أضواء: المدرسة العمومية ومجاينة التعليم
إن حديثنا اليوم عن مجانية التعليم ليس وليد اللحظة وليس رد فعل تجاه هذا القرار أو ذاك، بل هو استحضار لمواقفنا الثابتة من قضية التعليم ببلادنا منذ السنوات الأولى للاستقلال الشكلي إلى اليوم، مواقفنا إذن كانت وما تزال واضحة في هذا الموضوع، والجميع يعرفها، فقد أكدنا أكثر من مرة على أن السياسة التعليمية المنتهجة ببلادنا، هي سياسة كرست وتكرس كل تمظهرات التمايز الطبقي في مجال التعليم، بصورة يراد منها أن تخدم مصالح فئات محدودة من أجل الحفاظ على موازين القوى الطبقية السائدة في المجتمع، وحتى «الاختراق الطبقي» الذي تحقق، في سياق سياسة تعميم التعليم، من طرف بنات وأبناء فئات وطبقات اجتماعية مهمشة أصلا في السلم الاجتماعي وفي المجال الجغرافي، بقي اختراقا مراقبا بأكثر من وسيلة لعل أبرزها التكاثر الأخطبوطي والفوضوي لمؤسسات التعليم الخصوصي – بما في ذلك إنشاء الجامعات الخصوصية – وهو ما يشكل وجها من أوجه هذه المراقبة لمنافذ وحظوظ الاستفادة من خدمات التعليم بلادنا.
وإذا كان المدرسة العمومية، كمكسب تاريخي للمجتمع المغربي، تتعرض اليوم لأكثر من هجمة شرسة من أجل تقويضها وإفراغها من محتواها الثقافي والتربوي والإنساني، فإن ضرب مجانية التعليم يعتبر أحد أهم معاول هذا التقويض المستهدف.
إن اللحظة تستوجب من أن نواجه مجموعة من المغالطات بهذا الشأن، فهناك من يذهب إلى أن الحديث عن المجانية لا يقصد منه سوى إدماج الأسر الميسورة في تمويل التعليم، وهذه مغالطة من وجهين:
- أولا، لأن أبناء الأسر الميسورة لا يوجدون أصلا بالمدرسة العمومية، بل حتى الأسر المتوسطة الدخل وجدت نفسها في نفق مسدود أمام « التردي « المفترض لأداء المدرسة العمومية فراهنت هي أيضا على «جودة « مفترضة في المؤسسات الخصوصية. ومن هنا ضرورة الفصل بين مبدأ مجانية التعليم من جهة، والتفكير في تمويل التعليم من جهة ثانية، فلكل منهما سياقه وحيثياته.
- ثانيا، إن مجانية التعليم، في كل تجارب الشعوب، لا تستند في أصلها على التمييز الاقتصادي والاجتماعي بين أفراد المجتمع، بقدر ما هي تعبير عن خدمة من واجب الدولة تقديمها للمواطنين في إطار متطلبات العدالة الاجتماعية.
الحديث عن مجانية التعليم إذن ليست قضية تربوية أو تعليمية، بل هي في العمق قضية اجتماعية بامتياز، لذلك ليس غريبا أن تأتي إرادة ضرب المجانية في سياق ضرب شمولي لخدمات القطاع العام والنفخ المتوحش في بنيات القطاع الخاص في قطاعات مختلفة وفي مقدمتها قطاعا الصحة والتعليم.
إن الصراع حول المجانية في المغرب ليس مجرد اختلاف منهجي في وجهات النظر حول قضية التمويل من عدمه.. المسألة أبعد من ذلك…إنه صراع بين قوى تريد جعل المدرسة مجرد أداة لإعادة إنتاج واقع الاستغلال والسيطرة الطبقية لطبقات ونخب، هي وحدها التي تستفيد من خيرات الوطن، وفي المقابل قوى أخرى تريد جعل المدرسة أداة للتنوير وإشاعة منظومة من القيم ذات أبعاد إنسانية نبيلة وراقية. وبالتالي فالدفاع عن المدرسة العمومية من بوابة مجانية التعليم، جزء لا يتجزأ من النضال التحرري العام، من أجل تحقيق الكرامة والمساواة والعدل، ذلك أن مجانية التعليم تحيل بقوة على مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المواطنات والمواطنين أي في النهاية على مبدأ ومطلب العدالة الاجتماعية. وعندما تضمن الدولة مجانية التعليم فلا ينبغي أن ينظر إلى ذلك باعتباره هبة منها على مواطنيها، بل هو واجب عليها، والتزام الدولة بهذا الواجب هو الذي يمنحها شرعية أن تمتلك سلطة تدبير شؤون المواطنات والمواطنين.
التأكيد إذن على مجانية التعليم يعني في عمقه الحق في التعليم، وهو ما يعني أنه لا يمكن أن نتحدث عن مجانية حقيقية إلا في سياق دمقرطة شاملة لاستفادة أبناء وبنات الشعب المغربي من خدمات التعليم باعتبارها خدمة عمومية لا أحد يملك الحق في الحد منها أو إلغائها.