ارتبط‭ ‬بقضية‭ ‬تحرير‭ ‬الأرض‭ ‬الفلسطينية‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬الصهيوني‭ ‬وبحق‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مصيره‭ ‬وبناء‭ ‬دولته‭ ‬المستقلة‭.‬

أما‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الإشعاع‭ ‬الثقافي‭ ‬فقد‭ ‬عكس‭ ‬اللاعبون‭ ‬المغاربة‭ ‬القيم‭ ‬الأصيلة‭ ‬من‭ ‬ثقافتنا‭ ‬المغربية‭ ‬وكذا‭ ‬القيم‭ ‬الإسلامية‭ ‬النبيلة‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬المكانة‭ ‬المتميزة‭ ‬للأم‭ ‬داخل‭ ‬الأسرة‭ ‬المغربية‭ ‬وكذا‭ ‬الاحترام‭ ‬الواجب‭ ‬نحوها‭.. ‬لقد‭ ‬شاهد‭ ‬العالم‭ ‬نموذج‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬الأم‭ ‬بأبنائها‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭ ‬ومستوى‭ ‬العرفان‭ ‬لتضحيات‭ ‬الأمهات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تماسك‭ ‬الأسرة‭ ‬والمجتمع‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬مشاهد‭ ‬اللاعبين‭ ‬مع‭ ‬أمهاتهم‭ ‬بمثابة‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬تؤكد‭ ‬على‭ ‬أننا‭ ‬شعوب‭ ‬متحضرة‭ ‬رغم‭ ‬المشاكل‭ ‬التي‭ ‬تعاني‭ ‬منها‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تجردنا‭ ‬من‭ ‬إنسانيتنا‭.‬

من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭ ‬قد‭ ‬حققوا‭ ‬بانتصاراتهم‭ ‬ما‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬تحقيقه‭ ‬السياسة‭ ‬الرسمية‭ ‬وغير‭ ‬الرسمية‭. ‬فبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الإشعاع‭ ‬الدولي‭ ‬الذي‭ ‬تحقق‭ ‬لبلادنا‭ ‬بفضلهم‭ ‬فقد‭ ‬ساهمت‭ ‬انتصاراتهم‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬المغربية‭ ‬بكل‭ ‬مكوناتها‭ ‬وجعلت‭ ‬كل‭ ‬المغاربة‭ ‬يعتزون‭ ‬بانتمائهم‭ ‬للوطن‭.. ‬وكانت‭ ‬مظاهر‭ ‬الفرح‭ ‬الجماعي‭ ‬والتلقائي‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الفخر‭ ‬والاعتزاز‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تنوع‭ ‬وغنى‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬المغربية‭ ‬يظهر‭ ‬بشكل‭ ‬جليا‭ ‬في‭ ‬تركيبة‭ ‬المنتخب‭ ‬المغربي‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المغاربة‭ ‬وجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬فيه‭ ‬مما‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬توحيد‭ ‬كل‭ ‬المغاربة‭ ‬بكل‭ ‬أطيافهم‭ ‬خلف‭ ‬فريقهم‭ ‬الوطني‭.‬

إن‭ ‬معظم‭ ‬لاعبي‭ ‬المنتخب‭ ‬الوطني‭ ‬هم‭ ‬أبناء‭ ‬مهاجرين‭ ‬مغاربة‭ ‬استفادوا‭ ‬من‭ ‬الإمكانيات‭ ‬التي‭ ‬توفرها‭ ‬البلدان‭ ‬الأوربية‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجالات‭ ‬واستطاعوا‭ ‬بفضل‭ ‬ذلك‭ ‬وبفضل‭ ‬تضحيات‭ ‬آبائهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينافسوا‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬المستويات‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬بإمكانهم‭ ‬اللعب‭ ‬ضمن‭ ‬منتخبات‭ ‬البلدان‭ ‬المضيفة‭ ‬لكن‭ ‬ارتباطهم‭ ‬بالوطن‭ ‬جعلهم‭ ‬يختارون‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬ألوان‭ ‬بلدهم‭ ‬الأصلي‭ ‬وهذا‭ ‬وحده‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬وطنية‭ ‬وأصالة‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي‭. ‬

يبقى‭ ‬إذن‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬استمرارية‭ ‬هذه‭ ‬الإنجازات‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬استخلاص‭ ‬الدروس‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الإنجاز‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬تحقق‭ ‬اليوم،‭ ‬وأن‭ ‬يحتضن‭ ‬الوطن‭ ‬كل‭ ‬أبنائه‭ ‬وأن‭ ‬يتم‭ ‬استغلال‭ ‬الاشعاع‭ ‬الذي‭ ‬تحقق‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الدولي‭ ‬لتقوية‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬المغربية‭ ‬وخاصة‭ ‬تعزيز‭ ‬عناصر‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬المصالح‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬لبلادنا‭ ‬ولكن‭ ‬دون‭ ‬إهمال‭ ‬الجبهة‭ ‬الداخلية‭ ‬التي‭ ‬بدون‭ ‬تقويتها‭ ‬تفقد‭ ‬بلادنا‭ ‬استقلالها‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬وقوتها‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية‭.‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬الاستقبال‭ ‬الملكي‭ ‬لأعضاء‭ ‬الفريق‭ ‬الوطني‭ ‬بادرة‭ ‬إيجابية‭ ‬أظهرت‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬المؤسسة‭ ‬الملكية‭ ‬قربها‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬وارتباطها‭ ‬بأفراح‭ ‬الوطن،‭ ‬والمطلوب‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يتم‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحماس‭ ‬الوطني‭ ‬وأن‭ ‬نثبت‭ ‬للعالم‭ ‬بأن‭ ‬شعبنا‭ ‬يستحق‭ ‬الأفضل‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى