أزمة التعليم بالمغرب: أفكار حول الأسباب والمخارج
قيلش عبد اللطيف (مسؤول نقابي – باحث في القانون العام والعلوم السياسية)
شكل موضوع التعليم موضوعا مركزيا في الحياة المجتمعية فكريا وسياسيا واجتماعيا، لذلك كان في قلب التجاذبات والصراعات السياسية لأنه يعكس طبيعة المشروع المجتمعي الذي يحمله كل طرف. فالموقف من التعليم والموقع الذي يحتله كل طرف في القضايا الفرعية المرتبطة بالموضوع المركزي جوهره، هو جواب عن سؤال: أي مجتمع نريد؟ وأي إنسان نريد؟ لذلك اعتبر الأستاذ عبد الله العروي أنه: “لا يوجد مفكر كبير تطرق للسياسة وأهمل التربية”[1].
فلا غرابة أن تحظى قضية التربية باهتمام كبير من طرف فلاسفة الأنوار، باعتبار أن النموذج التربوي يسعى إلى تحرير الإنسان من كل أشكال القيود والجهل بهدف حرية الفكر وتحرير العقل الإنساني.
وإذا كان الجميع يقر اليوم بوجود أزمة في النظام التعليمي المغربي، فما هي طبيعتها؟ ومن المسؤول عن هذه الأزمة؟
لم يعد هناك شك أن التعليم رهان استراتيجي في التنمية والتقدم، فالتجارب الدولية التي أحدثت النقلة النوعية وأنجزت نهضتها، كان سبيلها هو الاستثمار في الرأسمال البشري عن طريق التربية والتعليم. إن تقرير اليونيسكو حول “رصد التعليم لسنة 2015” ربط في خلاصاته التركيبة اعتمادا على قراءة تجارب متعددة، بين التعليم والفقر، وبين التعليم والنمو، وبين التعليم والتنمية، وبين التعليم والتقدم، وبين التعليم والمساواة، وبين التعليم والديمقراطية، وبين التعليم والإصلاح الزراعي…
*
الدولة وأزمة التعليم بالمغرب:
إذا كان من البديهي طرح سؤال عن طبيعة الأزمة، فالسؤال الجوهري: لماذا كان مآل مخططات الإصلاح الفشل والإخفاق؟ لماذا لم ترق المدرسة المغربية إلى الحد الأدنى المتعارف عليه دوليا فيما يخص جودة التعلمات؟ بل إن المؤشرات الحالية حسب إحدى تقارير البنك الدولي تستبعد الحديث عن الإصلاح في المغرب قبل 50 سنة.
إن الربط بين التعليم والسياسة أو بالأحرى الربط مع النظام السياسي لا مفر منها، ف”جون جاك روسو” اعتبر أن التربية وسيلة سياسية، واعتبر السياسة ذاتها شكلا من أشكال التربية”[2].
إن القراءة التاريخية لتعاطي الدولة مع موضوع التعليم تقود إلى اعتبار أن الدولة ظلت أسيرة منطقين:
منطق ضبطي/أمني: تتمثل تجلياته في إلغاء مادة الفلسفة وإلغاء معهد السوسيولوجيا القروية وعسكرة الجامعة وإغراق المضامين بالفكر التقليدي المعادي للعقل والعلم والمعرفة.
منطق التوازن المالي: ينبني هذا المنطق على تغييب البعد الاجتماعي وتغييب المنظور التنموي المتمركز حول الإنسان، فالدولة اعتبرت أن قطاع التعليم قطاع مستهلك وغير منتج، ويثقل كاهل الميزانية.
في هذا الإطار جاء برنامج التقويم الهيكلي (PAS)سنة 1983 ليجسد تخلي الدولة عن أدوارها الاجتماعية لفائدة تحرير السوق والخدمات وسن سياسة التقشف تنفيذا لتوصيات المؤسسات المالية الدولية، وهي التوصيات التي نظر لها الاقتصادي “فريدمان” وكانت ترجمتها في ما عرف ببرنامج “تاشر- ريغان”.
فما هي نتيجة هذه السياسية؟
لابد هنا من استحضار تقرير البنك الدولي لسنة 1995 الذي دق ناقوس الخطر، وترتب عنه خطاب “السكتة القلبية”، وهو ما يدل على أن أزمة المنظومة ازدادت استفحالا.
