كافكا الكلمة الأخيرة
قراءة وعرض: عبد الكريم وشاشا
لقد حاول كافكا تدمير أعماله، كي يتحول بعدها – وهذا ما حصل فعلا – إلى إحدى الألغاز أو الأحجيات العويصة في تاريخ الأدب، فجل كتاباته متقطعة وغير مكتملة ولم تطبع إلا بعد غيابه، وعند صدورها عرفت ولا زالت تعرف إلى حدود الساعة انتشارا كبيرا وبجميع اللغات ومجدا أدبيا تليدا وخالدا ..
كافكا اللغز
خصص الكاتب والناقد والفيلسوف الفرنسي موريس بلانشو (Maurice Blanchot) كتابا لقراءة أعمال وسبر أغوار حياة الكاتب التشيكي / الألماني فرانز كافكا (1883 – 1924) إحدى القامات الأدبية العالمية وأكثرها جدلا وفرادة وعتمة، بعنوان دال : من كافكا إلى كافكا ..
وقد حاول الكتاب أن يتناول أهم جوانب هذه الحياة الزاخرة بصراعاتها النفسية والاجتماعية وبهواجسها الأدبية، والدينية أيضا، انتصارا للكتابة، وفي سبيلها فقط، رغم قصرها وحجم الفجيعة والألم والقلق الذي يكتنفها وأن يحاول قدر الإمكان أن يشفي غليل القراء وأن يسلط الأضواء الكاشفة على العديد من العلاقات، خاصة تلك التي أدمته وعذبته وهي كثيرة مثل علاقته مع والده وتربيته اليهودية الصارمة وعلاقاته المتأرجحة إلى حدود المرض والهذيان مع النساء اللواتي أحبهن، وهناك أيضا الأهم علاقته الوجودية والمصيرية مع الأدب والكتابة وروابطه المتينة مع صديق عمره وناشر أعماله ماكس برود.
لقد حاول كافكا تدمير أعماله، كي يتحول بعدها – وهذا ما حصل فعلا – إلى إحدى الألغاز أو الأحجيات العويصة في تاريخ الأدب، فجل كتاباته متقطعة وغير مكتملة ولم تطبع إلا بعد غيابه، وعند صدورها عرفت ولا زالت تعرف إلى حدود الساعة انتشارا كبيرا وبجميع اللغات ومجدا أدبيا تليدا وخالدا .. وعرفت هذه الأعمال (خاصة رواية القصر(le château) – المحاكمة le Procès– التحول أو المسخ Métamorphose..) قراءات وتأويلات كثيرة ومتباينة محملة أكثر من اللازم وبعضها خارج قارة الأدب (extra – littéraire) ومما زاد في هذا الغموض العام المذكرات (Le Journal) أو اليوميات التي تركها فرانز كافكا والتي يتحدث فيها أحيانا عن كتاباته بأسلوب هو أيضا مبهم ورمادي لا يقترب أبدا من المعنى وكشف المغزى الذي يتوسله من خلال قصصه وأبطالها.. لكن توظيفه للمجاز والرمز والأسطورة أحدث تطورات مذهلة في هذه الكتابات ومدها بطاقات رمزية وتعبيرية خلاقة مفتوحة المدى، بدورها وبغرابة كافكاوية فإن هذه الأعمال الروائية ليست كغيرها من الأعمال الأدبية المألوفة الأخرى لا تحيل أو تصرح بأي شيء عن حياة الكاتب، فالعالم الروائي لكافكا بكل عناصره الفكرية كما يسجل موريس بلانشو تشبه سباحة مراوغة ومنفية بين عالمين، والقراءة الدالة أشبه بالمهمة المستحيلة….
كافكا في مرآة النقاد
لذلك نرى النقاد أنفسهم لم يختلفوا أيما اختلاف في إطلاق مفاهيم عامة تقريبا: العبث أو العدمية، العزلة القاتلة..الاحتمالية والمجازفة.. التوتر اللائب والقلق السوداوي، السعي الحثيث للحصول على مكان في هذا العالم.. عدم القدرة على الالتزام، الرغبة في وجود الإله، غياب الإله، اليأس..لكن في المقابل من هو هذا ال « كافكا « لهؤلاء النقاد؛ بالنسبة للبعض فكافكا مفكر ديني يعتقد بالمطلق، يهودي يعبر عن التيه والشتات والمنفى ويحلم بالعودة إلى أرض الميعاد، – وهذا ما أسر به مرارا كافكا جانبيا لصديقه ماكس برود في لحظات الضيق عن رغبته في السفر إلى فلسطين – وعند البعض الآخر إنساني يسعى إلى النظام خوفا من الفوضى التي ستجتاح العالم ..وعند آخرون كافكا وجد مصدره الرئيسي في الإلحاد، لا، بل هو يؤمن بالعالم الآخر، لكن هذا العالم يستحيل العبور إليه لأن الشر ربما يستوطنه أو أنه عبثي وعدمي. كافكا إنسان مصاب بمرض غريب ونراه هنا يلتهم نفسه… الى غير ذلك من الأحكام. ولقد حاول البعض الاستعانة بيومياته لرسم بورتريه لهذا الكافكا المستحيل: يوميات كافكا هي يوميات رجل مريض ينشد الشفاء، ويرغب في الصحة والعافية..(Klossowski)
هذه الانتقادات كلها بالنسبة لموريس بلانشو تعكس التوتر والانزعاج لقراءات تريد أن تحافظ على العقدة وعلى الحل في الوقت نفسه، على سوء الفهم وعلى التعبير عن سوء الفهم هذا.. عن إمكانية القراءة في استحالة تأويل هذه القراءة..
فالحكايات الرئيسية للكاتب هي شظايا وأجزاء، ومجموع أعماله هي جزء مجزأ، هذا النقص أو بالأحرى هذا الفقدان يفسر لنا حالة انعدام اليقين هذه، وهو ليس حادثة طارئة بل هو بنيوي مندمج.. حيث يستمر هذا السرد في كامل العنفوان والامتلاء ثم يتوقف فجأة كأنه لا يوجد أي شيء آخر يمكن سرده أو قوله.
فأعمال كافكا هي بحث دائم عن الإثبات من خلال النفي.. وعن الحياة بالموت والفرح بالكرب والأمل باليأس .. حكايات كافكا في المدونة الكبرى للرواية والأدب هي الأكثر سوادا وفجيعة وهي تجهز وتقضي على الأمل قضاء مبرما تراجيديا ..
فجوزيف ك تم الحكم عليه بالموت بعد محاكمة ساخرة ( باروديا ) وسيتم تنفيذ حكم الإعدام هذا في إحدى المحاجر القديمة المهجورة حيث سيتولى شخصان (بدون هوية محددة على غرار كل شخوص روايات كافكا) بتنفيذ حكم الإعدام بحد السكين وفي القلب .. فليس كافيا له أن يموت « مثل كلب حقير « فقط بذنب لا يعرفه ولم يرتكبه.. ولكن أن «يعيش» ليخلد العار والخزي الذي لحق بالبشرية.