أسعار المحروقات بين القيد القانوني والمأزق السياسي

لقد عرف تسعير المحروقات في النظام القانوني المغربي منذ الاستقلال الشكلي تطورا تاريخيا انطلاقا من نظام المقاصة، بتدخل الدولة في حماية القدرة الشرائية للمواطنين، مرورا لنظام المقايسة انتهاء لإلغاء هذه الآلية.

وقد حددت الدولة غايات إعمال نظام المقاصة في ضمان استقرار أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية من أجل توفير الحماية للمستهلك النهائي (المواطن) بالإضافة إلى مساهمته في تطوير العديد من القطاعات الإنتاجية وفق ما جاء بتقرير اللجنة الاستطلاعية التي شكلها مجلس النواب بناء على مقتضيات المواد 107 و108 من النظام الداخلي لمجلس النواب والمؤرخ 28/02/2018.

إن عملية تحديد ومراقبة الأسعار وضبطها تتقيد بمجموعة من القيود القانونية تستحضر التكلفة الجمركية لاستيراد المحروقات السائلة والضريبة على القيمة المضافة وفقا للمقتضيات المحددة بمدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة والقانون رقم 03.99بتحديد المقادير المطبقة على البضائع والمصوغات المفروضة عليها ضريبة الاستهلاك الداخلي والمدونة العامة للضرائب.

فإلى جانب المجال القانوني المنظم للسعر الجمركي المفروض على استيراد المحروقات السائلة، أوجد المشرع المغربي ترسانة قانونية تحدد مجال تحديد الأسعار والمنافسة.

فتحديد أسعار المحروقات خاضع لمجموعة من الضوابط القانونية تعبر عن طبيعة السياسة الاقتصادية للدولة منذ الاستقلال إلى غاية تاريخه.

فاستيراد المحروقات السائلة كان خاضعا لرقابة الدولة منذ الاستقلال، ولا يسمح لأي كان بمباشرة هذا النشاط التجاري منذ ظهير 191.59.1 المؤرخ في 21/07/1959 المتعلق بتنظيم وصناعة تكرير المنتوجات النفطية؛

إذ تخضع طلبات الاستيراد لمجموعة من الإجراءات الإدارية والمسطرية قبل الإذن بالاستيراد

كماأدخلت على هذا الظهير (ظهير 1959) مجموعة من التعديلات آخرها ما جاء به القانون رقم 67.15

 

المجال القانوني لاستيراد المواد الهيدروكاربورات.

إن القانون رقم 67.15 المتعلق باستيراد مواد الهيدروكاربور وتصديرها وتكريرها والتكفل بتكريرها وتعبئتها وادخارها وتوزيعها، المنشور بالجريدة الرسمية عدد 6448 بتاريخ 17/03/2016، قد عمل على تنظيم المجال القانوني لعمليات الاستيراد والتخزين والتوزيع للمواد الهيدروكاربور والتي تندرج ضمنه جميع مواد المحروقات السائلة.

وقد فرض المشرع، على الراغب في ممارسة أنشطة توزيع مواد البترول السائلة أو غازات البترول المسيلة أو وقود الغاز الطبيعي وتعبئة غازات البترول ونقل مواد البترول السائلة وغازات البترول المسيلة عبر الأنابيب، الحصول على إذن قبلي تمنحه الإدارة بناء على دفتر تحملات إدارية وقانونية تلائم طبيعة النشاط من جهة ودرجة مخاطر ممارسته بما يفرض على الراغب في ذلك ضمان شروط السلامة وحماية البيئة من جهة ثانية ، إلى جانب الالتزام بتحمل تكاليف مباشرة النشاط من جهة ثالثة (المواد 2 و 3 و 4 و 8  و20 وغيرها من القانون رقم 67.15 أعلاه).

وقد استثنى شرط الإذن لمستوردي غاز البروبان بتوزيعه بالجملة حسب ما جاءت به الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون 67.15.

فإلى جانب القانون المنظم لعملية استيراد المواد الهيدروكاربور ودفتر التحملات الإدارية كشرط لممارسة الأنشطة التجارية الواردة بالقانون رقم 67.15 أعلاه، فهذا النشاط خاضع هو الآخر لتحملات ضريبية يتحملها في آخر المطاف المستهلك المباشر لهذه المواد الطاقية المستوردة.

إن مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة تخضع عملية استيراد المحروقات بجميع أنواعها لمجموعة من الضرائب الداخلية على الاستهلاك مما يؤثر على تكلفة الإنتاج وقيمة المواد في السوق.