في هذا الإطار انطلق النقاش الوطني، وتشكلت اللجنة التي صاغت “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” ثم جاء البرنامج الاستعجالي (2009-2012)، باعتبار أن أهداف الميثاق لم تتحقق، ولابد من إعطاء نفس للإصلاح، كما جاء في الخطاب الرسمي.
فمع صدور كل تقرير سواء وطني أو دولي إلا وكان يقف على اختلالات المنظومة ويرتبها في ذيل الترتيب.
في هذا الإطار سينكب المجلس الأعلى للتربية والتعليم على الموضوع، والذي توج بصياغة وثيقة الرؤية الإستراتيجية (2015-2030)، وما تفرع عنها من قانون الإطار المعروض على البرلمان، ووثيقة الارتقاء بمهن التربية والتكوين.
* مرتكزات ومضامين هذه الوثائق:
دون الخوض في تفاصيل هذه الوثائق، فالوقوف على ثلاث قضايا يكشف عن تصور الدولة لموضوع التعليم، ويجيب عن سؤال إلى أين يسير التعليم بالمغرب؟
أ- تنويع الوضعيات النظامية:وهو ما فتح المجال أمام التوظيف بالتعاقد في إطار ما سمي بالأنظمة الأساسية لأطر الأكاديميات، وهو ما يشكل إدخال الهشاشة لقطاع التربية والتعليم من خلال ضرب مكتسبات وحقوق هيئة التدريس والمس بالاستقرار الاجتماعي والمادي والنفسي. إن عدد المتعاقدين الذي سيصل إلى 70000، يبين أن هذا الاختيار سيعيد صياغة مفهوم جديد للمدرسة والمدرسين وإعادة قلب قاعدة هيئة التدريس وتفكيك الحركة النقابية بهدف إضعافها وعزلها.
ب- التمويل: يتم التأكيد على تنويع مصادر التمويل في إطار التضامن الوطني، وإقحام الأسر في ذلك، والموضوع الخفي هنا الذي يتم الالتواء عليه هو ضرب المجانية.
فبالوقوف على التقرير التحليلي للمجلس الأعلى الصادر بتاريخ 14 دجنبر 2014، يتبين أن مبرر التمويل ما هو إلا ذريعة وأسطورة على حد تعبير الاقتصادي الأستاذ نور الدين العوفي، للأسباب التالية:
- فكلفة خسارة الهدر المدرسي 10%من ميزانية التسيير الإجمالي.
- كلفة التربية غير النظامية أكثر من 5.1 مليون درهم.
- الخسائر على مستوى الموارد المالية بلغت أكثر من ملياران و461 درهم سنة 2011، وأكثر من ثلاثة ملايير و415 مليون درهم سنة 2015، وأزيد من مليارين و448 مليون درهم سنة 2009، وهي خسائر تتعلق بالانقطاع الدراسي في فترة التعليم الإجباري.
ج– الشراكة عام / خاص (P.P.P)أو المدرسة الشريك.
يتعلق الأمر هنا بفتح المجال للقطاع الخاص في إطار الشراكة، وهو شكل من أشكال التفويت وتدمير التعليم العمومي بهدف شرعنة خوصصة هذه الخدمة العمومية وتسليعها la marchandisation de l’éducation، هناك وثيقة للأممية التعليمية (IE)، تشكل قراءة نقدية للبلدان التي كانت مختبرا لتجربة الشراكة عام/خاص (المثال البارز الشيلي). خلاصة هذه الوثيقة هي:
- يرتبط منطلق هذا الأسلوب بتخفيض التكلفة المالية للتعليم، أي أن هذا المنطلق لا علاقة له بموضوع الإصلاح ولا بجودة التعلمات ولا بضمان الحق الإنساني في التربية والتعليم.
- يتعلق الأمر بالتوجه نحو خوصصة التربية وتسليعها.
- أحدث هذا الأسلوب تغييرا جوهريا في وظيفة المدرسة وفي مهام وأدوار المدرسين، بما يتلاءم مع منطق ومتطلبات السوق بهدف الربح والمنافسة.
- انعكس هذا الأسلوب بشكل سلبي على الأوضاع الاجتماعية للمدرسات والمدرسين (الأجور- الترقي – التقاعد…).
- كرس اللامساواة واللاتكافؤ في الفرص والنخبوية والطبقية وعمق الفوارق الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، فالقطاع الخاص لا يمكن أن يشكل نموذجا، انطلاقا من الفرق الشاسع بين صناعة الإنسان وصناعة الآلة، زيادة على ظاهرة التهرب الضريبي المتفشية في وسط القطاع الخاص (عبء الضريبة على الدخل لا تتحمله إلا 2%من المقاولات حسب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول النظام الضريبي بالمغرب لسنة 2012).
