انتفاضة 23 مارس: الخلفيات والوقائع
◆ رزين يوسف
في الأسبوع القادم تحل الذكرى الرابعة والخمسين لانتفاضة الدار البيضاء، وقد اطلعت على عدة مقالات في المواقع الالكترونية وفي بعض النصوص المنشورة في الجرائد والكتب، واستعنت ببعض المعلومات من كل ما اطلعت عليه؛ إلا أنه مع ذلك كانت الصورة ما تزال تحتاج إلى توضيح وتدقيق، خصوصا وأن منشور وزير التربية والتعليم يوسف بلعباس الذي أشعل النيران لم ينشر رسميا ( نشرته صحيفة لوبنيون فيما بعد في 30 مارس 1965)، وقد تضاربت حوله الآراء، لذا كان لابد من البحث عن من عايش هذه الفترة بتفاصيلها، ليس فقط من شارك في الاضراب بل من كان يتحمل المسؤولية في اللجنة الإقليمية لوداديات التلاميذ بالدار البيضاء.
كان لتوقيع معاهدة الحماية سنة 1912 رد فعل وطني واجه المغاربة من خلاله المستعمر بكل ما أتيح لهم من قوة، سواء عبر عمليات مسلحة أو عبر مظاهرات سلمية، والتي استمرت إلى حين الإعلان عن الاستقلال سنة 1956.
لكن وبعد جلاء المستعمر على المغرب، اتضح ان الاستقلال المحصل عليه لم يكن تاما بقدر ما كان يدشن لمرحلة جديدة قائمة على التبعية لفرنسا. هذا الوضع واجهته الأحزاب الوطنية بالرفض، وخاصة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي نادى بضرورة تطهير الإدارة المغربية من بقايا عملاء الحماية. بعد اعتقالات 1963 تم حظر النشاط العلني للحزب، لكن الكثير من منظماته الموازية كانت تشتغل، وخاصة الشبيبة التي كان لها حضور هام جدا في وداديات التلاميذ، فبالرغم من أنها كانت محظورة بظهير 21 يونيو 1963 حيث منع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب من تنظيم تلاميذ الثانويات، إلا أنهم ظلوا متشبثين بالوداديات، وكانت الاجتماعات تتم بصفة سرية، وهيأت قيام انتفاضة الدار البيضاء التي بدت في ملامحها ردا على قرار وزاري، لكنها كانت في عمقها تعبر عن السخط المعتمل داخل الأوساط الشعبية.
العوامل التاريخية :
1) العامل الديموغرافي :
بعد دخول القوات الفرنسية إلى المغرب، استولى المستوطنون الفرنسيون على أراضي القبائل و تحول القرويون أصحاب هذه الأراضي إلى مجرد عمال فيها. بعد الاستقلال كان الأمل معقودا لدى هؤلاء القرويين على استعادة أراضيهم، لكن حدث العكس حيث استولت عليها الطبقة الحاكمة، إذ أن % 5 من الملاك استولوا على % 60 من الأراضي الأكثر خصبا الشيء الذي جعل القرويين بعد ذلك يضطرون للهجرة إلى المدن وخاصة الدار البيضاء، والتكدس في أحياء الصفيح، فارتفعت نسبة سكان الحواضر من % 5 في بداية القرن العشرين إلى %30 سنة 1965، مما جعل الأوضاع على المستوى الديموغرافي مهيأة للانفجار في أية لحظة.
2) العامل الاجتماعي :
دفعت الأوضاع الاقتصادية العسيرة إلى بذل الأسر المغربية كل جهدها لتعليم أبنائها معتمدة على المدارس العمومية والمدارس الحرة العصرية للحصول على شهادة تعليمية أملا في الصعود إلى مرتبة اجتماعية أعلى. إلا أن المجهودات التي بذلت من طرف الدولة لم تكن كافية، فقد بلغ عدد الملتحقين بالتعليم كل سنة 300 ألف تلميذ، مما ولد ضغطا كبيرا على المدارس خاصة في المدن الكبرى كالدار البيضاء التي بلغ عدد سكانها سنة 1965م 965 ألف نسمة. ورغم أن شق التعليم في المخطط الخماسي لحكومة عبد الله إبراهيم كان ينص على إجبارية التعليم، إلا أن الحكومة عملت بعد الإقالة على إجهاض كل ما جاء به المخطط، لكن الوداديات مع المنظمة الطلابية من 1960 حتى 1964 أرغمت الوزارة على إصدار قرار بالاجبارية في 1963.