وتشكل الضرائب والمكوس الداخلية المحددة قانونا والمفروضة على عملية استيراد المحروقات عنصر أساسي في عملية تحديد أسعارها في السوق الداخلية، ما يجعل المستهلك يتحمل بشكل كبير لكل هذه التحملات الضريبية، وهو مايؤثر على القدرة الشرائية لعموم المواطنين.

إذ أن السعر الضريبي الذي وصل في المغرب إلى نسبة تجاوزت 34% حسب ما جاء به تقرير اللجنة الاستطلاعية لمجلس النواب، يشكل إرهاقا ماليا على عموم المواطنين بالنظر لطبيعة القدرة الشرائية المتدنية.

 

تحديد ومراقبة الأسعار والمقايسة

إن المغرب منذ الاستقلال الشكلي اعتمد نظام المقاصة كأحد الآليات القانونية لحماية الدولة للقدرة الشرائية للمواطنين إلى جانب ضمان استقرار أسعار المواد الاستهلاكية وشكل ذلك أحد المكاسب الاجتماعية عملت على ان لا يقع المواطن تحت رحمة منتجي وموزعي المحروقات بجميع أنواعها. بالإضافة ان نظام المقاصة من جهة اخرى يسعى إلى ضمان استقرار أسعار المحروقات التي تخضع لقوانين العرض والطلب في السوق العالمية.

فنظام استقرار الأسعار قد يساعد الدولة من جهة في ضمان القدرة الشرائية للمواطنين والمواطنات، ومن جهة ثانية تستغله باق المؤسسات التجارية والاقتصادية التي تستعمل المحروقات في أنشطتها الصناعية، ما يجعلها المستفيد المباشر من عملية المقاصة من خلال استفادتها من الدعم الذي تخصصه الدولة لجميع أصناف المحروقات.

وأنه أمام نهج الدولة لسياسة اقتصادية ليبرالية بالغة السوء تفرض عليها اتفاقية منظمة التجارة العالمية تحرير الأسعار وجعلها خاضعة للمنافسة، عملت الدولة في انتهاج سياسة تحرير أسعار المحروقات بشكل تدريجي من خلال إحداث نظام المقايسة وتعويضه بنظام المقاصة بموجب القرار الحكومي رقم 13.69.3 المؤرخ في 19 غشت 2013 بإحداث نظام للمقايسة الجزئية لأسعار المحروقات السائلة.

إن هذا القرار الحكومي حدد مستويات الدعم الأحادي الذي تمنحه الدولة والموجه لفائدة الوقود الممتاز والغازوال والفيول وال رقم 2 في فاتح يناير من كل سنة على أساس الاعتمادات المفتوحة برسم قانون المالية للسنة نفسها.

وتبعا لذلك أصبحت أسعار المحروقات تحدد على أساس الأسعار القصوى التي يشترى بها الوقود الممتاز والغازوال والفيول وال رقم 2 في اليوم الأول والسادس عشر من كل شهر على أساس مقايستها بالأسعار الدولية وفقا لبنية الأسعار الواردة بالملحق المرفق بالقرار الحكومي رقم 13.69.3 المؤرخ في 19/08/2013 المتعلق بإحداث نظام المقايسة الجزئية للأسعار.

إلا أن الحكومة قررت إلغاء هذا النظام القانوني في تحديد الأسعار (نظام المقايسة الجزئية) والإنتقال إلى مقايسة كلية عبر القرار الصادر عن رئيس الحكومة رقم 3.01.14 المؤرخ في 15/01/2014 وذلك بشكل تدريجي ابتداء من فاتح يناير إلى غاية متم اكتوبر 2014 والذي بقي فيه هذا النظام محدودا جزئيا ليتم إلغاؤه كليا من خلال القرار الحكومي رقم 3.471.14 المؤرخ في 29/12/2014.

إنه بموجب إلغاء نظام المقايسة المحدث بموجب القرار الحكومي والذي مر عبر مرحلتين تجريبيتين (المقايسة الجزئية والمقايسة الكلية) ورفع يد الحكومية عن الدعم العمومي الذي توجهه لفائدة الوقود الممتاز والغازوال والفيول وال رقم 2، انتهجت الدولة المغربية لسياسة تحرير أسعار المحروقات السائلة، وجعلتها خاضعة لقوانين العرض والطلب بناء على ما انتهت إليه السوق العالمية دون مواكبة ذلك لإجراءات من شأنها حماية القدرة الشرائية للمواطنين.