* بعض مظاهر أزمة النظام التعليمي:
بعد 13 سنة من صياغة الميثاق الوطني للتربية والتكوين أي من 2000 إلى 2013، هناك 3 مليون من التلاميذ الذين غادروا المدرسة دون الوصول إلى السنة الأخيرة من الإعدادي، نصفهم لم يصلوا إلى نهاية الابتدائي.
في تقارير (TIMSSو PIRLS) لسنة 2011 حول مكتسبات التلاميذ في الرياضيات والقراءة تدور نقط Le scoreحول 300 وهي أقل من المعدل العالمي الذي يصل إلى 500. إن أكثر من 250000 تلميذ يغادرون المدرسة سنويا.
كما كشف التقرير العالمي لرصد التعليم لسنة 2016 الصادر عن “اليونيسكو” عن مجموعة من الفوارق تتعلق بما هو مجالي، فالفرق في سنوات التعليم الذي قضاها الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 20 و24 عام بحسب الوضعية الاجتماعية في الفترة ما بين 2008 و2014 يصل إلى 6 سنوات من التعليم، حيث يقضي الشباب الأكثر فقرا 4 سنوات فقط في صفوف الدراسة، وتزيد هذه النسبة لدى شباب الفئات المتوسطة إلى 7 سنوات، في حين يقضي شباب الفئات الغنية معدل 10 سنوات في صفوف الدراسة.
مما يبين أن الفوارق الاجتماعية والمجالية تعكس غياب العدالة في شقها الاجتماعي والمجالي، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه Pièrre Bourdieu وJean claude Passeronفي كتابهما Les héritiersبأن الرأسمال الثقافي له علاقة بالاجتماعي وباللغة وبالثقافة وبالرؤية للعالم، فالرأسمال المادي والرمزي يمنح إمكانية النجاح بالنسبة للأطفال من أصول اجتماعية مريحة، باعتبار أن الشروط الاجتماعية للأسر والمستوى التعليمي وطبيعة المهن تشكل عناصر مؤسسة للرأسمال الثقافي[3].
* مقترحات للتفكير:
- قضية التعليم قضية مركزية وإستراتيجية لا تعالج بالمنطق الظرفي ومنطق التجزيئ والفصل عن باقي القضايا.
- إصلاح التعليم في قلب الإصلاح الشامل، الدستوري والسياسي والمؤسساتي، وبالتالي فموضوع التعليم في قلب التغيير الديمقراطي.
- إن قضية التعليم ليست قضية الحركة النقابية فقط، فهي قضية مجتمعية، وعلى اليسار أن يجعل من القضية الاجتماعية انشغالا مركزيا وفي صلبها قضية التعليم.
- مد الجسور مع مختلف التنظيمات الديمقراطية النقابية والحقوقية والمدنية من أجل شعار: “مسؤولية الدولة في ضمان الحق في تعليم عمومي مجاني جيد للجميع وفي مختلف الأسلاك.
- إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية في التعليم المدرسي والجامعي، وربط التعليم بالمسألة الثقافية وربط المدرسة والجامعة بوظيفتهما العلمية والمعرفية والإشعاعية والحضارية، وجعل العقل مركز الفكر والتفكير.
- إن التحولات السريعة في العالم وآثارها على مختلف المجالات بما فيها مجال التربية والتعليم، تفرض أن يكون الإصلاح في قلب مجتمع المعرفة.
- ربط التعليم بالمنظومة الحقوقية الكونية لإشاعة ثقافة الاختلاف والتسامح والتعدد.
- ربط التعليم بعلم الجمال ومختلف أجناس الإبداع (سينما – مسرح – شعر – موسيقى…).
- الرهان التنموي يستوجب الاستثمار في الرأسمال البشري، ومن ثم يكون الإنسان مركزا للتنمية والتقدم.
- التعليم العمومي المجاني كرهان استراتيجي على قاعدة المساواة وتكافؤ الفرص.
- لا يستقيم أي إصلاح للتعليم مع بنية الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي والتفاوتات الاجتماعية والمجالية، لذلك فإنه في قلب العدالة الاجتماعية والمجالية.
إصلاح التعليم هو في قلب النضال من أجل الدولة الديمقراطية الاجتماعية.
[3]–RAHMA BOURQUIA, penser l’école, penser la société, réflexions sociologiques sur l’éducation au Maroc.