البوكر : أين الموهبة ؟
أعلنت لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، عن قائمتها القصيرة لهذه السنة. وقد تضمنت هذه القائمة رواية ” بأي ذنب رحلت ” لصاحبها المغربي محمد المعزوز؛ وسيتفاجأ كل من قرأ هذه الرواية بمرورها إلى القائمة القصيرة، لأنها رواية تفتقد الحبكة الروائية المحكمة، وشخصياتها تفتقر إلى خصائص ومواصفات الشخصية الروائية، لأن بناء هذه الشخصيات لم يكن موفقا، وفيه كثير من الافتعال والتعصب اللذين يجعلانها تفقد كثيرا من نسغ الحياة، كما تتكلم لغة واحدة، حتى وإن اختلفت خلفياتها، وهو ما يجعلها تفقد كثيرا من المصداقية حين تتحدث وتتحاور. وهي في الحقيقة تذكر القارئ بأبطال الميلودراما الهندية الرديئة، حيث يلتقي الأب وابنته التي ظل يبحث عنها منذ فقدها، ولا يعلمان برابط القرابة البيولوجية التي تجمعهما، ويحدث بينهما انجذاب غير مفهوم تماما كما يحصل في الأفلام الهندية.
تحاول الرواية أن تعزف على موضوع انهيار القيم، وتفشي الانتهازية وسط النخبة، ولهاتها وراء المواقع والمناصب، ولكنها تفشل في وضع هذه التيمة ضمن بنية روائية محكمة، حيث كان البناء السردي ضحية صياغة لغوية، غلبت عليها كثرة الاستعارات إلى حد التضخم، استعارات ممجوجة وفقيرة يغلب عليها التكلف و تنعدم فيها لمسة الموهبة، وتحضر في منطوق كل الشخصيات الروائية، مما جعل الرواية تفقد خاصية التشويق والامتاع وتصيب قارئها بالملل الشديد.
حاول الكاتب أن يطبع روايته بطابع فلسفي، ولكن هيهات فالإبداع الفلسفي ضمن الصياغة الروائية، لا يتأتى لمن لا يساوره قلق وجودي، ولمن تغلب على سيرته عدد المناصب الإدارية التي تولاها بدل عدد الأبحاث الفلسفية الرصينة التي تنم عن انشغال جدي بالفلسفة وقضاياها. ولذلك كانت الحوارات التي أريد لها أن تكون فلسفية بعيدة تماما عن الفلسفة لأنها كانت سطحية ومصطنعة، وأغرقها القالب الاستعاري المتضخم والمفتعل الذي صيغت فيه، في السطحية والابتدال.
إن التكلف هو السمة البارزة في هذا العمل “الروائي”. وكم هو غير مستساغ ذلك المشهد الذي يعلم فيه عبد الله الفيلسوف ، أحد شخصيات الرواية بموت أحد المشردين في زاوية من الشارع الذي يقطن فيه، والذي يتبين له بعد ذلك أنه أحد رفاقه القدامى، في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. لقد أراد الكاتب تكثيف حضور البعد الدرامي في الرواية، ولكنه لم ينجح في ذلك، لأنه لم يضع الشخصية ضمن مسار روائي يبرر نهايتها المأساوية. وجاء ذكر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ليلمح إلى ارتباط ما بالحقل اليساري، إذ بدا أن الكاتب لم تكن له علاقة به حتى وإن حاول الإيحاء بها إلى المتلقي من خلال كثرة التباكي على مصير البلاد ومآل النخب وانحسار القيم وخيبة الآمال والتطلعات.
.حتى اسم البطلة الرئيسية لم يخل من الافتعال والتصنع، ذلك أن اسم راحيل الذي تحمله البطلة يفتقر إلى خاصية الإيهام بالواقع،الذي يجعل العمل الروائي ينجح في أن يكون شهادة إبداعية عن مرحلة متولدة عن انهمام حقيقي وصميمي بقضاياها، وانحياز وجداني وفكري لهذه القضايا. و لا يمكن لكاتب أن يكون منحازا لقضايا الديمقراطية والعدالة والكرامة وهو يتموقع سياسيا في الجهة المناهضة لهذه القيم من خلال الانتماء إلى حزب يميني يدعم الاستبداد ويكرس نفسه، كواجهة سياسية له. بل أكثر من ذلك فالكاتب معروف عنه أنه حاضر وأنتج خطابات تتمسح بمفاهيم علم الاجتماع لتنظر لاحتكار السلطة والثروة تحت يافطة الأنثروبولوجيا السياسية.
لقد سبق للكاتب أن فازت روايته ” رفيف الفصول ” بجائزة المغرب للكتاب، ونتذكر الضجة التي أحدتها ذلك الفوز، حيث طعن فيه كثير من النقاد، وشككوا في مصداقية لجنة التحكيم، وتساءلوا عن الدوافع الحقيقة التي كانت وراء تمكينه من ذلك الفوز.
واليوم، يبدو ان لجنة تحكيم جائزة البوكر لهذه السنة تعاني من خلل ما، لعله خلل قلة المراس بالأعمال الروائية على الصعيدين العالمي والعربي، إذ من المعروف أن الجوائز تبقى قيمتها ، مع ذلك، نسبية إلى حد بعيد، خاصة إذا أبانت عن تحيز أو عن اختيار غير موفق يسائل كفاءة ومصداقية أعضاء لجنها ويضع قيمة الجائزة موضع تساؤل.
والخلاصة أن هذه الرواية رديئة حتى وهي تمر إلى القائمة القصيرة، بل حتى ولو فازت بالجائزة في هذه الدورة. إنها رواية لا يمكن أن تقارن مثلا بالرواية الرائعة ليوسف فاضل ” طائر أزرق يطير معي ” التي سبق لها أن مرت إلى القائمة القصيرة لهذه الجائزة في دورة سابقة؛ أو برواية محمد الأشعري” القوس والفراشة” التي سبق لها التتويج بهذه الجائزة.
والواقع أنه في المجال الإبداعي ليس مهما الحظ مع الجوائز، ولكن المهم والأهم هو الحظ مع الموهبة. فالجوائز مهما كان بريقها لا يمكن أن ترفع من قيمة عمل روائي يفتقد إلى الحد الأدنى من مواصفات الإبداع الحقيقي.