العامل الاقتصادي :
عملت الحكومة على إفشال الخطة الخمسية الأولى التي انطلقت سنة 1960، مما ادخل المغرب في الركود الاقتصادي الذي صاحبه فساد كبير من طرف كبار المسؤولين وأصحاب النفوذ، وجعله طاردا للاستثمارات. يضاف إلى ذلك نفقات حرب الرمال التي كبدت خزينة الدولة حوالي 3 مليون دولار وتراجع مخزون الاحتياطي النقدي بسبب إغلاق المنطقة الحرة بطنجة، والتي سحب على إثرها 175 مليار فرنك فرنسي .
هذه الظروف الاقتصادية مجتمعة جعلت مديونية المغرب تقفز من 70 مليار فرنك سنة 1960 إلى 165 مليار فرنك سنة 1964، وارتفعت الأسعار من سنة 1959 إلى سنة 1965 بنسبة % 50. وأمام هذا الوضع الاقتصادي الصعب وجدت الدولة نفسها عاجزة عن الاستمرار في سياسة التوظيف، حيث إن ميزانية 1965 ابتلعت نصف الدخل الوطني لصالح تسيير أجهزة الدولة، وعليه فقد قررت السلطات تعطيل الآلة المدرسية باعتبارها الرافد الأساسي لطلبات التوظيف.
العامل السياسي :
في بداية الستينات كان الصراع في المغرب على أشده مع الأحزاب الوطنية، وخاصة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي تلقى ضربات كثيرة وحملات قمعية أشدها في هذا الوقت كانت في 16 يوليوز 1963، حيث اقتحمت أجهزة البوليس مقر الحزب المركزي بالدار البيضاء واعتقلت أعضاءه المجتمعين وشنت حملة اعتقالات أخرى في جميع الأقاليم، وكانت الحصيلة اعتقال حوالي 5000 عضو وعضوة.
كما أن بداية سنة 1965 عرفت هجوما على حرية الرأي والتعبير وعلى الصحافة، إذ تم توقيف ناسيون أفريكان في 16 فبراير، وفي الغد تم توقيف الاستقلال وهما معا ناطقتان باسم حزب الاستقلال، وفي 12 مارس تم توقيف المكافح الوطني التي كان يديرها علي يعته. لكن المنظمة الطلابية والوداديات تعزز موقفهما بصدور» الطالب» لسان الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وبادر حزب الاستقلال بإصدار لوبنيون في 9 مارس. وذلك إثر النقاشات الواسعة التي عرفها البرلمان في آخر سنة 1964 ويناير 1965 حول الميزانية التي عرى فيها البرلمانيون الاتحاديون بالخصوص السياسة العامة للبلاد.
كرونولوجيا الأحداث :
في مراجعتنا لمن عايش عمق الأحداث وساير تطورها تبين أن :
- الوداديات في الدار البيضاء كانت قوية ولم يؤثر عليها المنع، إذ لها لجنة تنسيق من أغلب ثانويات الدار البيضاء تضم 15 عضوا وكان لها مجلس للتلاميذ يضم إثنين عن كل ثانوية بما يفوق 40 عضوا، وفي كل ثانوية كان هناك مجلس يضم عضوا واحد عن كل قسم يسمى عريف، ومجلس الدار البيضاء هو الذي ينتدب من يحضر مؤتمر المنظمة الطلابية بصفة ملاحظين.
- في 19 فبراير علق مديرو المدارس الثانوية بالدار البيضاء منشور الوزارة وهو يحمل تاريخ 9 فبراير وكان أول من علقه في السبورة الثانوية التي كان يديرها أنذاك المفكر عابد الجابري وتبعه الضمضومي مدير ثانوية عبد الكريم الحلو وبعد ذلك جميع الثانويات.
- لعب أساتذة الثانويات وكذا المديرون دورا كبيرا في شرح المنشور للوداديات وعموم التلاميذ، ومن هنا جاء غضب الملك الحسن الثاني بأن هاجم الأساتذة في خطابه بعد الأحداث وسماهم أشباه المثقفين.
- تعددت اجتماعات اللجنة منذ هذا التاريخ وكانت تتم بحديقة الأرميطاج خلف ثانوية الأزهر.
- في 25 فبراير تكلف 8 أعضاء من اللجنة بالاتصال بالاتحاد المغربي للشغل لإقناعه بطبع منشور للوداديات، بعد أن سمعت اللجنة بأنه ندد بالمنشور في اجتماعاته، وقد قبلت النقابة طبع مليون و500 ألف منشور.
- في 6 مارس تسلمت اللجنة المنشور وبدأت في توزيعه من 7 مارس حتى تاريخ 21 مارس بواسطة مجلس الدار البيضاء للوداديات ومجالس الثانويات .
- كان المنشور يحث على التظاهر يوم 22 مارس ضد قرار الوزير وعلى إسقاطه.
- مر يوم 22 مارس بشكل عادي، وعلى عكس ما قيل، لم تقع أي أحداث أو اعتقالات وكانت الاستجابة قوية وواسعة وكانت المظاهرات سلمية كما هي العادة ومرت في أجواء جد إيجابية.
- في صباح 23 مارس سجل التحاق الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد العام للشغالين بالتظاهر، وفي زوال نفس اليوم، أعطيت الأوامر بالتدخل، وبشكل همجي حيث ظهرت طائرة هيلوكوبتر عسكرية ببابها عسكريان إتنان يصوبان سلاحيهما على المتظاهرين بشكل عشوائي، يقال أن أوفقير كان أحدهما، وقد ظهر المشاة والسيارات العسكرية بعد الطائرة بحوالي ساعة، وكان الرصاص يلعلع طوال ذلك المساء وحتى ساعة متأخرة من الليل، في هذه الفترة حصل القتل وفي هذا اليوم والغد وقعت الاعتقالات ولكن تم الافراج عن كل المعتقلين بعد ثلاثة أيام، .
منشورالوزارة حرفيا :
« من الضروري ألا يتوجه إلى السنة الرابعة من الثانوي سوى التلاميذ القادرين على متابعة الدراسة في إحدى الشعب المتخصصة من السلك الثاني، وأنه لا يمكن أن يتوجه إلى السنة الرابعة من الثانوي التلاميذ المزدادون عام 1948 وتبلغ أعمارهم 18 سنة أو أكثر لولوج السلك الثاني من الثانوي والوصول إلى الباكالوريا«.
منشور اللجنة الإقليمية للوداديات :
كان المنشور يستهدف بالأساس تلاميذ المدارس الحرة العصرية لكونها تسجل التلاميذ الذين لم تجد لهم العائلات مقاعد دراسية في المدرسة العمومية الرسمية، لأن السن المقبول فيها هو 7 سنوات، لذا كان سن التلميذ فيها في قسم الثالثة ثانوي 15 سنة، والبعض منهم سيتضرر فقط في حالة لم ينجح في أمتحان البروفي، أما تلاميذ التعليم الحر فمنهم من يبلغ عمره بين 18 سنة و21 سنة لأن الإجبارية غير مطبقة ولأن المدارس العمومية تلفظ الأطفال، ونظرا لكون منشور الوزارة يخفي عددا من الحقائق المترتبة عن تطبيقه، فقد كان المنشور الموجه للعائلات واضحا ومباشرا وجاء في مضمونه :
إن أبناء الطبقات الشعبية سيطردون من الدراسة في الحالات التالية :
لا يكرر التلميذ في السنة الثالثة ثانوي إذا لم ينجح في شهادة البروفي وهو في 16 سنة أو أكثر.
يطرد من السنة الثانية ثانوي من بلغ 15 سنة أوأكثر.
يطرد من السنة الأولى ثانوي من بلغ 14 سنة أو أكثر.
يطرد من قسم الشهادة الابتدائية من بلغ 13 سنة أو أكثر.
ونزل المنشور بهذا الشكل حتى السنة التي يقبل فيها التسجيل بأن سجل على أن الطفل البالغ 8 سنوات أو أكثر غير مقبول في المدرسة.
في الأخير تمت الدعوة في المنشور للتظاهر في 22 مارس صباحا لإسقاط القرار، انطلاقا من ساحة السراغنة في اتجاه شارع الفداء ثم شارع 2 مارس الحالي إلى نيابة التعليم بشارع الزرقطوني.