وأنه أمام اعتماد المغرب لتحرير الأسعار وإخضاعها للمنافسة عبر القانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة والتي تجعل جميع المواد الاستهلاكية خاضعة لقانون حرية الأسعار والمنافسة، نتج عنه ضعف للحماية القانونية للمستهلكين للمحروقات السائلة، من خلال عدم احترام الفاعلين في مجال استيراد وتوزيع المحروقات السائلة لشروط المنافسة المشروعة عبر التوافقات من أجل التحكم في سعر المحروقات السائلة بما يمس بشرط المنافسة المشروعة.

إن المشرع المغربي ولئن أفرد مجموعة من القواعد القانونية ذات الصلة بحرية الأسعار وضمان شروط المنافسة، من خلال القانون رقم 104.12 المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة.

إلا أن هذا النهج القانوني يعبر عن طبيعة السياسة الاقتصادية النيوليبرالية، التي لن ينتج عنها إلا جعل المواطن المغربي تحت رحمة المنتجين والموزعين لهذه المواد، خاصة أن الوازع الأساسي للفاعلين الاقتصاديين بالمغرب مبني على عنصر الربح واستغلال اليد العاملة الرخيصة من جهة، وهشاشة النظام الحمائي للأجراء والمستخدمين من جهة ثانية.

وحتى تعمل الدولة على تسويق سياستها النيوليبرالية، تم اعتماد آلية مجلس المنافسة لزعم التصدي لظاهرة المساس بمبدأ المنافسة المشروعة كعامل من العوامل الحمائية التي تعول عليها الدولة.

إذ أن دور مجلس المنافسة لا يتجاوز الطابع الاستشاري وإبداء الرأي في كل قضية من شانها المساس بمبدأ المنافسة الحرة.

وقد تبين للحكومة أن نتائج تحرير أسعار المحروقات لم تخدم الغايات التي كانت تسعى إلى تحقيقها، ومنها خلق شروط المنافسة بين الفاعلين الاقتصاديين في المجال بما ينعكس على أسعار توزيع هذه المحروقات.

وبالمقابل عرفت أسعار المحروقات ارتفاعا في السوق الداخلية رغم انخفاض قيمة البترول في السوق العالمية وهو ما يسائل طبيعة الفاعل الاقتصادي بالمغرب سواء كان مغربيا أو أجنبيا، ومدى ارتباطه بعنصر الربح كأساس رئيسي لنشاطه التجاري كيفما كانت الوسائل والطرق المنتهجة.

أي أن انخفاض أسعار البترول دوليا لم ينعكس على أسعار المحروقات في السوق الداخلية، وهو ما طرح إشكالية جدوى سياسة الدولة في تحرير الأسعار؟ ومدى انعكاسها على القدرة الشرائية للمواطنين (انخفاض الأسعار)؟ إلى جانب التكلفة الاجتماعية لنتائج التحرير.

وأمام استمرار ارتفاع أسعار المحروقات بالسوق الداخلية رغم انخفاض سعر البترول الخام عالميا وصلت تقريبا لنسبة 50 %، وضع الحكومة أمام مأزق سياسي قد ينعكس سلبا على الكتلة الناخبة، مما سيؤثر على القاعدة الانتخابية للحزب المسير للحكومة بمناسبة الانتخابات التشريعية المقبلة، جعل الحكومة تبحث عن حلول ترقيعية مثل ما يقال عن التسقيف لا تقدم ولا تؤخر في الموضوع الأصلي وهو القرارات الخطيرة التي اتخذتها في تحرير الاستيراد والتوزيع والتخزين.

 

 

إن السياسات الليبرالية المتوحشة التي اتخذتها الحكومة المغربية كنهج اقتصادي، لن يساهم في حماية الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لعموم المغاربة، وإنما يخدم الفئات المتحكمة اقتصاديا بما يزيدها غنا مقابل إفقار باقي المواطنين، وهو أمر لا يمكن معالجته سياسيا إلا بإعادة النظر في طبيعة السياسة الاقتصادية للدولة المغربية ببناء اقتصاد وطني دعامته الأساسية بناء الإنسان اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، بناء يتجه نحو إقرار دولة الحق والقانون تضمن للمواطن المغربي جميع حقوقه المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى جانب الحق في بيئة سليمة وتنمية حقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى